حتمية العلاقة أم بحث عن مصالح.. ما أسباب حرص إريتريا على لعب دور في ملف شرق السودان؟
الخرطوم- أثارت قضية إعادة وفد من زعماء إدارات أهلية بشرق السودان وممثلين لبعض القوى السياسية في الإقليم، لغطًا حول الدور الذي تريد أسمرا لعبه في ملف شرق السودان، وما مصالحها في هذا الإقليم؟ ولماذا تتحفظ الخرطوم على دور لأسمرا؟ وما مآلات الحادثة وانعكاساتها على علاقات البلدين؟
وكانت الحكومة السودانية رفضت -الخميس- عبور الوفد إلى دولة إريتريا للمشاركة في ملتقى يرعاه الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، لبحث قضايا الشرق.
حقائق الجغرافيا والتداخل العرقي
وتمتد الحدود بين السودان وإريتريا من منطقة رأس قصار على البحر الأحمر وحتى أم حجر عند مثلث الحدود السودانية الإريترية الإثيوبية، بمسافة تقدّر بـ600 كيلومتر في أرض منبسطة ليس فيها أي حواجز جغرافية، باستثناء نهرين موسميين ينبعان من إريتريا ويكونان دلتيين داخل السودان هما نهرا القاش وبركة.
وإلى جانب الحدود الجغرافية، هناك تداخل سكاني بين البلدين، إذ إن أغلب مكونات شرق السودان العرقية لديها امتداد داخل إريتريا، خاصة في الجزء الغربي منها المعروف باسم إقليم القاش بركة ومنطقة ساحل البحر الأحمر.
ولعب هذا التداخل أدوارا سياسية إبان نضال الإريتريين لنيل استقلالهم من إثيوبيا، وكانت أراضي شرق السودان حينها منطقة خلفية للتنظيمات الإريترية ومعبرا لتسليحها.
واستمر هذا الأثر خلال فترة حكم الرئيس السوداني السابق عمر البشير (1989-2019) وخاصة في تسعينيات القرن الماضي، عندما آوت إريتريا جزءا من المعارضة السودانية المسلحة، وكانت بعض أراضي شرق السودان مسرحا لعملياتها العسكرية ضد حكومة البشير.
كيف تفجرت أوضاع شرق السودان؟
على الرغم من أن الإقليم غنيّ بموارده الطبيعية الزراعية والمعدنية، فإنه -وفق إحصاءات الأمم المتحدة- أكثر مناطق السودان فقرا.
ويشكو سكان الإقليم -الذين تشير الروايات التاريخية إلى أنهم موجودون في هذه المنطقة منذ 7 آلاف سنة- من التهميش والفقر، فضلا عن الصراعات بين بعض المكونات العرقية في شرق السودان.
كانت اتفاقية سلام جوبا الموقعة في أكتوبر/تشرين الأول 2020 بين الجبهة الثورية (تحالف يضمّ عدة حركات مسلحة بالسودان) والحكومة الانتقالية التي تولت الأمر عقب سقوط البشير، الشرارة التي أشعلت فتيل الخلافات في الشرق، عندما تمت تسمية أحد مسارات الاتفاقية باسم “مسار شرق السودان” على الرغم من أنه وقتها لم يكن في الشرق أي تمرد عسكري، بل كانت فقط مجموعات معارضة متحالفة مع حركات مسلحة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
وعارض البِجا -وهم مجموعة عرقية تتكون من عدة قبائل من سكان المنطقة الأصليين- الاتفاقية بدعوى أن الموقعين عليها لا يمثلون كل الإقليم، وصعّدوا الأمر للمطالبة بإلغاء الاتفاق، وأغلقوا موانئ البلاد والطريق الذي يربطها مع بقية أجزاء القطر عدة أسابيع بقيادة المجلس الأعلى لنظارات وعموديات البجا، ولم ينهوا الإغلاق إلا بعد إجراءات قائد الجيش وحله الحكومة الانتقالية.
وفي منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، أعلن محمد حمدان دقلو (حميدتي) نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، تعليق اتفاق “مسار شرق السودان” إلى حين “توافق أهل الشرق”، وذلك بعد التشاور مع أطراف الحكومة والوساطة.
وكان المجلس الأعلى لنظارات البجا وافق في الرابع من الشهر ذاته، على طلب حكومي بإرجاء إغلاق ميناء بورتسودان والطريق القومي الرابط بين الخرطوم ومدينة بورتسودان.
وفي الوقت ذاته، أيَّدت مجموعة ثانية تضم قبائل البني عامر والحباب (التي لديها امتداد في إريتريا) اتفاق السلام، مما تسبب في حالة انقسام مجتمعي في شرق السودان، وأثار مخاوف من أن يدخل الإقليم في دوامة عنف.
لماذا تدخلت إريتريا؟
تلقى رئيس مجلس السيادة في السودان الفريق أول عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان (حميدتي) في مايو/أيار الماضي، رسائل خطية من الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، تعرض وساطة إريتريا لحل أزمة السودان عامة وشرقه خاصة.
وقال دبلوماسي غربي للجزيرة نت “إن مولي في مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية أبلغت رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، خلال زيارتها الطويلة إلى الخرطوم في يونيو/حزيران، بأنه غير مسموح بأي دور لإريتريا في الملف السوداني”.
هذا الموقف اصطدم بقناعة إريتريا بأن حقائق الجغرافيا والتكوين العرقي وعلاقتها مع فاعلين سياسيين في شرق السودان، تحتّم وجود دور لها، ولا يغيب عن ذاكرتها وساطتها بين مؤتمر البجا والحكومة السودانية التي توجت بتوقيع اتفاق سلام أسمرا في مايو/أيار 2006، وهو الاتفاق الذي أنهى نحو 12 عاما من الصراع تخللتها عمليات مسلحة متفرقة.
بدوره، يتهم مجلس نظارات البجا بعض الذين وقّعوا الجزء الخاص بشرق السودان في اتفاق سلام جوبا بأنهم على علاقة بأسمرا، وقال القيادي في المجلس سيد علي أبو آمنة -للجزيرة نت- “إن بعض هؤلاء الموقّعين يحمل الجنسية الإريترية وشارك في حمل السلاح مع تنظيمات إريترية”.
وقال مسؤول أمني سوداني لصيق بملف العلاقات السودانية الإريترية، للجزيرة نت، إن الرئيس الإريتري أسياس أفورقي لديه قناعة بأن شرق السودان جزء من أمن بلده القومي بحكم الجوار والتداخل، لذلك فهو يسعى إلى أن تكون لديه علاقة خاصة مع المسؤولين في ولايات شرق السودان الثلاث (كسلا، والبحر الأحمر، والقضارف).
ويضيف المسؤول أن هناك جانبا آخر مرتبطا بشخصية أفورقي، فهو يعتبر نفسه أكثر قادة المنطقة خبرة ولديه رؤية، لذلك نجده مرة منغمسا في ملف سوداني وأحيانا في قضية إثيوبية أو صومالية أو في جيبوتي، ويلعب على التناقضات الدولية والإقليمية في تدخله بملفات دول الجوار.
لماذا منعت الخرطوم عبور الوفد؟
أرجع المسؤول الأمني السوداني سبب منع عبور وفد شرق السودان الشعبي لإريتريا إلى عدم اشتماله على ممثلين للحكومة السودانية، وقال للجزيرة نت إن “الأجهزة السودانية استدركت في اللحظات الأخيرة كيف تسمح بعقد اجتماع لحل خلافات بين مكونات سودانية في دولة أخرى دون وجود للحكومة؟ مع الأخذ بالاعتبار أن إريتريا تسعى لمصالحها في هذا الإقليم”.
لكن وزير الخارجية المكلف علي الصادق، قال -في تصريح وزعته الوزارة- إن وزارته تلقت طلبا من السفارة الإريترية بالخرطوم للاجتماع، لكن الخارجية لم ترد عليه، مما يعد رفضا للطلب.
وقال أحد الذين تمت إعادتهم من الحدود -طالبا عدم ذكر اسمه- إن “التحضير للاجتماع استغرق من الوقت أكثر من شهر. بعض زعماء القبائل تلقوا اتصالات هاتفية من مكتب الرئيس أفورقي مباشرة، والبعض الآخر اتصل بهم سفير إريتريا بالسودان عيسى أحمد عيسى، وآخرون من خلال وسيط سوداني”.
بدوره، أكد المسؤول الأمني أنه على الرغم من رفض الحكومة الطلب، فقد واصلت إريتريا تحضيراتها، وقال “إن كانت الأجهزة السودانية تعلم بهذه الاتصالات ولم تتخذ إجراء تجاهها، فهذا تقصير، وإن كانت لا تعلم فهي مصيبة كبرى”.
ما مصير الاجتماع؟
في تسجيل فيديو للسفير الإريتري بالخرطوم، قال -وهو يخاطب المدعوين إلى الاجتماع على الحدود، بعد أن منعتهم السلطات السودانية- “لن نيأس، وسنقوم بترتيبات وندعو إلى الاجتماع خلال 10 أيام”.
من جهته، قال سيد محمد الأمين ترك، ناظر قبائل الهدندوة ورئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة وأبرز الذين كان من المفروض أن يشاركوا في الاجتماع، إن “هناك ترتيبات بين الحكومتين السودانية والإريترية، وعند اكتمالها يمكن أن يعقد الاجتماع”.
المسؤول الأمني أوضح بدوره أن طبيعة أفورقي تجعله يؤكد أن أسمرا ستعيد الكرّة مرة أخرى، وتابع “ترتيبات الاجتماع تمت مباشرة من مكتب أفورقي، والآن الأمر أصبح تحديا شخصيا له، وبطبيعة شخصيته العنيدة التي لا تستلم بسهولة، سيحاول بشتى الطرق عقد الاجتماع، وقطعا سيكون له أثر على علاقة البلدين”.