اللغة ضحية للحرب.. لماذا تتعرض البيلاروسية للتضييق عليها في موطنها؟
استقبلت مكتبة “كنيهاوكا” (Knihauka) في بيلاروسيا -المتخصصة في كتب اللغة البيلاروسية- زوارا غير متوقعين في صباح اليوم الأول من عملها 16 مايو/أيار الماضي.
زار ريغور أزاروناك وليودميلا هلادكايا -وهما صحفيان معروفان بتبني دعاية الدولة- المحل الصغير، وانتقداه علنا بسبب “أيديولوجيته القومية” المزعومة.
بعد ساعات قليلة، وصلت الشرطة وفتشت المتجر وصادرت أكثر من 200 كتاب، بما في ذلك ترجمة للرواية الشهيرة “1984” لجورج أورويل. وبحسب ما ورد، فقد أرسلت الشرطة 15 عنوانا إلى “خبير” لتحديد ما إذا كانت تحتوي على “مواد متطرفة”.
أثناء العملية، تم إلقاء القبض أيضا على مالك المتجر الناشر أندريه يانوشكيفيتش، ومساعد المبيعات المدون الأدبي ناستا كارناتسكايا، بتهم “الجنح الخفيفة” التي تُستخدم بشكل شائع في الاعتقالات ذات الدوافع السياسية في بيلاروسيا، وظلا خلف القضبان بعد تمديد عقوباتهم الإدارية.
لم يكن هذا الهجوم على النشر باللغة البيلاروسية -وهي واحدة من اللغات السلافية الشرقية، ويتكلمها أكثر من 10 ملايين شخص حول العالم- فريدا أو خارجا عن المألوف، ففي وقت سابق من مارس/آذار، طُلب من دار النشر التي تحمل اسم أندريه يانوشكيفيتش إخلاء مكتبها، وقبل ذلك بعام، تم تجميد حساباتها ومصادرة المعدات.
وفي وقت سابق من الربيع، كانت هناك أوامر للعديد من دور النشر الأخرى المتخصصة في كتب المؤلفين البيلاروسيين أو باللغة البيلاروسية، بوقف أعمالها مؤقتا “لانتهاك اللوائح”.
مستقبل اللغة
وتقول الكاتبة والصحفية والمخرجة السينمائية البيلاروسية الأميركية أولغا لوغينوفا، المقيمة في نيويورك، إن الرئيس ألكسندر لوكاشينكو ينفذ يوما بعد يوم “إبادة ثقافية للبيلاروسيين”.
وفي مقالها للجزيرة الإنجليزية، تعتبر لوغينوفا أن هذه الموجة من التضييق على صناعة نشر الكتب توالت فوق موجة أخرى جرت العام الماضي، وأضافت “قال لي ناشر بيلاروسي أُجبر على إغلاق دار نشره ومكتبته مؤخرا: مع الحكومة الحالية، لا أرى مستقبلا لنشر الكتب في البلاد”، وقد طلب عدم الكشف عن هويته بسبب مخاوف تتعلق بالسلامة.
كانت بيلاروسيا تاريخيا دولة متعددة اللغات والأعراق، حيث يتحدث الناس البيلاروسية والبولندية والروسية واليديشية (أكثر شيوعا قبل الحرب العالمية الثانية) وعددا من اللهجات المحلية.
وعندما أصبحت بيلاروسيا جزءا من الاتحاد السوفياتي عام 1918، تعرّضت لغتها العرقية وثقافتها للهجوم، تماما مثل لغات العديد من الجمهوريات السوفياتية الأخرى.
وبحسب الكاتبة، تم تطهير النخب الفكرية والثقافية البيلاروسية، وتم حرق كتب المؤلفين البيلاروسيين، وكذلك القواميس. وفي ليلة 29 أكتوبر/تشرين الأول 1937، التي تُذكر اليوم باسم ليلة الشعراء المقتولين، تم إعدام أكثر من 100 كاتب وشاعر وفنان وعالم بيلاروسيين في مينسك، بأمر من الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين ورفاقه.
ومن عام 1937 إلى 1938، تعرّض أكثر من 100 ألف بيلاروسي للقمع، حيث اعتقلوا وسجنوا وأرسلوا إلى معسكرات أو قتلوا. وقبل وفاة ستالين عام 1953، تعرّض ما بين 600 ألف و1.5 مليون بيلاروسي إلى الاضطهاد والتضييق، وأصبحت اللغة الروسية هي اللغة السائدة، بحسب الكاتبة.
نهضة مؤقتة
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، شهدت اللغة البيلاروسية نهضة قصيرة، وأصبحت اللغة الرئيسية في المدارس والمؤسسات الأخرى. وفي 1994-1995، كانت هي لغة التدريس الرئيسية في أكثر من 75% من المدارس المتوسطة.
كان الانتقال المفاجئ صعبا بالنسبة للكثيرين، واغتنم الرئيس الجديد ألكسندر لوكاشينكو الفرصة. ففي مايو/أيار 1995، أجرى استفتاء حول وضع اللغة الروسية، والعلم الرسمي الجديد والشعار، والمزيد من التكامل الاقتصادي مع الاتحاد الروسي وصلاحيات البرلمان.
نتيجة لذلك، حصلت الروسية على مكانة متساوية مع اللغة البيلاروسية، وأصبحت لغة الدولة الثانية في البلاد. واليوم، تبلغ نسبة التسجيل في مدارس اللغة البيلاروسية رقما ضئيلا (أقل من 4%)، وأقل من 20% من السكان يتحدثون اللغة البيلاروسية في حياتهم اليومية، إنه “لسان مهدد بالانقراض رسميا” بحسب الكاتبة.
ومع ذلك، مع دخول الحرب في أوكرانيا شهرها الرابع، بدأ الوضع اللغوي في بيلاروسيا يتغير. المزيد والمزيد من البيلاروسيين يختارون الآن التحدث بلغتهم الأم، ويسعى المزيد منهم لاستخدام البيلاروسية في حياتهم اليومية. أصبح الانتقال ملموسا أيضا في وسائل التواصل الاجتماعي، مع سيطرة البيلاروسية على منصات تويتر وإنستغرام بشكل متزايد.
اللغة كموقف سياسي
وتقول الكاتبة، في الآونة الأخيرة، اقترح صديق مقرب لي أن نتحدث البيلاروسية، بدلا من الروسية، بيننا. وسرعان ما بدأ صديق آخر مراسلتي بالبيلاروسية بدلا من الروسية. لم تكن هناك حاجة إلى تفسير.
وتتابع “كما أخبرني الشاعر البيلاروسي فالزينا مورت الأستاذ المساعد بجامعة كورنيل، جاءت اللغة البيلاروسية للدلالة على شيء أكثر من مجرد نظام للإشارات، مجرد قول كلمة منها، مثل شكرا لك أو مرحبا، يعني أكثر من مجرد شكرا لك أو مرحبا، إنه أيضا بيان سياسي”.
وتقول الكاتبة “بينما تواصل روسيا حربها غير الأخلاقية ضد جارتنا الجنوبية، يتوصل البيلاروسيون في جميع أنحاء العالم إلى استنتاج مفاده أن العودة إلى لغتنا الأم هي من الطرق القليلة المتبقية لنا للإشارة إلى احتجاجنا على العدوان الروسي في أوكرانيا وفي بيلاروسيا. والعيش كأمة”.
وتنقل عن الشاعر والأكاديمي مورت قوله “الروس يشيرون إلينا على أننا إخوتهم وأخواتهم الأصغر سنا، يقولون إن لدينا الكثير من أوجه التشابه ونحن شعب واحد، إنها مجرد خطوة واحدة للقول إننا غير موجودين على الإطلاق كثقافة، وهذا غير صحيح. نرى ما حدث في أوكرانيا”.
وتتابع “تبدو محاولاتي للتحدث باللغة البيلاروسية بعد أن تحدثت الإنجليزية والروسية لعقود، سيئة. لغتي البيلاروسية عرجاء، لكنني مثابرة، مثل كثيرين آخرين”.
وتضيف “مع محدودية الوصول إلى وسائل إعلامية لتعلم اللغة البيلاروسية، ومن خلال قراءة الأدب أو الترجمات البيلاروسية، يحاول عدد لا يحصى من البيلاروسيين مثلي تذكر المعجم والقواعد المنسية للغتهم الأم. لذا فليس من المستغرب أن يقوم نظام ألكسندر لوكاشينكو -الذي حول بيلاروسيا فعليا إلى دولة تابعة لروسيا- بالهجوم على المكتبات ودور النشر باللغة البيلاروسية. نحن لسنا فقط في أزمة رقابة، بل في أزمة إبادة”.
وقال مورت للكاتبة بينما كانا يناقشان المرسوم الأخير الذي وقعه لوكاشينكو إن “الآلاف يتعرضون للاضطهاد بتهم التطرف والإرهاب لأعمالهم في المقاومة السلمية، ولا يستبعد أن يحكم بالإعدام على كتاب، إذ تُعتبر رواية مثل: كلاب أوروبا، الآن مادة متطرفة”، بحسب الكاتبة.
وتختم الكاتبة بخلاصة مفادها أن “لوكاشينكو ينفذ يوما بعد يوم، وبشكل فعال، إبادة ثقافية للبيلاروسيين بدأها السوفيات أول مرة. نأمل ألا يغض المجتمع الدولي أعينه”.