فورين بوليسي: من بوشكين إلى بوتين.. الفكر الإمبراطوري للأدب الروسي
طوال عقود أو حتى قرون، كان الأدب الكلاسيكي الروسي المليء بمزيج من التجربة الإنسانية العميقة والشعور القومي؛ يُقرأ بأريحية، لكن على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا يتزايد النقاش في بلدان غربية حول طريقة التعامل مع الأدب الروسي، وتتراوح الآراء بين من يرى فيه أدبا إمبراطوريا يحرض على “الإمبريالية” والتوسع والغزو ومن يرى أنه أدب إنساني مسالم مستوحى من تجربة فريدة.
يقول فولوديمير يارمولينكو -في مقاله الذي نشرته مجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأميركية- إن خلف الأدب الرومانسي في أوائل القرن الـ19، كان هناك شيء آخر، وهو القبضة الباردة للإمبراطورية، وتماما مثلما بنى ميخائيل ليرمنتوف الشاعر الروسي من القرن الـ19 منظورا إمبراطوريا روسيا استعماريا بشأن القوقاز؛ فعل الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين (1799 – 1837) ذلك بشأن أوكرانيا.
قصيدة بوشكين ورواية غوغول
ويضرب الكاتب مثلا بقصيدة بولتافا لبوشكين، وهي تتناول إيفان مازيبا، القائد الأوكراني الذي تمرد ضد القيصر الروسي بطرس الأكبر وشارك في معركة بولتافا بين السويد وروسيا، وأشار إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا في خطاب حول استعادة أراضي الإمبراطورية الروسية.
وبالنسبة للأوكرانيين فإن مازيبا هو رمز للمقاومة الوطنية ضد الهيمنة الروسية، وهو أيضا يذكّرهم بخرق معاهدة القرن الـ17 التي تحافظ على استقلال شعب القوزاق مقابل الولاء لسكان موسكو، ولكن بالنسبة للروس في ذلك الوقت؛ كان أي ادعاء أوكراني بالحكم الذاتي خيانة، تماما كما هو الحال بالنسبة لبوتين الآن، وفق الكاتب.
وتكررت نفس الفكرة في رواية الكاتب الروسي نيكولاي غوغول التاريخية الشهيرة عن أوكرانيا “تاراس بولبا”، وعندما حوّل الشاعر غوغول، الأوكراني المولد، هويته إلى هوية إمبراطورية روسية، كرّس موهبته لإثبات أن كل الأشياء الأوكرانية عفا عليها الزمن، والأهم من ذلك أنها قاسية. ووفق قول غوغول؛ فالأوكرانيون بحاجة إلى الإمبراطورية الروسية كي يصبحوا متحضرين.
وأكد الكاتب أنه دائما ما يكون هناك طريقة بديلة للنظر إلى الأشياء، فبعد سنوات قليلة من صياغة غوغول وبوشكين لصورتهما عن القوزاق الأوكرانيين كجزء من ماض قاسٍ عفا عليه الزمن؛ جاء تاراس شيفتشينكو، الشاعر والرسام والبطل القومي الأوكراني، الذي أخبر مواطنيه أن روح القوزاق البدائية (والديمقراطية) والمعادية للاستبداد لم تكن من بقايا الماضي ولكنها كانت بشرى للمستقبل.
وكانت نظرة شيفتشينكو إلى القوقاز مختلفة عن وجهة نظر ليرمنتوف، فهي بالنسبة له ليست مشهدا شاعريا؛ حيث مسحت الهيمنة الروسية الرومانسية التاريخية، لكنه مشهد درامي للغاية عندما ينتج العنف الإمبراطوري أنهارا من الدم، وحيث تكون المقاومة قوية ولا هوادة فيها. وفي حين كانت منطقة قوقاز ليرمنتوف ناصعة البياض وباردة تماما، وبعيدة عن المعاناة الإنسانية، فإن قوقاز شيفتشينكو ملطخة بالدماء ومنغمسة في معركة الإنسانية من أجل الحرية.
الرومانسية أم القسوة؟
وبمجرد أن تبدأ في البحث عن الأدب الروسي، ستجده مليئا بالخطاب الإمبريالي، والغزو الرومانسي والقسوة، والصمت بشأن العواقب. وحتى لو كان العمل ظاهريا متعاطفا مع الذات الإمبراطورية، مثل تاراس بولبا أو متسيري؛ فإن هذا التعاطف هو فكرة رومانسية عن المصير المحزن للموضوع المتمثل في التخلف الأبدي والقهر. وفي نفس الوقت الذي كان فيه الاستشراق الأوروبي يطور صورة المجتمعات الأفريقية والآسيوية على أن تاريخها لا يستحق السرد، كان الأدب الروسي يبني صورة عن القوقاز وأوكرانيا كمجتمعات تستحق أن يُنسى تاريخها العنيف.
ويشير الكاتب إلى أن أوجه التشابه مع سياسة الغزو الروسي اليوم عميقة وواسعة؛ فقصيدة بوشكين “إلى المفترين على روسيا” هي مثال رائع للكتيبات المناهضة لأوروبا والتي توجه الإمبريالية الروسية، وتشبه معالجته للانتفاضة البولندية (بين سنتي 1830 و1831) وجهة نظر الكرملين الحالية لما يسمى بالثورات الملونة في الإمبراطورية السوفياتية السابقة، حيث يهدد بوشكين أوروبا علنا بالحرب، وهناك خط يصل بين أيديولوجية بوشكين وخطاب الإمبريالية الجديدة اليوم، عبر عنه أحد الشعارات الروسية خلال الحرب الروسية الأوكرانية الجارية الآن، وهو “يمكننا أن نكرر”؛ حيث يتم تذكر حروب الدمار والغزو الماضية عمدا لتخويف أعداء روسيا الوهميين.
ويستشهد الكاتب في مقاله باحتفال الشاعر الروسي فيودور تيوتشيف المعاصر لبوشكين -في وقت الثورات الأوروبية عام 1848- بالإمبراطورية الروسية باعتبارها حصنا لأوروبا، تماما مثل روسيا اليوم؛ النموذج الاستبدادي الداعم للقوى المناهضة للديمقراطية في أوروبا.
أدباء السلام الروسي
ولكن بخلاف هذه الصورة القاتمة التي رسمها مقال الصحيفة الأميركية للأدب الروسي، هناك وجوه أخرى لروايات وأشعار روسيا الكلاسيكية، فلا يوجد كاتب يصور الحرب في روسيا بشكل مؤثر أكثر من الروائي والشاعر الشهير ليو تولستوي، الجندي السابق الذي تحول إلى أشهر دعاة السلام في روسيا.
وفي آخر أعماله “حاج مراد” الذي يفحص آثار الاستعمار الروسي شمال القوقاز، أظهر تولستوي كيف تسبب العنف الروسي الأحمق تجاه قرية شيشانية في كراهية فورية تجاه الروس، وفق مقال للكاتبة آني كوكوبوبو، الأكاديمية المختصة بالأدب الروسي في جامعة كانساس لموقع “ذا كونفرسيشن” (The Conversation).
وبعد نشره “الحرب والسلام” شجب تولستوي علنا العديد من الحملات العسكرية الروسية. ولم ينشر الجزء الأخير من روايته “آنا كارنينا” عام 1878 لأنه ينتقد تصرفات روسيا في الحرب الروسية التركية. ويصف كونستانتين ليفين -وهو بطل تولستوي في تلك الرواية- التدخلَ الروسي في الحرب بأنه “قتل”، ويعتقد أنه من غير المناسب جر الشعب الروسي إلى ذلك.
وعام 1904، كتب تولستوي خطابا عاما يدين الحرب الروسية اليابانية، والتي تمت مقارنتها أحيانا بالحرب الروسية في أوكرانيا. وقال “الحرب مرة أخرى، مرة أخرى الآلام، لا مبرر لها على الإطلاق، مرة أخرى الاحتيال، ومرة أخرى الذهول والوحشية للرجال”. ويكاد المرء يسمعه وهو يصرخ ويقول لمواطني بلده الآن “فكروا بأنفسكم”.
وفي واحدة من أشهر كتاباته المسالمة عام 1900 بعنوان “لا تقتل”، شخّص تولستوي مشكلة روسيا اليوم بعمق، وقال “إن بؤس الأمم لا ينتج عن أشخاص معينين، ولكن بسبب النظام الخاص للمجتمع الذي في ظله يرتبط الناس ببعضهم البعض لدرجة أنهم يجدون أنفسهم جميعا تحت سلطة عدد قليل من الرجال، أو في كثير من الأحيان تحت سلطة فرد واحد، رجل منحرف بشدة بسبب وضعه غير الطبيعي كحاكم لمصير وحياة الملايين، لدرجة أنه دائما في حالة غير صحية، ويعاني دائما إلى حد ما من هوس الشعور بالعظمة الذاتية”.
وخلال المجاعة الروسية من عام 1891 إلى 1892، بدأ تولستوي في إنشاء مطابخ للفقراء لمساعدة مواطنيه الذين كانوا يتضورون جوعا وتخلت عنهم الحكومة. وعمل على مساعدة الجنود على التهرب من التجنيد في الإمبراطورية الروسية، وقام بزيارة ودعم الجنود المسجونين الذين لا يرغبون في القتال. وفي عام 1899، باع روايته الأخيرة “القيامة” لمساعدة طائفة مسيحية روسية على الهجرة إلى كندا حتى لا يضطروا للقتال في الجيش الروسي.