الأزمة الاقتصادية الروسية بدأت بانخفاض حاد في قيمة الروبل الروسي مقابل العملات الأجنبية (شترستوك)

الأزمة الاقتصادية الروسية بدأت بانخفاض حاد في قيمة الروبل الروسي مقابل العملات الأجنبية (شترستوك)

موسكو– لم تمر ساعات على إعلان موسكو بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، حتى سارعت الدول الغربية لفرض أوسع حزمة من العقوبات على روسيا، مما جعلها تتصدر بلدان العالم من حيث عدد القيود المفروضة.

وبدأت مناقشة العقوبات في البداية فور إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال كل من دونيتسك ولوغانسك جمهوريتين مستقلتين في 22 فبراير/شباط الماضي، أما السبب الأبرز للعقوبات، فهو ما حصل بعد يومين، عندما أعلنت موسكو عما أطلقت عليها “العملية العسكرية الخاصة”.

 

ولإبراز الحجم الهائل والطبيعة القاسية لهذه العقوبات، تكفي الإشارة إلى تصريح للرئيس الأميركي جو بايدن بأن العقوبات هي بديل عن حرب عالمية ثالثة.

رقم قياسي

وبحلول السابع من مارس/آذار الماضي، أصبحت روسيا رائدة العالم من حيث عدد العقوبات المفروضة عليها، متجاوزة إيران، وبحلول 22 مارس/آذار الماضي، بلغ عدد الأفراد والكيانات الروسية الخاضعة للعقوبات 7116.

وبدأت الأزمة الاقتصادية بانخفاض حاد في قيمة الروبل الروسي مقابل العملات الأجنبية مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، تبعتها عقوبات اقتصادية لاحقة -فرضتها عدة دول غربية وحلفائها- استهدفت القطاع المصرفي، والبنك المركزي، وقطاعات في الاقتصاد وعدد من الشركات، وطالت كذلك الرئيس فلاديمير بوتين نفسه، وعددا من كبار رجال الدولة ورواد الأعمال وغيرهم.

مرحلة الصدمة

مر الاقتصاد الروسي بأوقات عصيبة مع الأشهر الأولى للعقوبات الأخيرة، فحسب الإحصاءات الرسمية حينها، بلغ معدل التضخم السنوي في البلاد مايو/أيار الماضي 17.8%.

لكن الدولة أعلنت ما يشبه “الحرب المضادة” وقامت بأكبر عملية لدعم العملة المحلية أدت في نهاية المطاف إلى تعافيها إلى حد كبير، ووصل سعر الروبل إلى مستوى أفضل مما كان عليه عشية العقوبات.

ولا يعني ذلك في كل الأحوال تعافي الاقتصاد ككل، فلم يُلغَ الحظر وما زالت الأصول الروسية مجمدة في البنوك الأجنبية، كما أن مئات الشركات الأجنبية التي غادرت الأسواق الروسية ترفض العودة إليها.

ومع ذلك، أصبح موضوع جدوى العقوبات الغربية على روسيا -لا سيما بعد نصف عام من بدء الحرب مع أوكرانيا- من أكثر المواضيع التي تثار في الآونة الأخيرة.

ويذهب كثير من الخبراء الغربيين أنفسهم إلى وصفها بأنها لا تجدي نفعا، فقد وصلت إلى الحد الأقصى، ويهدد توسعها بإلحاق الكثير من الضرر ببقية العالم والدول الغربية نفسها، ويكاد الساسة والمحللون الغربيون يجمعون على أنها بالحد الأدنى لم تغير من سلوك الكرملين.

تقييمات رسمية

بعد فرض العقوبات الواسعة النطاق، قدمت وزارة التنمية الاقتصادية في أبريل/نيسان 2022 السيناريو الأول للتنمية الاقتصادية في البلاد، الذي بموجبه كان الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في نهاية العام متوقعا عند 8.8%، وفي عام 2023 يمكن أن ينمو الاقتصاد الروسي بنسبة 1.3%، ولكن في مايو/أيار الماضي، حسنت الوكالة توقعاتها إلى ما بين 7% و8% لهذا العام، في حين تراجعت تقديراتها لعام 2023 إلى0.7%.

في الوقت نفسه، توقعت الوزارة أن تكون ذروة الانكماش الاقتصادي في الربع الرابع من عام 2022، وليس في الربع الثالث، كما كان يفترض سابقا.

لكن البنك المركزي -في تقرير له- مايو/أيار الماضي أعطى المزيد من التقديرات السلبية، إذ أكد خبراء من البنك أن عدم اليقين بشأن آفاق تطور الوضع الاقتصادي في البلاد لا يزال مرتفعا.

ووفقا لهؤلاء، ستؤدي القيود المفروضة على التجارة الخارجية والتعاون مع الدول الأخرى إلى تغييرات هيكلية كبيرة في الاقتصاد الروسي قد تستغرق بعض الوقت.

وعلى هذا الأساس، قد تحتاج روسيا إلى نحو سنة ونصف السنة أو سنتين لتغيير الطرق اللوجستية، والبحث عن بدائل للسلع المفقودة، وتطوير التقنيات، وتغيير الأصناف والسلع، وترميم سوق العمل.

لكن بعد استقرار الاقتصاد -وفق التقرير- سيكون النمو محدودًا في البداية، وقد يتسارع بمرور الوقت إذا نجحت الدولة في معالجة المشكلات الأساسية في الاقتصاد.

وبالعودة إلى التقديرات الرسمية، يتوقع البنك المركزي بنهاية العام الحالي تضخما عند مستوى 18-23%. في الوقت نفسه، سينخفض الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 8 إلى 10% ، وفي عام 2023 سيتباطأ التراجع الاقتصادي إلى نحو 3%.

الاقتصاد العالمي في خطر

لا بد من الإشارة هنا إلى الخيارات المحتملة لتأثير العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والتوتر الجيوسياسي المرتبط بها على التجارة العالمية.

وفي هذا السياق، كان محللو المنتدى الاقتصادي العالمي قد وضعوا مجموعة من السيناريوهات لتطور الأزمة والآثار المترتبة نتيجة ذلك على الاقتصاد العالمي، كإعلان “مقاطعة” تجارية ضد روسيا، وفرض عقوبات إضافية عليها، وفي حال استمر الصراع، فستتوسع القيود، وسيغادر المزيد من الشركات العالمية السوق الروسية.

في الوقت نفسه، لن يتم استبعاد روسيا من منظمة التجارة العالمية، ولكن إذا استمر الصراع، سيتم اللجوء إلى زيادة الرسوم الجمركية والحظر على تجارة التصدير معها.

أما السيناريو الثاني، فيفترض أنه في حال وقف إطلاق النار و”هدنة مقنعة” مع أوكرانيا، يمكن استعادة العلاقات التجارية بين روسيا والدول الأخرى بشكل تدريجي.

ووفقًا للمحللين، سيقلل هذا من مخاطر المزيد من التجزئة في نظام التجارة العالمي.

وفي السيناريو الثالث، قد يتم فرض عقوبات ثانوية على دول منظمة التجارة العالمية التي تدعم روسيا ماليا، كما قد تخضع دول منظمة التجارة العالمية لقيود إذا قدمت معدات عسكرية أو ذخيرة لروسيا.

تأثيرات طويلة الأمد

وفق خبراء روس، سيستمر تأثير عقوبات العام 2022 على الاقتصاد الروسي من 10 إلى 15 عاما، وبرأيهم، تنتظر البلاد 3 سيناريوهات لتطور الأحداث:

  • الانتقال إلى الاكتفاء الذاتي
  • التأقلم مع نمط الحياة المعتاد من خلال الجمود مع مرحلة ركود طويلة الأمد
  • الصراع من أجل النمو

لكن هؤلاء انقسموا بين من يرجح أن تراهن السلطات على تعزيز النمو، ومن يرجح السيناريو الثاني: الجمود والركود.

وحسب المحلل الاقتصادي أنطون فيليكجانوف، فإن العقوبات في كل الأحوال لم تؤد لتدهور حاد في الاقتصاد أو التسبب في توترات في المجالين الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.

ويضيف -في حديث للجزيرة نت- أن العقوبات كقاعدة عامة “لا تعمل”، بمعنى أن الأهداف التي حددتها الدول التي فرضت العقوبات ضد روسيا لم تتحقق؛ إذ لم تغير القرارات أو السياسات الروسية، فضلًا عن “انهيار النظام”، وفق تعبيره.

لكنه يشير إلى أنه لن يكون من الممكن ببساطة انتظار انتهاء العقوبات والحظر الاقتصادي، أما التسهيلات المرتبطة بـ”التآكل” الطبيعي لنظام العقوبات، فقد تظهر بعد 3-4 سنوات فقط.

بدوره، يستبعد الخبير الاقتصادي فيكتور لاشون فكرة اللجوء إلى سياسة الاكتفاء الذاتي، موضحا أنه لطالما كانت روسيا عبر التاريخ، بما في ذلك التاريخ الحديث، على اتصال وثيق بالعالم الخارجي، بشرقه وغربه، وحتى الآن، لم تقطع معظم دول العالم العلاقات التجارية والاقتصادية الخارجية مع روسيا، لذا فإن هذا الخيار -برأيه- مستبعد تماما.

أما السيناريو الأكثر ترجيحا، وفقا له، فهو مسار الجمود المؤسسي مع بعض الأدوات “المتناثرة” من أجل النمو، لأن حالة عدم اليقين العالية للوضع الاقتصادي الحالي تجعل من شبه المستحيل تنفيذ سياسة تنمية متماسكة.

المصدر : الجزيرة

About Post Author