القاهرة- بعد أيام من تأكيد طرح شركات الدولة -بما فيها شركات الجيش- أمام المستثمرين، جدد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال لقاء مع رئيس الحكومة وقيادات بالجيش، الحديث عن طرح شركات تابعة للقوات المسلحة في البورصة المحلية.
وعقد السيسي -الثلاثاء الماضي- اجتماع ضم إلى جانب رئيس الوزراء مصطفى مدبولي كلا من رئيس هيئة الشؤون المالية للقوات المسلحة، ومدير جهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، ورئيس مجلس إدارة الشركة الوطنية للبترول، ورئيس مجلس إدارة الشركة الوطنية لإنتاج وتعبئة المياه الطبيعية “صافي”.
وحسب بيان المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، الذي لم ينفصل عن سلسلة تصريحات المسؤولين بهذا الشأن منذ عدة سنوات، استعرض الاجتماع الموقف من طرح الشركات التابعة لجهاز الخدمة الوطنية للتداول في البورصة، خاصة الشركة الوطنية للبترول وشركة صافي، وذلك بهدف توسيع قاعدة ملكيتها وجذب استثمارات القطاع الخاص.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2020، قالت وزيرة التخطيط هالة السعيد، إنه تم اختيار شركتين تابعتين لجهاز الخدمة الوطنية، هما الشركة الوطنية لتعبئة المياه الطبيعية (صافي) وشركة الوطنية للبترول، لطرحهما أمام القطاع الخاص للاستثمار فيهما كمرحلة أولى قبل طرحهما بالبورصة.
ونهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قال السيسي خلال الجلسة الختامية للمؤتمر الاقتصادي مصر 2022: “شركات الدولة مطروحة لكل الناس، بما فيها كل شركات القوات المسلحة”.
والحديث عن تخلي الجيش عن شركتي “وطنية” و”صافي” يأتي ضمن برنامج أكبر لإتاحة عدد غير محدد من شركات الدولة والجيش للقطاع الخاص للاستثمار فيها، من أجل توفير موارد دولارية من جهة، وتعزيز دور القطاع الخاص.
ورغم ذلك، فإن الاجتماع لم يكشف عن أي جديد بخصوص خطط الدولة بشأن موعد طرح الشركتين، ولا النسبة التي سوف يتم طرحها في البورصة أو أمام المستثمرين، سوى تكرار تصريحات رئاسية وحكومية صدرت قبل سنوات منذ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على خطة إصلاح اقتصادي عام 2016، بشأن ضرورة المضي قدما في تلك الخطط.
تجدد وعود الطرح
في كل مرة تلجأ فيها مصر إلى صندوق النقد الدولي، يكرر المسؤولون حديثهم بشأن طرح شركات حكومية وأخرى تابعة للجيش للاستثمار المباشر من دون ترجمة هذه التصريحات إلى خطوات حقيقية على أرض الواقع، وفق مراقبين.
وفي اتفاق شكّل شريان حياة للاقتصاد المصري، أعلن صندوق النقد الدولي، نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، توصله مع مصر إلى اتفاق تمويل قيمته 3 مليارات دولار، تزامنا مع خفض قيمة العملة المحلية بنسبة 15% ورفع الفائدة 2%.
كما تتعارض التصريحات الحكومية باقتراب طرح شركتي وطنية وصافي مع تصريحات المدير التنفيذي لصندوق مصر السيادي أيمن سليمان، الذي قال في تصريحات سابقة، نهاية الشهر الماضي، إن ظروف البورصة غير مواتية لطرح الشركتين خلال العام الجاري.
وقبل 3 سنوات في أكتوبر/تشرين الأول 2019، أعلن السيسي نية الدولة طرح بعض شركات القوات المسلحة في البورصة المصرية، قائلا إن الدولة المصرية تسير في خطة طرح عدد من الشركات والأصول الحكومية في البورصة منذ 3 سنوات، وهو الحديث الذي لا يزال يتكرر من وقت لآخر.
وفي الشهر ذاته من العام نفسه، قال وزير المالية المصري محمد معيط إن بلاده بدأت محادثات جديدة مع صندوق النقد الدولي للحصول على حزمة تمويلية جديدة والتي حصلت عليها بالفعل في يونيو/حزيران من العام ذاته بقيمة 5.2 مليارات دولار.
هل هو بطء أم مراوغة؟
كل وعود الحكومة بخصوص طرح شركات تابعة للدولة في البورصة منذ عام 2018 لم تتحقق حتى الآن إلا في أضيق الحدود، في خطوة وصفها خبراء ومحللون اقتصاد بأنها محاولة لكسب الوقت والرهان على تحقيق نجاح اقتصادي لتفادي القيام بتلك الخطوة، ولكن يبدو أن الحكومة لم تنجح في رهانها حتى الآن.
فقبل أكثر من 6 سنوات، أعلنت الرئاسة المصرية في يناير/كانون الثاني 2016 أن الحكومة ستطرح حصصا في الشركات والبنوك الحكومية الناجحة في البورصة خلال الفترة المقبلة.
وفي مارس/آذار 2017، وافقت وزارة البترول على طرح ما يصل إلى 24% من أسهم “إنبي”، وهي الهندسية للصناعات البترولية والكيماوية، إحدى شركات قطاع البترول المصري الكبرى.
وفي مارس/آذار 2018، قال وزير المالية المصري إن بلاده تستهدف طرح حصص في ما بين 4 و6 شركات حكومية بالبورصة خلال 2018، لجمع 12 إلى 15 مليار جنيه (679-848 مليون دولار حينها).
وفي سبتمبر/أيلول 2022، قالت وزارة التخطيط إن الحكومة ستعلن خلال 4 أسابيع هوية الشركات المملوكة للدولة التي ستطرحها أمام الصناديق السيادية العربية والأجنبية ضمن الشريحة الأولى من حصص الأسهم الإستراتيجية التي تقدر قيمتها الإجمالية بنحو 6 مليارات دولار.
وفي تقرير لمركز كارنيغي للشرق الأوسط، دفع توسُّع الامتداد الاقتصادي للقوات المسلحة بصندوق النقد الدولي إلى التحذير في سبتمبر/أيلول 2017 من أن “تدخّل الكيانات التابعة لوزارة الدفاع قد يتسبب بتعطيل” استحداث الوظائف وتطوير القطاع الخاص.
وغيرها الكثير من الوعود التي لم تحدث حتى الآن أيضا.
تضارب الأرقام والأزمان
عام 2018، كشفت الحكومة المصرية، لأول مرة، عن عزمها طرح حصص في 23 شركة في إطار برنامج لجمع 80 مليار جنيه خلال 24 إلى 30 شهرا من أجل توسيع قاعدة الملكية وزيادة رأس المال السوقي للبورصة وزيادة قيمة وحجم التداول اليومي.
وحسب مواقع صحفية محلية وبيانات حكومية، فإن كل ما تم تنفيذه كان طرح حصة صغيرة من شركة الشرقية للدخان عام 2019، ثم طرح شركة “آي فينانس” المتخصصة في التكنولوجيا المالية في الربع الأخير من العام الماضي فقط.
ورغم عدم تقيد الحكومة المصرية بما أعلنته حول العدد والمدة الزمنية للشركات التي تعتزم التخلي عن حصص بها، فإن التصريحات الأخيرة تشير إلى تراجع هذا العدد كثيرا، مما يثير تساؤلات حول طبيعة تلك الأرقام المتناقضة والمتضاربة.
ومن 23 شركة كان يفترض طرح حصص بها، كشف رئيس الوزراء المصري عن أنه سيتم طرح عدد من الشركات التابعة للقطاع العام في البورصة، منهم 10 شركات قطاع عام وشركتان للقوات المسلحة ضمن جهود الدولة لإتاحة أصول مملوكة للدولة بقيمة 40 مليار دولار للشراكة مع القطاع الخاص المصري أو الأجنبي لمدة 4 سنوات.
وتستهدف الحكومة رفع مشاركة القطاع الخاص بنسبة 65% خلال الـ3 سنوات القادمة بدلا من 30% حاليا، ضمن خطة الدولة المصرية للتعامل مع الأزمة الاقتصادية العالمية، التي وصفها مدبولي بأنها “الأسوأ” منذ 100 عام.
وهناك 60 شركة تابعة للجيش تعمل في 19 صناعة، من إجمالي 24 مدرجة على جدول تصنيف الصناعات، حسب تقديرات البنك الدولي.
ويسيطر جهاز مشروعات الخدمة الوطنية -التابع للمؤسسة العسكرية- على 32 شركة، تم إنشاء ثلثها بعد عام 2015، حسب تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” (Financial Times).
ويملك الجيش 51% من أصول شركة تتولى تطوير العاصمة الإدارية الجديدة -تقع على بعد 60 كيلومترا شرقي القاهرة- التي تقدر استثماراتها بنحو 45 مليار دولار.
وصرح مدبولي بأن حجم اقتصاد الجيش لا يزيد على 1% من الاقتصاد الكلي، وأكد رئيس الدولة أن القوات المسلحة لا تعمل بأكثر من 3%من الناتج القومي.
كم نسبة تخلي الجيش عن الشركات؟
قد تصل نسبة تخلي الجيش عن الشركات -التي ستدخل ضمن برنامج الطرح فقط- إلى التخلي عنها بالكامل، حيث كشف الرئيس التنفيذي لصندوق مصر السيادي عن كون الخطة الأولية تستهدف بيع ما يقارب 100% من أسهم 10 شركات يمتلكها جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، حيث سيساعد الصندوق في اختيار الأصول والترويج لها أمام المستثمرين.
لكن هذا لا يعني تخلي الدولة عن تلك الشركات تماما، فبحسب تصريحات سليمان لوكالة “بلومبيرغ” (Bloomberg)، فهناك احتمالية مشاركة صندوق مصر السيادي في الطروحات عبر الاستحواذ على حصص أقلية بتلك الشركات.
وأرجع السيسي -في أكثر من مناسبة- دور الجيش في المشروعات الكبيرة التي نفذتها الحكومة منذ عام 2014 وحتى الآن إلى قدرات القوات المسلحة على تنفيذ مشاريع البنى التحتية الضخمة بوتيرة أسرع بـ3 إلى 4 مرات من القطاع الخاص، وتسهيل العقبات فضلا عن وجود جهة إشراف واحدة تستطيع تحقيق الإنجازات في التوقيت المحدد، معتبرا أن ما تحقق في سنوات لم يكن ليتحقق في عقود.
لماذا التسويف والتأجيل؟
قالت وزيرة التخطيط المصرية عن سبب تأجيل الحكومة المستمر لتطبيق برنامج الطروحات، إنه يعود إلى الظروف العالمية غير المستقرة، ولذلك فإن الأسعار الحالية للأسهم لا تعكس قيمتها الحقيقية في السوق.
وأشارت إلى أنه تم إنشاء “صندوق ما قبل الطرح” تابع لصندوق مصر السيادي، لتهيئة الشركات قبل طرحها في البورصة، ثم طرحها في الوقت الملائم الذي تتفق عليه لجنة الطروحات الحكومية.
هذا التأجيل قد تكون له أسباب أخرى حسب الكاتب البريطاني أندرو إنغلاند، الذي أشار -في مقال له بصحيفة فايننشال تايمز، نهاية الشهر الماضي، تحت عنوان “مصر وصندوق النقد: هل بمقدور السيسي أخذ الاقتصاد من أيدي الجيش”- إلى تولد قناعة قوية لدى المسؤولين المصريين بضرورة رفع القيود والضغوط على القطاع الخاص وتقليص دور الدولة والجيش في الاقتصاد -الذي يعاني بقوة- قبل فوات الأوان.
الأمر مختلف هذه المرة
من المؤكد أن المحرك الرئيسي للسياسة الاقتصادية في مصر حاليا هو شروط قرض صندوق النقد الدولي، وفقا للخبير الاقتصادي إبراهيم نوار الذي قال “كما ذكرنا في أكثر من مناسبة، يهدف إلى تحقيق إصلاحات هيكلية في بنية الاقتصاد وتحرير أسواق الاستثمار والنقد والسلع والتجارة، والحد من الاحتكار الذي تمارسه المشروعات المملوكة للدولة”.
وأوضح، في تصريحات للجزيرة، أن هذه المرة قد يكون الأمر مختلفا، الحكومة كانت قد وعدت من قبل بطرح شركات مملوكة لها للبيع في البورصة، لكن ذلك لم يتحقق.
هذه المرة -يضيف نوار- من الضروري أن تثبت الحكومة حسن نيتها وعزمها فعلا تحويل الوعد إلى حقيقة، كما فعلت في سعر الدولار، وطرح كل أسهم -أو حصة من أسهم- عدد من الشركات للبيع.
وطبقا لشروط القرض، فإن المسألة لن تكون مجرد التعبير عن “حسن النية”، بل يجب على الحكومة أن تثبت أنها “سياسة” تلتزم بها، وفق تعبيره.
وأكد نوار أن تقليص ملكية الشركات المملوكة للدولة من شأنه أن يقلل من الممارسات الاحتكارية، ويفتح أبواب المنافسة في السوق، وهذا سيعزز دور القطاع الخاص، لكن تحقيق المنافسة في السوق يتطلب أيضا تعديلات تشريعية كثيرة معوقة للسوق، مثل قانون المزادات والمناقصات، الذي يقنن عمليات إرساء الصفقات بالأمر المباشر.
وشدد الخبير الاقتصادي على ضرورة أن تعود إيرادات بيع الشركات على الاقتصاد الوطني بالخير، وذلك بتوسيع طاقات عرض السلع والخدمات، وإضافة طاقات إنتاجية جديدة، والحد من الضغوط التضخمية وإطلاق النمو.
ولفت إلى أن إذا تم استخدام إيرادات البيع لتمويل الإنفاق الجاري، فإن ذلك سيكون تطورا سلبيا.
واستدرك نوار “سيكون علينا أن ندقق في هويات المشترين، حتى نعرف على وجه الدقة أين تسير تلك السياسة؛ فإذا تم البيع لشركات خاصة تأسست حديثا أو لشركات أو صناديق مملوكة للدولة أو لحكومات عربية، فإن ذلك من شأنه أن يطرح علامات استفهام لدى صندوق النقد الدولي”.