حربان باردتان في عالم جديد ثنائي القطب
يرى روبرت ليغفولد أستاذ العلوم السياسية في جامعة كولومبيا الأميركية أن الآراء اختلفت بشأن ما إذا كان النظام الدولي الحالي أحادي القطب أم أصبح متعدد الأقطاب، قائلا إن الجدل بين الخبراء والمحللين السياسيين يدور حول الطبيعة المتغيرة لهذا النظام ومساره الطليق غير المقيد.
ويضيف في مقاله بمجلة “ناشونال إنترست” (The National Interest) الأميركية أن الباحث السياسي صامويل هنتنغتون الذي اشتهر ببحثه “صِدام الحضارات”، جادل في وقت سابق بأنه نظام “أحادي الأقطاب”، بمعنى أنه يشتمل على عناصر مشتركة بين الأحادية القطبية وتعددية الأقطاب.
وهناك من يقول إنه ببساطة غير قطبي، كما يعتقد ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية (Council On Foreign Policy).
نظام دولي ضرب من الوهم
وشيئا فشيئا، تحولت بؤرة الاهتمام إلى المصير الغامض للنظام الدولي الليبرالي الحالي الذي لطالما كان برأي المنظرين الواقعيين -من أمثال جون ميرشايمر وستيفن والت- ضربا من الوهم، كشفت سياسات القوى العظمى القناع عنه.
وبالنسبة لأنصار هذا النظام -مثل العالِم السياسي جون إيكينبيري- فإنه لا يزال قائما ولكنه يتعرض لهجوم لاذع ليس من قبل منافسيه الروس والصينيين فحسب، بل لإخفاق مهندسيه الديمقراطيين في حمايته.
على أن معظم المحللين الغربيين رأوا في الأمر مزيجا من هجوم الطرفين: فالروس والصينيون يشكلون تهديدا لـ”نظام دولي قائم القوانين، في حين أن الحكومات الديمقراطية عاجزة عن التعامل مع المشكلات في الداخل والخارج”.
وفي نظر المفكرين الروس والصينيين، فإن النظام الدولي الليبرالي لا يعدو أن يكون “فكرة” غربية بقيادة أميركية، تتهاوى الآن بينما تكتسب دول أخرى القوة والدفاع عن مصالحها.
إحدى الحربين الباردتين قائمة بالفعل
ولكن ماذا لو تبين أن السمة الغالبة في السياسة الدولية خلال العقود المقبلة ستتمثل في حربين باردتين متشابكتين في عالم ثنائي القطب؟ يتساءل ليغفولد قبل أن يستطرد قائلا إن إحدى هاتين الحربين قائمة بالفعل.
لكنه يؤكد أن الولايات المتحدة وروسيا دخلتا غمار حرب باردة جديدة منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية قبل 8 سنوات.
وعلى عكس الحرب الباردة الأصلية، فإن الحرب الجديدة لم تكن مدفوعة بعداء أيديولوجي، ولم يتسع نطاقها بحيث توشك أن تتحول إلى كارثة نووية، ولم تعصف بالنظام الدولي برمته، لكنها تشترك معها في خصائص أساسية، وفق كاتب المقال.
افتقار القدرة على التقييم
ومثلما حدث إبان حقبة الحرب الباردة الباكرة، اختفت القدرة على تقييم الذات واستبطان الأمور بعد عام 2014، وأنحى كل طرف باللائمة على الآخر في انهيار العلاقات بينهما.
ثم اعتقد كل منهما -كما كان في السابق- أن السبب الأساسي في الصراع لم ينشأ من تفاعل حافل بالاحتكاكات، ولكن من تصرف الطرف الآخر الذي لا يتعلق بتضارب في المصالح بل بتناقض الأهداف.
وهكذا -يقول ليغفولد- ظنت الدولتان (أميركا وروسيا) أن الوضع لن يتغير إلا بتغير جذري في طبيعة قيادة البلد الآخر، أو -على الأقل- بتغيير وجهة سياستها الخارجية بشكل جوهري.
ويلفت الأستاذ الجامعي في مقاله إلى أن الطرفين لم يتخذا ولو خطوات صغيرة لإحداث تحول في مسارهما الحالي، حيث أخفق المحللون وصناع السياسات من كلا الجانبين في إدراك أهمية هذا التغير النوعي في العلاقة منذ العقد السابق، عندما لم يكن أي منهما متأكدا تماما -بالنظر إلى سلبيات وإيجابيات التوسع في عضوية حلف الناتو- مما إذا كان الآخر صديقا له أم عدوا.
أضاعتا فرصة التجاوب مع المستجدات
ذلك أنه بعد زوال الاتحاد السوفياتي، لم تتجاوب أي من موسكو وواشنطن بالكامل قط مع الرهانات الكبرى في علاقاتهما، بيد أنهما أضاعتا فرصة الرد عندما وقعتا في براثن حربهما الباردة الجديدة.
وبعد أن فشلت الدولتان -وفق مقال ناشونال إنترست- في الاضطلاع بدور قيادي في إقامة نظام يحقق الاستقرار في عالم نووي جديد متعدد الأقطاب، فقدت الاثنتان الآن الإرادة والقدرة على إدارة علاقتهما النووية التي تزداد تعقيدا.
وفي الحرب الباردة الجديدة بين أميركا وروسيا، بات حلم إشاعة سلام في مجتمع أوروبي أطلسي يمتد من فانكوفر في كندا إلى فلاديفوستك في روسيا، ضربا من خيال مثير للسخرية، على حد تعبير ليغفولد.
ثم إن من الخصائص الأساسية التي تتسم بها الحربان الباردتان، أن “ضيق أفق” القادة في موسكو وواشنطن ساهما بشكل كبير -بطريقة أو بأخرى- في الانزلاق إلى “الكارثة” الأوكرانية الحالية، إذ لم يعد أي من الجانبين يسعى جاهدا لإدراك المخاوف التي تحرك تصرفات الطرف الآخر.
كما لم يعد أي منهما يعتقد أن من الأجدى لهما استجلاء أين يمكن -أو لا يمكن- التوفيق بين مصالحهما الأساسية التي تواجه وضعا حرجا، كما هي الحال في الأزمة الأوكرانية.
إدارة بايدن كررت الخطأ الأول
وانتقد الكاتب الإستراتيجية التي تتبعها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي كررت نفس نهج التعامل مع موسكو في الحرب الباردة الأولى، حيث انشغلت بإضعاف روسيا وعزلها وإقصائها من المنتديات والمؤسسات الدولية.
وقال إن من المفترض أن تستمر هذه الإستراتيجية طالما بقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سدة الحكم، مشيرا إلى أن العقوبات المفروضة على الكرملين لن تُرفع.
وأضاف أن الحرب في أوكرانيا حدّت من أوجه الاختلاف بين الحربين الباردة القديمة والجديدة. وبحسب المقال، فإن الفرق الوحيد المتبقي بين الحربين الباردتين يكمن في نطاقهما، فالحرب الباردة الأولى لم تترك بلدا إلا تأثر بها، ولم يكن أي جزء في العالم بمنأى عن مجال المنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
الصراع مع الصين سيعصف بالنظام بأكمله
ويمضي الكاتب إلى الحديث عن التنافس بين الولايات المتحدة والصين، قائلا إن الحرب الباردة بينهما ستعصف بالنظام الدولي بأكمله وتعيد صياغته، بمؤسساته وهياكل تحالفاته وتدفقات موارده الاقتصادية ومناطق صراعاته.
وفي تقدير كاتب المقال، فإن إستراتيجية إدارة بايدن الجديدة تجاه الصين تستلزم وضع خطة لاحتوائها. ومع ذلك، فإنه يرى أن حربا باردة بينهما ستحدث تحولا في النظام السياسي الدولي، لكنها ربما لن تسفر وحدها عن تغيير في هيكله “الذي بلا ملامح”.
وباقتران الحرب الباردة الأميركية الصينية مع الحرب الباردة الجديدة بين واشنطن وموسكو، فإن من شأن ذلك أن يمنح النظام مرة أخرى كيانا ثنائي القطب.
ويعود ليغفولد للحديث مجددا عن الحرب الباردة الأميركية الروسية، مشددا على أن السقوط الحاد في حرب باردة عميقة بين البلدين تبين إلى أي مدى يمكنها إفشال كل أشكال التعاون التعليمي والعلمي والتقني بسرعة ودقة.