يعرف المفكر الإيراني علي شريعتي (1933 – 1977) كأحد أبرز الرموز الفكرية الإسلامية للقرن الـ20، ويعد ملهم الثورة الإيرانية وأحد علماء الاجتماع والأديان والتاريخ المؤثرين في الشرق الأوسط.

ونشرت مجلة “نيوزويك” الأميركية (Newsweek) عرضا لكتاب “إيران: تاريخ حديث” للباحث عباس أمانات أستاذ التاريخ في جامعة ييل (Yale University) الصادر في 979 صفحة عن جامعة ييل 2017، ويرسم فيه المؤلف صورة شريعتي المفكر الذي استحوذ على خيال إيران الحديث.

 

ويقول كاتب العرض خالد أحمد إن شريعتي كان “أيقونة للأجيال” مع نظرة عالمية اتسعت لكثير من المدارس الفكرية والفلسفية. وفي الستينيات من القرن الماضي، جعلته خطبه النارية والعديد من الكتب والمنشورات وتسجيلات الكاسيت، رمزا للإسلام الثوري ومعارضا بارزا لشاه إيران.

ولد شريعتي في مدينة مشهد لعائلة متدينة وكان والده واعظا ذا شهرة، يدير مركزا دينيا بأجندة نهضوية. وشكلت الحركة الوطنية في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، والثقافة السياسية المعارضة التي أعقبت ذلك في الستينيات، وجهة نظر معلم المدرسة الثانوية شريعتي، الذي كان مؤيدا للجبهة الوطنية المناهضة للشاه، قبل انتقاله لفرنسا حيث حصل على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون في “علم اجتماع الدين” مع أطروحة تحلل النصوص الصوفية الفارسية.

 

إلهام إقبال وفانون

ويقول الكاتب إن شريعتي اقتبس من فيلسوف وشاعر شبه القارة الهندية محمد إقبال مفهوما أساسيا مفاده أن الإسلام هو مزيج من السياسة والروحانية وأنه تغلغل في حياة الإنسان بأكملها.

ويضيف الكاتب أن رجال الدين الإيرانيين اعترضوا على آراء شريعتي في إقبال لأنهم رأوا في الشاعر والفيلسوف إقبال فيلسوفا سنّيا. بل إن بعض المنتقدين زعموا أن إقبال أهان الإمام جعفر الصادق في إحدى قصائده، وهو ما لم يكن دقيقا.

لكن التأثير الأكبر على شريعتي جاء، بحسب الكاتب، من فرانتز فانون المولود في الكاريبي (1925-1961) وأطروحته الثورية المناهضة للاستعمار التي كانت رائجة في ذلك الوقت بين مثقفي اليسار. وقد ترجم شريعتي إلى الفارسية كتاب فانون “معذبو الأرض” بعد وقت قصير من نشره في عام 1961.

ونظر شريعتي للنضال ضد الاستعمار، الذي جسّدته الثورة الجزائرية، باعتباره نضالا وجوديا من أجل التحرر البشري حيث كانت معاناة المضطهدين وتضحياتهم لاستعادة ليس فقط الحرية السياسية، ولكن أيضا كرامة الإنسان والمسؤولية الأخلاقية.

Frantz Fanon Vector Sketch Illustration stock images
فرانز فانون اهتم بالنضال ضد الاستعمار وتبنى الماركسية الإنسانية وأفكار التحرر الأفريقية (شترستوك)

أصبح فانون صوت المثقفين والنشطاء المتحمسين لما يسمى بالعالم الثالث الذي يعمل على نطاق واسع لتحديد جغرافية الحرمان والاعتماد على الغرب. وكان فانون اشتراكيا في جوهره، وقد ذهبت مناهضته للاستعمار إلى أبعد من النضال الجماهيري للتأكيد على الروابط القومية والثقافية والعرقية والدينية، والتي اعتبرها أدوات حاسمة للنضال، وانفتح على خيارات واسعة بما في ذلك الكفاح المسلح، للتخلص من الأيديولوجيات الغريبة على جانبي الانقسام العالمي.

وهكذا، استوعب شريعتي تلك الرسالة لكنه أعاد صياغتها لتلائم قراءته التاريخية للشيعة، بحسب الكاتب.

شريعتي.. الخطيب العظيم

بعد عودته إلى إيران عام 1964، تعرض لمضايقات كانت متوقعة من قبل شرطة الشاه السرية “سافاك” وتم اعتقاله بسبب أنشطته المعارضة في الخارج؛ ولكن بعد فترة وجيزة، ربما بعد تقديم ضمانات، سُمح له بتقلد منصبه الجامعي، حيث قام بتدريس علم اجتماع الدين والتاريخ في جامعة مشهد. وصنع لنفسه اسما كأستاذ متحمس لديه وجهات نظر مغايرة حول التاريخ الإسلامي الذي قدمه في سياق جديد لجمهوره المتزايد.

برز شريعتي كمتحدث يتمتع بقوة كبيرة ودعي إلى العديد من أماكن التعلم. تجاهلته الحكومة لفترة، لكن شعبيته المتزايدة أجبرت جهاز الأمن الإيراني “سافاك” على فحص عمله. وكانت النتيجة حظر محاضرات شريعتي.

وفي عام 1963، أنشأ الفيلسوف الإيراني وعالم الدين مرتضى مطهري “منتدى نقاش” باسم حسينية إرشاد في طهران، والتي أصبحت علامة بارزة في المشهد الثقافي الإيراني في عام 1969، وضمت متحدثين مثل علي خامنئي وهاشمي رفسنجاني ومحمد بهشتي وغيرهم.

وكان مطهري قد أحب كتابات شريعتي الأولى واختار نشرها تحت رعاية الحسينية إرشاد. وفي عام 1969، دعاه مهدي بازركان (أول رئيس حكومة في إيران لاحقا بعد سقوط الشاه محمد رضا بهلوي) الذي كان له نفوذ في الحسينية إرشاد، لإلقاء محاضرة هناك.

ألقى شريعتي سلسلتين من المحاضرات، وفي هذه الأثناء، أثارت جهاز السافاك دعوة شريعتي العلنية للثورة ضد الاستبداد في ظل حكم الشاه، وتم منعه من الالتحاق بجامعة مشهد. ولم يتبق له سوى منصة حسينية إرشاد، ولكن هنا أيضا أثارت محاضراته المنشورة حفيظة علماء الدين، الذين أدانوا المنتدى باعتباره منبتا للهرطقة.

سيد حسينية إرشاد

وحسينية إرشاد هي مؤسسة دينية حديثة في شمال طهران تأسست عام 1964 للترويج لمنظور إسلامي جديد مستساغ لطلاب الجامعات والمهنيين المتعلمين في الغالب. ويمكن أن يتم مقارنتها بالمؤسسات الكاثوليكية في فرنسا أو القاعات الإنجيلية في الولايات المتحدة، وكانت مختلفة تماما عن البيئة المألوفة للمساجد والتكايا التقليدية.

منذ ما يقرب من عقد من الزمان، سادت رسالة شريعتي لإعادة اكتشاف الإسلام ونشاطه بلغة الاستعارات المؤثرة في قلوب وعقول الشباب الإيراني. وبالنسبة للجماهير التي جاءت بأعداد كبيرة للاستماع إليه، قدمت حسينية إرشاد مكانا مثاليا لمحاضر ساحر، وسيم، يرتدي بذلة وربطة عنق، حليق الشعر، مبتسم، ويتحدث بلهجة خراسانية مبهجة. لقد كان حداثيا حتى أن الطبقة الوسطى العلمانية الإيرانية لا يمكنها تجاهله.

 

التحرير بالقرآن

اعتبر شريعتي نفسه وجوديا مؤمنا بالله، وقد سعى للعثور على رسالة تحرر في النص القرآني وفي الماضي الشيعي. وكان هناك في نصوصه وأعماله مزيج قوي من فانون والفلاسفة الفرنسيين سارتر وماسينيون، جنبا إلى جنب مع ماركس ومصدق وجبهة التحرير الوطني الجزائرية وجلال آل أحمد.

تم تجميع أفكار هذه الشخصيات ودمجها في ذهن شريعتي لجعل أبطاله الإسلاميين الأوائل يتحدثون عن رسالته الثورية، وفي العالم الشفهي والمكتوب لعلي شريعتي، تحولت كل هذه الشخصيات إلى أبطال للعدالة الاجتماعية والتضحية بالنفس والثورة ضد الظالمين.

وفي هذا الماضي المقدس، عصر المؤمنين الأوائل، تخيل شريعتي مسارا إسلاميا حيث قاوم الأئمة ورفاقهم الأنقياء العادلون وضحّوا بأنفسهم في مقاومة مضطهديهم الفاسدين.

الثورية ضد الصفوية

في هذه الرواية عن “التشيع الثوري”، كان شريعتي ذا خطاب حديث ومعاصر، ومحرضا أسقط على أبطاله “المظلومين” المهمة الملحة المتمثلة في التمرد الثوري ضد “الأشرار القمعيين” في مقابل المدافعين عن “التشيع الصفوي الأسود” المنافح عن نزعة علماء الدين المحافظة، والتي وصفها بأنها مساومة، وجشعة.

وكان شريعتي يعتقد أن صعود الشيعة الصفوية ضد العثمانيين السُّنة كان نتيجة مؤامرة لتقسيم الوحدة الإسلامية، وهو منظور تآمري شاركه أيضا الأديب والفيلسوف جلال الأحمد، ومع ذلك، كانت روايته للتاريخ مثيرة لجمهوره الذين كانوا يقارنون بين أفكار شريعتي الجريئة والديناميكية وبين “العالم الراكد للشيعة المعممين”.

وكان انتقاد شريعتي لنظام بهلوي ضمنيا ومع ذلك لم تكن تلميحاته بعيدة عن متناول عملاء السافاك الذين كانوا يراقبون أنشطته بشكل روتيني ويضايقونه من حين لآخر. وعلى الرغم من التضييق عليه من قبل أجهزة الأمن، والانفصال عن رئيس المؤسسة مرتضى مطهري، استمر شريعتي في إلقاء المحاضرات والنشر حتى إغلاق إرشاد في عام 1972. وكانت منشوراته، المتوفرة على نطاق واسع للناس من جميع مناحي الحياة، مصدر قلق للنظام.

دافع مطهري (لاحقا، آية الله العظمى) عن شريعتي، لكنه أصبح يشك بشكل متزايد في آرائه مع مرور الوقت. واضطر إلى الابتعاد عن الحسينية لمدة 7 أشهر، ولكن عندما عاد كان من المقرر أن يصبح أشهر محاضر فيها، حيث استقطب الجماهير من الجامعات والمدارس الثانوية حتى فاضوا بساحات المنتدى. وبدأ مهمته الثانية بمحاضرة تحت عنوان “إقبال مصلح هذا القرن”. لقد أخذ من العلامة إقبال المفهوم الأساسي بأن الإسلام هو مزيج من السياسة والروحانية وأنه تغلغل في حياة الإنسان بأكملها.

 

الخلاف مع علماء الدين

كان هجوم شريعتي على علماء الدين مكثفا، وبدأ مرتضى مطهري، الذي فقد السيطرة على الحسينية، معارضة ما اعتبره “تطرف” شريعتي بحلول عام 1971، وفي عام 1972، في ذروة اشتباكات حرب العصابات في المناطق الحضرية، كان يُنظر إلى شريعتي على أنه تهديد خطير.

تم اتهامه بالتعاون مع مجاهدي خلق وقضى 18 شهرا في الحبس الانفرادي، قبل الإفراج عنه بموافقة الشاه عندما كانت الدعاية الدولية لإطلاق سراحه كبيرة بما يكفي لجعل الشاه يدرك مساوئ إبقاء الخطيب المفوه ذي الشعبية الواسعة قيد الاعتقال. ولمدة عامين بعد إطلاق سراحه، عاش تحت الإقامة الجبرية الفعلية مع تدهور صحته بشكل خطير، بحسب الكاتب.

في أوائل عام 1977، سُمح له بمغادرة البلاد بعد أن أجبره السافاك على نشر، أو انتحل بيانا نيابة عنه في مدح الثورة البيضاء (الإصلاحات التي قام بها الشاه) وعندما وصل إلى إنجلترا في مارس/آذار، كان يعاني من الاكتئاب وأمراض أخرى. وبعد فترة وجيزة توفي بنوبة قلبية شديدة بمستشفى في ساوثهامبتون.

ويقول مؤلف الكتاب عباس أمانات إنه وجد من الغريب أن “الظروف التي أحاطت بوفاته لم تقلق السلطات البريطانية بما يكفي لإجراء تحقيق”.

المصدر : نيوزويك

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *