رغم أن مشاهد ملايين الحجيج المحتشدين في مكة والمنتشرين في صحرائها تُعد من أصعب ما يمكن تصويره في تاريخ السينما، فإن المخرج البريطاني العاشق أوفيديو سالازار كان مُصرّا على تكرار خوض تجربته الخاصة لتصوير الحج بوصفه جسرا سنويا بين الشرق والغرب 13 مرة في حياته.
وتعد هذه حالة فريدة بين مجموعة من المخرجين من أميركا وأوروبا، أخذوا على عاتقهم حفظ ملف الحج في ذاكرة السينما الروائية والدرامية، بتسجيل هذا الحدث الإسلامي السنوي الأعظم في مجموعة من الأعمال السينمائية والتلفزيونية الوثائقية والدرامية، مثل “عيد مكة الكبير” (The Great Mecca Feast)، وهو أول فيلم هولندي صامت عن مكة والحج يشاهده الجمهور الأوروبي عام 1928، ووثائقي “رحلة الحج إلى مكة” (The Pilgrimage to Mecca)، وهو من الأفلام التي تحتوي على مواد أرشيفية نادرة، وقد أنتجته الإذاعة السويسرية عام 1970.
فسيفساء رائعة
تبدأ فسيفساء رائعة من الأفلام عن شعيرة الحج في التشكل بفيلم “الحج – رحلة العمر” (Hajj – The Journey of a Lifetime)، وهو وثائقي تابع فيه المخرج أوفيديو سالازار بمشقة بالغة أكثر من 20 ألف من الحجاج البريطانيين، الذين جاؤوا من أنحاء بريطانيا، عام 2001، لينضموا إلى 3 ملايين مسلم من جميع أنحاء العالم، لأداء مناسك الحج.
بعد 9 سنوات، قدم سالازار فيلم “الطواف ببيت الله” (Circling the House of God) 2010، الذي يحكي مُستعينا بمواد أرشيفية فريدة قصة مارتن لنغز، أو الشيخ أبو بكر سراج الدين، مع الحج، منذ أن كان شابا في أواخر العشرينيات من عمره واعتنق الإسلام؛ وكيف أصبح يحظى باحترام الناس في جميع أنحاء العالم بصفته “صديق الله”، وقد توفي سراج الدين قبل بضعة أشهر عن عمر يناهز 96 عاما.
يضاف إلى ذلك فيلم “داخل مكة” (Inside Mecca)، وهو واحد من أجمل الأفلام الوثائقية التي أنتجت عام 2003، وقدم دليلا بصريا لكل من يريد أن يعرف أكثر عن الحج، مهما كانت جنسيته أو لونه أو لسانه.
وفي عام 2004، أخرج الفرنسي المغربي الأصل إسماعيل فروخي “الرحلة العظيمة” (The Great Journey)، وهو فيلم درامي طويل، وفاز بجائزة أفضل فيلم في مهرجان البندقية السينمائي عام 2004، وتم تصنيفه واحدا من النماذج المفضلة للسينما الإسلامية العالمية.
وفي عام 2009، تم إنتاج فيلم “رحلة إلى مكة” (Journey to Mecca)، وهو دراما تاريخية تحكي القصة الملحمية المذهلة لأول رحلة حج لابن بطوطة المولود في طنجة عام 1304، وهو في سن 21 عاما، للمخرج الأميركي بروس نيبور.
أما وثائقي “رحلة إلى قلب الإسلام” (Journey to the Heart of Islam)، الذي عُرض في المتحف البريطاني بلندن عام 2012، فيقدم سردا مختصرا لأول معرض كبير مخصص للحج على الإطلاق.
لكننا في ما يلي سنتوقف أمام فيلم “الطريق إلى مكة”.
رحلة “أسد” إلى مكة
في الفيلم الوثائقي “الطريق إلى مكة” (A Road to Mecca)، الذي مدته 92 دقيقة، للمخرج النمساوي جورج ميش في عام 2006، أراد ميش أن يواجه العالم عبر هذا الفيلم بأفكار محمد أسد (1900 – 1992) الحكيمة، كونه رجلا لم يكن يبحث عن خوض مغامرات، بقدر ما أراد أن يكون وسيطا ثقافيا مُهمّا بين الشرق والغرب.
ويتتبع الفيلم خطوات أسد والمسار الذي سلكه في “الطريق إلى مكة”، وهو أيضا عنوان أهم وأشهر كتب أسد وأكثرها مبيعا على الإطلاق، الذي نشر باللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والسويدية والفرنسية عام 1954.
في هذا الفيلم، الذي رُشح لجائزة مهرجان فوكوفار السينمائي 2008، وقدمته مؤسسة الدوحة للأفلام ضمن معرض “الحج – الرحلة عبر الفن”، يعود بنا ميش إلى أوائل العشرينيات من القرن الماضي، عندما سافر المواطن النمساوي اليهودي، ليوبولد فايس، من فيينا متجها إلى “الشرق الأوسط”، حيث فتنته الصحراء ورأى فيها موطنه الروحي الجديد، بعد أن اعتنق الإسلام عام 1927، وغير اسمه إلى محمد أسد.
وقد أصبح أحد أهم المسلمين الأوروبيين في القرن العشرين، من خلال عمله في البداية مستشارا في الديوان الملكي السعودي، ثم قيامه بترجمة القرآن الكريم إلى الإنجليزية، ومشاركته في تأسيس دولة باكستان الإسلامية، وشغله منصب سفيرها لدى الأمم المتحدة.
وبدا مسار السرد في الفيلم مؤثرا للغاية، وهو يتتبع رحلة حجّ أسد إلى مكة، التي بدأها من القدس، وتفاعل خلالها مع العديد من المواقف والأشخاص في الطريق إلى مكة، وفي مكة نفسها.
وقدم “مزيجا من أدب الرحلات والسيرة الذاتية، والمقابلات مع المؤرخين والعلماء والأصدقاء والعائلة، واللقطات الأرشيفية، والصور والاقتباسات من كتابات أسد الحيوية والغنية بالمعلومات”، على حد وصف الناقدة أليسا سيمون.
دين إنساني عميق
بدا الفيلم كأنه “رحلة فضولية تقدم وجهات نظر مختلفة، من الوسط المعتدل إلى الأصولي، لا تخلو من الفكاهة”، كما يقول الناقد لانفرانكو أسيتي.
فجاءت البداية التي قدمها جورج ميش مؤثرة من خلال الصور الشعرية، واللقطات الواسعة للصحراء بزوايا مختلفة.
وأسهمت في توضيح التطور المستمر لفلسفة محمد أسد، و”حرص ميش على توضيح صورة الإسلام المعاصر؛ متحديا التحيزات الغربية المتجذرة بعمق، وكاشفا عن المسافة بين الأفكار التي تدعم الإرهاب، والمعتقدات الأساسية لدين إنساني عميق”، حسب لانفرانكو أسيتي.
لقد رسم ميش صورة رائعة عن حياة محمد أسد وإرثه، بوصفه رحالة وكاتب ومُفكر سياسي ودبلوماسي وباحث إسلامي، وأثار بعض التحديات التي لا تزال مستمرة في الوقت الحاضر؛ إذ يتحسر العديد ممن تمت مقابلتهم على الجمود المتزايد في تفسير القرآن، والفجوة المتزايدة بين الشرق والغرب، حسب رأيهم.
ومع ذلك، وكما يظهر ميش بدقة، فإن التعصب ليس قاصرا على الإسلام أو الشرق الأوسط، بأي حال من الأحوال.
وإن كان من الملاحظ أن الوتيرة أخذت تتباطأ قليلا، عندما زار ميش مجموعة من “الأسديين” في لاهور، باكستان، لكنها سرعان ما انتعشت عندما سافر إلى نيويورك، وسجل الذكريات المؤثرة لنجل أسد.
وبحلول وفاته عام 1992، كان أسد يشعر بخيبة أمل عميقة من حالة العالم الإسلامي، ويعاني العزلة الفكرية، وعدم تسامح من وصفهم بـ”المتطرفين”، ولقد عبر عنها ميش بإغلاق رسمي مناسب، بأن جعلنا نقف أمام قبر محمد أسد في الأندلس.