هل العواصم الأوروبية مهددة بالظلام الشتاء القادم؟
لندن– تحولت أزمة الطاقة إلى كابوس يؤرق الدول الأوروبية كلما اقترب فصل الشتاء، بسبب تقليص روسيا إمداداتها من الغاز عبر خط “نورد ستريم” إلى الحد الأدنى وقرار الاتحاد الأوروبي الاعتماد على الغاز الروسي بنسبة 15% بحلول نهاية العام الجاري، مما دفع عددا من الحكومات الغربية إلى اتخاذ إجراءات احترازية لمواجهة هذه الأزمة.
فمن جهتها، أصدرت الحكومة الإسبانية قرارا بمنع إضاءة المواقع الأثرية ليلا، ومنع المحلات من إضاءة نوافذها بعد العاشرة ليلا، وتحديد درجة التدفئة في المرافق الحكومية، وكذلك فعلت ألمانيا، التي قررت خفض استهلاك العاصمة برلين من الطاقة بنسبة 10%، وتواجه العاصمة باريس خطر انقطاع الكهرباء عن بعض الأحياء خلال فصل الشتاء.
وأمام هذه الأزمة التي يقول الاتحاد الأوروبي إنها بسبب “تسليح روسيا لورقة الغاز”، تشير التوقعات إلى دخول القارة العجوز أسوأ فصل شتاء منذ عقود.
الجزيرة نت حاورت الخبير في مجال الطاقة أنطوان هالف -كبير الباحثين في “مركز سياسات الطاقة العالمية” (the Center on Global Energy Policy) والأستاذ في جامعة كولومبيا الأميركية- عن تطورات هذه الأزمة وتداعياتها على الاستقرار السياسي والاقتصادي في أوروبا.
قرارات خاطئة
في البداية، يفسر أنطوان هالف أسباب أزمة الطاقة التي تعاني منها أوروبا بأنها أزمة لا يمكن ربطها بالقرار الروسي لخفض إمدادات الغاز فحسب؛ فهي أزمة متعددة المستويات، وتنبع من تراكم العديد من العوامل التي اتخذتها الدول الأوروبية، “من بينها مثلا وقف التنقيب عن النفط والغاز في عدد من المناطق، وقرار وقف الاستثمار في مصادر الطاقة الهيدروكربونية، والتوجه نحو الطاقات النظيفة التي تحتاج إلى سنوات حتى تظهر ثمارها، كل هذا أسهم في ارتفاع اعتماد أوروبا على مصادر الطاقة الروسية وخصوصا الغاز”.
ويؤكد الأستاذ في جامعة كولومبيا الأميركية أن الحرب في أوكرانيا زادت من تعميق هذه الأزمة، “وسرعت من ظهور حجم الاعتماد الأوروبي على الطاقة الروسية، وكان الوضع سيكون أكثر سوءا في السنوات المقبلة، لأن أوروبا كانت ستستثمر المزيد في خطوط أنابيب الغاز لولا اندلاع الحرب”.
وتوقع أنطوان هالف أن تعيش أوروبا أزمة حقيقية خلال فصل الشتاء القادم، “وتبدو احتمالات حدوث أزمة شديدة في إمدادات الطاقة هذا الشتاء مرتفعة بشكل مخيف”، موضحا أن المشكلة الرئيسية في الانخفاض الحالي في إمدادات الغاز الروسي، واحتمال الوقف الكلي لكل إمدادات الغاز الطبيعي القادمة من روسيا باتجاه الغرب.
وسلط الضوء على النموذج الألماني، حيث إن الحكومة في برلين “لم تقم حتى الآن بتخزين ما تحتاجه من الغاز، وكانت تعول على استمرار تدفق 40% من الغاز الروسي، إلا أن هذه النسبة لم تعد مضمونة، وهو ما قد يفاقم الأزمة”.
الانقسام أو الوحدة
يميز أنطوان هالف بين مستويين في الأزمة التي تعيشها أوروبا في موضوع الطاقة، المستوى الأول على المدى الطويل، ويرى أنه “ليس من المستحيل على أوروبا تعويض الانقطاع التام من صادرات الغاز الروسي، لكن هذا الأمر يتطلب عملا شاقا، ودرجة عالية من التنسيق وجهدا استثنائيا من التعاون بين الاقتصادات الأكثر اعتمادا على الغاز الروسي وتلك الأقل اعتمادا عليه”.
أما المستوى الثاني، فهو على المدى القصير، حيث المخاوف من حدوث عجز في الطاقة خلال الشتاء المقبل، وهو كما يقول “سيدفع كل دولة للدفاع عن مصالحها أولا، كما أن الدول الأقوى في الاتحاد هي الأكثر اعتمادا على الغاز الروسي، مثل ألمانيا وإيطاليا، وهذا الخلاف من المرجح أنه قد يقوض وحدة الاتحاد الأوروبي، في مواجهة ضغوط تناقص العرض من مصادر الطاقة بقدر ما قد يكون فرصة لتقوية أوروبا إن خرجت من هذه الأزمة منتصرة ومتعاونة، ولهذا فهي لحظة تاريخية وفارقة”.
دفع الثمن
كما أكد أنطوان هالف أن تداعيات أزمة الطاقة تختلف في الدول الأوروبية حسب درجة اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، وفي صدارة القائمة هناك ألمانيا وإيطاليا، فكلتاهما تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، ويرى الخبير الدولي في سوق الطاقة أنه “بدون مساعدة من بقية الدول الأوروبية، فمن الصعب عليهما تجاوز هذه الأزمة، وهذا ما قد تكون له انعكاسات سياسية داخلية”.
وهناك بعض دول أوروبا الشرقية، التي تعتمد بشكل أكبر على الغاز والنفط الروسيين، ولكن بطبيعة الحال، فإن مستوى استهلاك هذه الدول للغاز أقل بكثير مقارنة بكل من ألمانيا وإيطاليا؛ وبالتالي، فتخليها عن الغاز الروسي لن يخلق أزمة كبيرة داخل الاتحاد الأوروبي.
ثم هناك دول جنوب أوروبا، وخصوصا فرنسا وإسبانيا، فكلتاهما أقل اعتمادا على الغاز الروسي ولن تتأثرا كثيرا بهذه الأزمة.
ويشدد أنطوان هالف على أن الدول الأوروبية ستدفع الثمن قبل تحقيق الاستقلالية عن الغاز الروسي، ويقول “هناك ثمن يجب أن يدفع بكل تأكيد، سواء تعلق الأمر بخطة عمل منسقة بين دول الاتحاد الأوروبي، أو نتيجة استجابة غير منظمة لاختلالات السوق، والقرارات الروسية، فسوف يتعين على أوروبا تقليل استخدامها للغاز الروسي هذا الشتاء مهما كان الثمن”، لافتا إلى أنه “يجب التركيز على أن إجراءات تقليص الاستهلاك للطاقة خلال فصل الشتاء لن تكون كافية لحل هذه الأزمة، ويجب اتخاذ إجراءات جذرية أخرى لحل هذه الأزمة”.