نشرت مجلة إيكونوميست (The Economist) البريطانية تقريرا طويلا يقول إن الجيوش بدأت تتعلم من جديد الطرق الصحيحة لحروب المدن، وذلك بسبب الحروب في السنوات الماضية في العراق وأوكرانيا وأذربيجان وغيرها، وأوردت الكثير من التفاصيل حول طبيعة حروب المدن واختلافها عن حروب الفضاءات المفتوحة.
ويقول التقرير -ضمن عرضه للأسباب التي تجعل حروب المدن تجتذب اهتمام الجيوش حاليا- إن المعارك على المدن كانت مركزية في العديد من الحروب العصرية. فقد كانت الحرب من أجل الاستيلاء على شوشا -وهي مدينة تقع داخل إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه بأذربيجان- حاسمة في الصراع بين أرمينيا وأذربيجان عام 2020.
وكذلك كانت حربا الموصل في العراق والرقة في سوريا. وفي أوكرانيا، قاتلت روسيا من شارع إلى شارع للاستيلاء لا على ماريوبول فقط، بل على مدن أخرى داخل منطقة دونباس، كما تأمل أوكرانيا حاليا في استعادة خيرسون.
أساسيات حروب المدن موجودة
ويشير التقرير إلى أنه بالرغم من وجهتي النظر المختلفتين حول أهمية حروب المدن، بين من يرون المدن ساحات حاسمة للقتال وأولئك الذين ينظرون إليها على أنها عروض جانبية مدمرة يجب منعها بأي شكل من الأشكال، هناك اتفاق على عامل واحد هو أنه على الرغم من نسيان الكثير عن حروب المدن، فإن أساسياتها لا تزال موجودة، “لقد تم تعلم كل شيء من قبل، لكننا لا نعلّمها وندرّسها، وربما تكون هذه أكبر خيبة أمل”.
ونقل التقرير عن ديفيد بيتز من كينغز كوليدج لندن والضابط البريطاني الرائد هوغو ستانفورد توك، قولهما إن الجيوش العصرية بحاجة إلى التفكير في أفضل طريقة لخوض معارك المدن بأسلحة عصرية.
وأشار التقرير إلى أن اللواء مارك ميلي، أكبر ضابط أميركي سنا، أصدر في خطاب ألقاه أمام الأكاديمية العسكرية للولايات المتحدة في مايو/أيار الماضي، تعليمات للطلاب المتخرجين بضرورة إعادة تجهيز المدن مع تفاصيلها وما يتعلق بها من أنماط التمويه والأسلحة إلى تصميم السيارات والخدمات اللوجستية.
ازدياد معدل السكان باستمرار
وأشار التقرير أيضا إلى ازدياد عدد سكان المدن بشكل مستمر. فحتى بداية القرن الجاري، كان عدد من يعيشون في المدن أقل ممن يعيشون في المناطق الريفية، والآن أصبح أكثر من نصف سكان العالم يقيمون في المدن، ومن المتوقع أن يرتفع عدد سكان المدن إلى ثلثي مجموع سكان العالم بحلول عام 2050، ولفت الانتباه إلى أنه إذا غزت الصين تايوان حاليا، فسيتوجب على الجيش الصيني أن يشق طريقه عبر مدن الجزيرة التي يقيم فيها 80% من سكانها.
وأضاف أنه على الرغم من خوض الحروب في المدن وما حولها منذ العصور القديمة، فإن القليل منها شُن داخل مدن ضخمة ومتطورة للغاية مثل نيويورك وطوكيو.
وحشية ومدمرة
وعن طبيعة حروب المدن، قال إنها تشتهر بالوحشية والتدمير، إذ توفر المناطق المبنية التغطية والحماية لمن يقاتلون داخلها، وقد تكون المباني مليئة بالألغام والأشراك الخداعية، كما أنها تقتضي من المهاجم والمدافع أن يكون في حالة تأهب مستمر، وهو ما يضعف أعصاب الجنود. والقتال في الأدغال أو الغابات له صعوبات مماثلة، لكن وجود المدنيين في المدن يجعل كل شيء مختلفا.
وقال إن قتال الجيوش في المدن الكبرى عادة ما ينتهي بها كمجموعات “حصار صغيرة محلية”، ونقل عن بيتر منصور العقيد المتقاعد الذي قاد اللواء الأول في الفرقة الأميركية المدرعة الأولى في بغداد عام 2003: “يمكن أن يستهلك مبنى واحد كتيبة كاملة (ما يصل إلى ألف جندي) في قتال ليوم واحد”.
وأشار إلى أن الأسلحة المتفجرة الحديثة صُممت إلى حد كبير لمعارك الحرب الباردة في سهول أوروبا. لذلك، عندما يتم استخدامها في مناطق مأهولة بالسكان، فإن ما لا يقل عن 9 من كل 10 ضحايا يكونون من المدنيين.
وحتى القنابل الجيدة يمكن ألا تكون حلا. ففي الموصل، أصابت الضربات الجوية الأميركية المباني بدقة غير عادية، إلا أن المدافعين كانوا يهربون باستمرار إلى أماكن أخرى، وقُتل أكثر من 10 آلاف مدني في هذه المدينة.
المدنيون ليسوا متفرّجين
وسكان المدينة عادة ليسوا متفرجين سلبيين طوال الوقت. فالعاصمة الأوكرانية كييف كان يدافع عنها لواء أوكراني وحيد، يدعمه متطوعون مدنيون تسلموا عشرات المئات من بنادق “إيه كيه -47” (AK-47) في بداية الصراع.
ومن السمات الأخرى للمدن أنها تميل إلى التمدد تحت الأرض، نظرا لاستغلال مجاريها وكهوفها وإنشاء أنفاق جديدة بعضها ضخم بما يكفي للسيارات، باستخدام كل شيء من الأدوات اليدوية إلى آلات الحفر المرتجلة، وتجهيز أكثرها بالمهاجع والمستشفيات وبرامج تدفق الهواء.
وإلى جانب المناقشات العالية المستوى حول التقنية، يقول التقرير إن الجيوش تهتم بالطرق داخل المدن. ونسب إلى المهندس المعماري البريطاني الإسرائيلي إيال وايزمان وصفه كيفية استخدم الجنود الإسرائيليين الذين قاتلوا داخل مدينة نابلس الفلسطينية عام 2002، طريقة “المشي عبر الجدران”. ويتضمن ذلك فتح طريق بالتفجير عبر المباني بشكل طفيف بدلا من استخدام المداخل والطرق الموجودة، وهي طريقة اشتهرت لأول مرة من قبل منظري البحرية الفرنسية الذين كتبوا عن معارك القرن التاسع عشر حول باريس.
وأدى ذلك إلى نقاش حول تحديد ماهية الزقاق، فعلى سبيل المثال: هل هو مكان للسير فيه، كما يفهمه كل مهندس معماري ومخطط مدينة، أم هو مكان يمنع السير فيه؟ النتيجة -كما يقول وايزمان- أن حرب المدن الحديثة هي نوع من الحرب في عصر ما بعد الحداثة تقريبا: “تصوّر للمدينة على أنها ليست موقعا فقط، بل وسيطا للحرب نفسها مرنا وشبه سائل”.