“سياحة نامه”.. كيف وصل الرحالة أوليا جلبي ما انقطع من أدب الرحلة الإسلامي؟
منذ أكثر من 10 قرون أسهم الرحالة المسلمون في توثيق حياة شعوب العالم القديم ومدنه في قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتركوا كنوزا معرفية تؤرخ لثقافات الشعوب وعاداتها الاجتماعية وتاريخ حكامها وعمارتها ونشاطاتها الاقتصادية والسياسية.
واشتهر من الرحالة المسلمين أسماء عديدة منهم المسعودي مؤلف “مروج الذهب”، وشمس الدين المقدسي صاحب “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”، والإدريسي صاحب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” والبيروني مؤلف “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة” وابن جبير الأندلسي، وأفوقاي صاحب “رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب” وغيرهم. وشكلت رحلات ابن بطوطة وابن فضلان وأوليا جلبي مكانة خاصة في أدب الرحلة لغزارة نصوصهم وكثرة ترحالهم.
ورغم أنه لم يكن الأول، افتتح الرحالة البغدادي ابن فضلان الرحلات العربية الكبرى قبل 11 قرنا عندما انطلق في بعثة رسمية إلى مجاهل شمالي شرق أوروبا، من أجل نشر الثقافة العربية الإسلامية واكتشاف أطراف عالم القرون الوسطى يوم كانت بغداد العباسية مركزه وحاضرته الكبرى.
ابن فضلان وابن بطوطة
كان لابن فضلان السبق في الكتابة عن “الروس” وفي التعريف بهم لدى العرب، وقد أرسله الخليفة العباسي المقتدر بالله ضمن بعثة رسمية إلى ملك صقالبة حوض الفولغا “ألمش بن يلطوار” بطلب من هذا الأخير ليفقهه في الدين ويعرفه شرائع الإسلام، ويبني له مسجدا وينصب له منبرا ليقيم عليه الدعوة له في بلده وجميع مملكته، ويسأله بناء حصن يتحصن فيه من الملوك المخالفين له ولحماية البلغار من تهديدات الخزر الذين كانوا على دين موسى.
وضمت البعثة إلى جانب ابن فضلان كلا من سوسن الرسي مولى نذير الحرمي، وتكين التركي، وبارس الصقلبي، أما دليلهم فهو عبد الله بن باشتور الخزري رسول ملك الصقالبة إلى المقتدر، وانضم إلى البعثة فقيه ومعلم وغلمان، وفق تقرير سابق للجزيرة نت.
وغادرت البعثة بغداد في صفر عام 309هـ (921م)، ووصلت إلى بلاد البلغار في محرم 310هـ (مايو/أيار 922م). حيث زار الوفد بلاد العجم والترك والصقالبة والروس وإسكندنافيا والخزر، وعندما عاد الوفد إلى بغداد، قام ابن فضلان بتسجيل وقائع رحلة السنوات الثلاث في تقرير أو كتاب رسمي اشتهر باسم “رسالة ابن فضلان”.
وتعد رحلة ابن فضلان مصدرا مهما لتاريخ الروس والبلاد التي زارها في بداية القرن العاشر الميلادي، أي في فترة يفتقر فيها العالم الغربي اليوم إلى مصادر تخصها، لذلك استحقت عناية استثنائية من الباحثين والمحققين، لأنها دونت حقائق تاريخية نادرة، وشكلت نقلة نوعية في فن كتابة الرحلة العربية التي كانت غارقة في مفاهيم السرد، فنقل أدب الرحلة العربية إلى مستوى التحليل الإثنوغرافي لشعوب وقبائل لم يكن العالم يعرف عنها شيئا.
وعلى خطى ابن فضلان زار الرحالة والمؤرخ والقاضي الطنجي محمد بن بطوطة معظم أنحاء المعمورة المعروفة في زمنه خلال رحلته إلى الحج التي استمرت 27 عاما، ففي منتصف القرن الـ14 تجهز ابن بطوطة للرحلة الشاقة بعد أن كان قد طاف بأنحاء المعمورة بما في ذلك شمال أفريقيا ومصر والشام والعراق وفارس والصومال والشرق الأقصى والصين والهند، واكتسب خلال رحلاته خبرات أفادته كثيرا في رحلته الأصعب.
وبعد ابن بطوطة بقرابة 3 قرون كان أدب الرحلة على موعد مع متن جديد افتتح به صاحبه فصلا جديدا من كتابات الرحالة المسلمين.
أوليا جلبي
ولد أوليا جلبي في 25 مارس/آذار 1611م بإسطنبول من أجداد كانوا قد نزحوا إلى الأناضول مع أرطغرل بن سليمان شاه، والد عثمان مؤسس الدولة العثمانية، وبعد فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح عام 1453م، نزحت أسرته إلى تلك المدينة التي تحولت إلى إسطنبول.
والده هو درويش محمد ظلي، وكان نديما للسلطان سليمان القانوني، وكبير مؤذني جامع السليمية، وصانع الميزاب الذهبي فوق الكعبة المشرفة.
كان أوليا جلبي حافظا للقرآن متقنا لتلاوته، عُرف بسرعة الحركة ودقة الرمي وركوب الخيل والنقش على الذهب والفضة، وكان أديبا شاعرا فصيحا ذكيا وخطاطا ماهرا.
قام أوليا جلبي برحلة شهيرة استمرت حوالي 44 عاما، وشملت 23 دولة ضمن حدود الدولة العثمانية أو خارجها على اختلاف مسمياتها بين الماضي والحاضر، وهي تركيا وروسيا وألبانيا وبلغاريا واليونان ورومانيا ويوغسلافيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وبولندا وإيران والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن والسعودية ومصر والسودان والحبشة والصومال وجيبوتي.
وقد دوّن أوليا جلبي رحلته في كتابه الشهير “سياحة نامه”، وهو من عشرة مجلدات، وتُرجم إلى الألمانية والروسية والإنجليزية والفرنسية والمجرية والبلغارية والصربية واليونانية والأرمنية، إضافة إلى ترجمة عربية لبعض صفحاته.
وهذه الرحلة الموثقة هي محل اهتمام المؤرخين، لما تضمنته من تفاصيل غزيرة لمشاهدات رحالة يقظ ذكي سدّت نقصا كبيرا في المعلومات عن تلك البلاد.
بل إن ملاحظاته كانت محل اهتمام الأطباء، فخلال رحلته سجل ما تعرف عليها من أمراض وطرق التداوي منها.
كما أنها مثلت مرجعا كبيرا للمهتمين بالآثار، وخاصة الإسلامية، حيث سجل في رحلته ما رآه من آثار ونقل شواهد أثرية كثيرة كانت مكتوبة.
وتمتاز رحلة أوليا جلبي بأن صاحبها لم يقطعها كمجرد سائح، بل كان عالما صاحب قراءات غزيرة حول البلاد التي يزورها.
فقبل أن يقوم برحلته كان يقرأ عن البلاد التي سيزورها، فقرأ عن بلاد العرب ما كتبه المقريزي والذهبي والقزويني والطبري وغيرهم، إضافة إلى مراجع في لغات أخرى غير العربية.
وبلغت دقة تسجيلاته أنه كان يهتم بالأرقام اهتماما بالغا، حيث كان ينقل من السجلات الرسمية والإحصاءات والتعداد السكاني للبلاد، فمثلا دوّن في رحلته تعداد سكان القاهرة في عهدي سليم الأول ومراد الرابع.
واعتمد أوليا جلبي على نفسه في توفير نفقات الرحلة الطويلة، فبعد أن استنفد ماله في المرحلة الأولى من إسطنبول إلى بورصة، اعتمد بقية الرحلة على الكسب من عمل يده، فالتحق بأعمال عديدة، فعمل كاتب ضرائب، وعمل بالصيدلة، والإمامة في المساجد، إضافة إلى مهن وحرف عديدة أكسبته خبرة كبيرة.
مشاهدات صوفيا وإسطنبول
ومن أغرب مشاهداته في إسطنبول، حاضرة الخلافة العثمانية، حديثه عن شخص يدعى “أحمد جلبي هزار فن”، وقف على مكان مرتفع مرتديا جناحي نسر، وقام بمساعدة الرياح بمحاولة الطيران 8 مرات، وصعد بعدها إلى برج غلاطة، وطار من قمته مع اتجاه الريح، ونزل في ميدان دوغانجيلر، وكان السلطان مراد الرابع يشاهده، وأجزل له العطاء.
ويتحدث عن شخص آخر استخدم فكرة ما يشبه الصاروخ حاليا، حيث ركب جهازا مزودا بالبارود، تم إشعاله فحلق به في الجو إلى أن نفد البارود، فارتدى جناحي نسر، وقفز في البحر.
وزار أوليا جلبي مدينة صوفيا (عاصمة بلغاريا حاليا) مرتين، وقال إن بها 100 جامع، أكبرها جامع قوجه محمود باشا، وبها 21 منتزها عاما.
كما وصف مدينة كييف، عاصمة أوكرانيا، وتحدث عن تقديس الأرثوذكس لها، والنزاعات الدولية حولها.
وزار كذلك مدينة بلغراد، التي فتحها السلطان سليمان القانوني، ووصف قلعتها بالتفصيل، والعدد الهائل من المساجد في أراضيها.
وفي فيينا، عاصمة النمسا، وصف سوقها الأكبر، وكان يضم 6500 دكان. وتحدث عن جسور بوخارست، عاصمة رومانيا، وأديرتها وكنائسها.
وفي إيران تناول مدينة تبريز بوصف دقيق شمل لغة أهلها وتفاصيل دقيقة لقلعتها وعدد سكانها وتبني أهلها للمذهب الشيعي.
وزار بغداد، وقال إنه ليس على وجه الأرض مدينة بشهرتها إلا ما ندر، وتحدث عن حرب استعادتها من الإيرانيين، التي شنها مراد الرابع، واستمرت 40 يوما، وأحصى عدد خسائر الإيرانيين فيها.
كما قدم إحصائية دقيقة لمدارس بغداد في المراحل المختلفة وجوامعها ودور القرآن والحديث فيها، وكذلك عدد الحمامات والكنائس والمعابد اليهودية، والتقسيمات الإدارية للمدينة والصناعات المنتشرة فيها.
وسجل أوليا جلبي أيضا مشاهداته في القدس، وتناول الأسماء التي يطلقها الناس عليها، واحتفالات المسيحيين فيها بأعيادهم، وأحصى العدد التقريبي لزوار المدينة من المسيحيين والإجراءات الأمنية التي يوفرها العثمانيون للزائرين.
وأولى الرحالة العثماني اهتماما خاصا بمصر، وخصص لها أغلب صفحات الجزء العاشر من كتابه، وزارها مرتين بينهما 5 سنوات.
ويعد كتابه “سياحة نامه” مرجعا كبيرا في المعلومات عن الحياة المصرية، حيث تحدث عن معدن الزمرد في أسيوط (جنوب)، وعن الجراد الذي يأتي من خارج مصر، لكنه سرعان ما يموت فيها.
وفي البيوع، قال إن المصريين يبيعون الدجاج بالكيلة وليس بالواحدة كسائر البلدان، وأحصى في القاهرة عدد المعماريين والأطباء والجراحين والصيادلة والنساجين والخياطين والتجار والجزارين وسائر أصحاب الصناعات والحرف.
كما أحصى عدد المنازل والحمامات والآبار، وتحدث عن الجوامع، وأهمها الجامع الأزهر، وبلغت دقته في التدوين والتسجيل أنه كان يدون مساحة الأحياء الشهيرة وعدد طوابق الدكاكين.
وقد توفي أوليا جلبي في إسطنبول عام 1684 في أواخر عهد السلطان مراد الرابع، عن عمر ناهز 74 عاما، بعد رحلة أسفار طويلة قطعها بين عامي 1640 و1683م، ليبرز حقيقة أن التاريخ العثماني عامر بشخصيات حضارية فذة أسهمت في خدمة الإنسانية.