تقنية سَلسَلة كامل الجينوم كانت التقنية الفارقة في حسم المعركة (شترستوك)

تقنية سَلسَلة كامل الجينوم كانت التقنية الفارقة في حسم المعركة (شترستوك)

في أواخر عام 2019، أبلغت الصين عن مرض تنفسي في إقليم ووهان يسبب الالتهاب الرئوي الحاد، وكانت هذه بداية تعرف البشرية على المرض الذي تبيّن أن مسبّبه فيروس جديد اصطلح على تسميته فيروس “سارس-كوف-2″ (SARS-Cov-2) الذي يسبب المرض المعروف الآن بـ”كوفيد-19” الذي تحوّل إلى جائحة عالمية.

وسجل الوباء معدل انتشار سريع جدا مقارنة بالأمراض التنفسية الأخرى كما تسببت متحوراته في حدوث موجات متعددة، وحتى منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2022 سجل العالم أكثر من 625 مليون إصابة مؤكدة بالفيروس، وأكثر من 6.5 ملايين وفاة، حسب الأرقام الرسمية.

 
تقنية سَلسَلة كامل الجينوم (whole genome sequencing) هي التقنية الفارقة في حسم المعركة
مواجهة البشرية لوباء كورونا ليست الأولى فقد عانت البشرية من أوبئة متنوعة على مدار التاريخ (غيتي)

مواجهة من نوع خاص

مواجهة البشرية لوباء كورونا ليست الأولى، فقد عانت البشرية من أوبئة متنوعة على مدار التاريخ المسجل مثل الطاعون والإنفلونزا. وكان لظهور المضادات الحيوية ثم اللقاحات أثر بالغ في التقليل من حدة انتشار الأوبئة الناتجة من مسببات بكتيرية وفيروسية.

ولكن الحال مع “كوفيد-19” كان مختلفا، فقد واجهته البشرية وهي مسلحة بمجموعة أسلحة لم تتوفر لها في الأوبئة السابقة، مما أدى إلى محاصرة الوباء وإنتاج لقاحات ناجحة بسرعة تحد من الإصابة به.

وقعت المواجهة هذه المرة بينما تتسلح البشرية بالعلم والتكنولوجيا المتطورة والقدرة على مشاركة المعلومات ورصد وتتبع انتشار الفيروس لحظيا. كما كان للقدرة على تطوير وإنتاج لقاحات جديدة بسرعة كبيرة وبكميات ضخمة أثر كبير في تحجيم الوباء وإنهاء الإجراءات الاحترازية.

DNA encoding. Text with primary nucleobases.
تقنية سَلسَلة الجينوم تمنح القدرة على معرفة تتابع الحمض النووي للجينوم الخاص بالكائن (شترستوك)

تحديد تسلسل الجينوم الكامل للفيروس.. التقنية الفارقة

من بين جميع التقنيات المتقدمة التي كانت في جعبة البشرية كانت تقنية سَلسَلة كامل الجينوم (whole genome sequencing) فهي التقنية الفارقة في حسم المعركة. وتقنية سَلسَلة الجينوم تمنح القدرة على معرفة تتابع الحمض النووي للجينوم الخاص بالكائن (تركيبه الوراثي)، ومن ثم تحديد جيناته ومنتجاتها من البروتينات ووظيفة كل منها.

هذه المعلومات تعدّ الأهم في طريق معرفة كل ما يخص أي كائن حي من صفات ووظائف بل نقاط ضعف، وهو بالضبط ما قدمه أول جينوم لفيروس كورونا المسبب لمرض كوفيد-19، والذي نشر في أوائل عام 2020.

 

أما على صعيد البحث العلمي، فقد كان نشر الجينوم الأول للفيروس إيذانا بانطلاق العلماء في شتى أنحاء الأرض ومن مختلف التخصصات في سباق مع الزمن لتحليل الجينوم وسبر أغوار الفيروس، كل في تخصصه وكل لغرضه.

فبينما اهتمت فرق من العلماء بالبحث عن إجابة للسؤال عن كيفية ظهور الفيروس، اهتمت فرق أخرى بدراسة آلية الإصابة وكيفية حدوث العدوى وكيفية الوقاية وآليات رد الفعل المناعي على الإصابة على المستويين الخلوي والجزيئي، وبالطبع اختبار الأدوية المعروفة وتطوير أدوية جديدة للعلاج ولقاحات للوقاية.

والواقع أنه يصعب حصر مجالات البحث التي استخدمت التسلسل الكامل لجينوم الفيروس، لكن من أهمها على الإطلاق المراقبة والتتبع لانتشار الفيروس جغرافيًّا وتحوره وراثيا ثم اتخاذ ردود أفعال بناء على ذلك وهو المجال الذي يسمى المراقبة والاستجابة (Surveillance and Response).

"Cracow/Poland - April 2020: A hand with a protective glove holding a transparent glass test tube with cotton-tipped applicator with a swab sample in an extraction solution for medical test."
المراقبة والاستجابة للأمراض المعدية والوبائية تعتمد على تحديد أماكن وتواريخ الإصابات ومتابعتها (شترستوك)

المراقبة والاستجابة والاعتماد على سَلسَلة جينوم الفيروس

تعتمد المراقبة (التتبع) والاستجابة (أخذ رد فعل) للأمراض المعدية والوبائية على تحديد أماكن وتواريخ الإصابات ومتابعتها لملاحظة معدل انتشار المرض أو انحساره، أو بتكوين بؤر وبائية أو غيرها مما يهم متخصصي علم الأوبئة، وترفع هذه المعلومات إلى الجهات المتخصصة لمساعدتها في اتخاذ القرار.

عند ظهور فيروس كورونا، كان هناك نظام مراقبة واستجابة أنشئ في عام 2008 لتتبع فيروس إنفلونزا الطيور.

فقد أنشأت منظمة الصحة العالمية هذا النظام وأطلقت عليه نظام المراقبة والاستجابة العالمي للإنفلونزا (Global Influenza Surveillance and Response System -GISRS) ضمن المبادرة العالمية لمشاركة بيانات إنفلونزا الطيور (Global Initiative on Sharing Avian Influenza Data) والمعروفة اختصارا بـ”GISAID“، وذلك ما أتاح منصة للعلماء من جميع أنحاء العالم لمشاركة بيانات انتشار الإنفلونزا في بلدانهم، لتصبح بيانات انتشار المرض مركزية ومحدثة بشكل دوري، ثم توسع النظام ليحوي مسببات مرضية أخرى، وقد أسهم ذلك في ظهور نظم أخرى تستخدم هذه البيانات في تطبيقات لم تكن متاحة من قبل، مثل مشروع التنبؤ بالسلالات القادمة (Next Strain) من المسببات المرضية المعدية الذي يضم حاليا بيانات 11 مسببا للأمراض المعدية السريعة الانتشار.

تقنية سَلسَلة كامل الجينوم (whole genome sequencing) هي التقنية الفارقة في حسم المعركة
في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2022 تجاوز عدد الجينومات لفيروس كورونا التي أرسلت في نظام “GISAID” نحو 13.5 مليون جينوم (شترستوك)

جينوم فيروس كورونا وأرقام غير مسبوقة

مع بداية الوباء اعتمدت منظمة الصحة العالمية على نظام “GISAID” لمشاركة بيانات فيروس كورونا وتخزينها، ومن ثم استخدام الأدوات المتوفرة لدراسة الجينومات الفيروسية وتحوراتها. وبدأت الدول المختلفة أخذ عينات وعمل سَلسَلة لكامل الجينوم، وثم مشاركتها على نظام “GISAID” بشكل دوري مع بيانات أساسية عن كل عينة تشمل الدولة والمدينة والمنطقة وتاريخ أخذ العينة وغير ذلك من البيانات الضرورية للمراقبة والاستجابة.

 

وقامت 215 دولة بمشاركة جينومات كاملة للفيروس، ففي منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2022 تجاوز عدد الجينومات المرسلة لفيروس كورونا (genome sequence submissions) في نظام “GISAID” نحو 13.5 ملايين جينوم.

والنتائج الأهم لهذا الجهد تتجلى في إتاحة إمكانية تتبع تحورات الفيروس زمانيا وجغرافيا، وإجراء تحاليل آنية تصنف التحورات تبعا لخطورتها، والإسهام في تسهيل وتسريع تطوير اللقاحات. كما قاد علماء المعلوماتية الحيوية جهود تطوير خوارزميات جديدة وبرامج حاسوبية ونماذج محاكاة لتحليل هذه البيانات والتنبؤ بتأثير التحورات على انتشار العدوى وأداء اللقاحات، معطين للبشرية أدوات تتوفر للمرة الأولى في مواجهة الأوبئة.

المصدر : مواقع إلكترونية

About Post Author