تعمل على تطويرها 35 دولة.. كيف تعمل الشمس الاصطناعية؟ وهل هي خطرة؟ وما فائدتها؟ وما دور الصين؟
يكثر الحديث مؤخرا عن الشمس الاصطناعية خاصة بعد إعلان الصين عن اختراق علمي كبير في هذا المجال. فما هي الشمس الاصطناعية؟ وهل يمكن حقا للبشر تطوير “شمس” تفوق حرارتها الشمس بأضعاف كثيرة؟ وهل في هذا الابتكار خطر على البشرية أم أنه آمن؟ وما فائدته؟ وما الدول الرائدة في هذا المجال؟ وإلى أين وصلت فيه؟
الشمس الاصطناعية
على خلاف ما يشير إليه الاسم، أو تحاول العديد من الفيديوهات المضللة المنتشرة على تويتر الإيهام به، فإن الشمس الاصطناعية ليست كرة من الضوء تطلق في السماء كي تحول ليلها إلى نهار، مثلما يظهر في الفيديو أدناه:
China’s fusion reactor ignited an artificial “sun” for 17 minutes.
According to Chinese media reports, one of the three largest fusion reactors in operation in the country was able to keep the plasma heated to 70 million °C for more than 17 minutes. pic.twitter.com/x0KV9wIQrx
— nikola 3 (@ronin19217435) October 14, 2022
ففي الحقيقة هذا المصطلح يُطلق على تجارب الاندماج النووي التي تجريها الصين ودول أخرى من أجل إنتاج قدر هائل من الطاقة الآمنة يكفي البشر سنوات طويلة دون إنتاج غازات دفيئة أو نفايات مشعة طويلة الأمد.
والاندماج النووي هو العملية التي تحترق بها النجوم حيث تندمج في مراكزها -تحت الضغوط ودرجات الحرارة العالية وعبر سلسلة من المراحل- ذرات الهيدروجين لتكوين الهيليوم، فينتج عن ذلك الضوء والحرارة وتوليد كميات هائلة من الطاقة.
ويحاول العلماء الاستفادة من قوة الاندماج النووي منذ أكثر من 70 عاما، لكن تكرار الظروف الموجودة داخل قلوب النجوم ليس بالمهمة السهلة.
وفي عملية الاندماج النووي الصناعية يسعى العلماء لدمج نواتين ذريتين خفيفتين من نظائر الهيدروجين (الديوتيريوم والتريتيوم) لتكوين نواة ذرية واحدة أثقل لعنصر جديد هو الهيليوم، كما هو الحال في الشمس، ويصاحب هذه العملية انبعاث كميات هائلة من الطاقة تبلغ 4 أضعاف كمية الطاقة التي تنتج عن تفاعلات الانشطار النووي.
وتحدث تفاعلات الاندماج عندما تكون المواد في حالة تُسمى بحالة البلازما -وهي حالة تتخذ المادة فيها شكل غاز ساخن مشحون مكوَّن من أيونات موجبة وإلكترونات طليقة، وتتسم بخصائص فريدة تميزها عن الحالات الصلبة والسائلة والغازية.
وتتسابق دول عديدة لتطوير مفاعلات اندماج نووي، ويعد تصميم توكاماك (tokamak) أكثر تصاميم المفاعلات شيوعا، ويعمل عن طريق التسخين الفائق للبلازما قبل حصرها داخل حجرة مفاعل أسطوانية دائرية على شكل كعكة الدونت، ذات مجالات مغناطيسية قوية جدا.
وهدف هذه “الشمس” ليس توفير الضوء أو الحرارة، وإنما إنتاج كمية هائلة من الطاقة النظيفة التي يأمل الباحثون في حصدها لتوليد الطاقة للمدن، وكي يتحقق ذلك يجب أن تكون الطاقة المُنتجَة أكثر بكثير من تلك المستخدمة لبدء عملية التفاعل، لكن حتى الآن، لم يحقق أي تصميم لشمس اصطناعية هذا الأمر، والسبب الرئيسي لذلك يعود إلى أن الحفاظ على البلازما الفائقة السخونة والمضطربة مستقرة في مكانها لفترة كافية لحدوث الاندماج النووي عملية شاقة.
محاولات وصعوبات
يعود تصميم أول توكاماك (وهي كلمة روسية تعني غرفة مغناطيسية على شكل حلقة) إلى العالم السوفياتي ناتان يافلينسكي في عام 1958، لكن لم ينجح أحد على الإطلاق في إنشاء مفاعل تجريبي قادر على إخراج طاقة أكثر مما يستهلك. وكانت إحدى العقبات الرئيسية هي كيفية التعامل مع بلازما ساخنة بدرجة كافية للانصهار.
فمفاعلات الاندماج تتطلب درجات حرارة عالية جدا -أكثر سخونة من الشمس بعدة مرات- لأنها يجب أن تعمل تحت ضغط أقل بكثير مقارنة بكيفية حدوث الاندماج بشكل طبيعي داخل قلب النجم، حيث يولد الحجم الهائل للشمس ضغطا رهيبا يكفي -بمساعدة الحرارة الهائلة- لتحقيق الاندماج النووي.
وبالنسبة للعلماء فإن تسخين البلازما إلى درجات حرارة أعلى من الشمس هو الجزء السهل نسبيا، ويتم بعدة طرق، من بينها نقل الطاقة من الإشعاع الكهرومغناطيسي عالي التردد إلى جزيئات البلازما أو حقن جزيئات محايدة عالية الطاقة في التوكاماك.
ولكن إيجاد طريقة لتثبيت البلازما الساخنة المضطربة، بحيث لا تخترق بحرارتها جدران المفاعل ودون أيضا تدمير عملية الاندماج، أمر صعب تقنيا، وإحدى الطرق للتحكم في البلازما شديدة الحرارة هي في استخدام الحقول المغناطيسية لمغناطيس فائق القوة.
تجارب الاندماج النووي.. الصين والعالم
هناك بحوث جارية بشأن الاندماج النووي وفيزياء البلازما في أكثر من 50 بلدا حول العالم، بحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فمثلا لدينا مشروع الحلقة الأوروبية المشتركة “جت” (JET) في المملكة المتحدة، والمشروع الأوروبي الياباني المشترك “جيه تي-60 إس إيه” (JT-60SA) في اليابان، ومشروع “توكاماك فائق التوصيل للبحوث المتقدمة” (KSTAR) في كوريا الجنوبية، ومشروع محول توكاماك الألماني “تجربة المحول المتماثل محوريا” (ASDEX)، ومفاعل الاندماج النووي الفرنسي التوكاماك “تور سوبرا” (Tore Supra).
وعلى رأس كل أولئك توجد الصين، التي تعد من أوائل الدول في بحوث الاندماج النووي حيث بدأت تجاربها في ستينيات القرن الماضي وبنت عدة مفاعلات توكاماك لهذا الغرض.
ويعد “إتش إل-1” (HL-1) أول جهاز توكاماك بنته الصين بشكل مستقل في عام 1984، ويمثل حجر أساس مهم في أبحاث الاندماج النووي الصينية ووفر لها الخبرة كي تصمم وتبني وتدير أجهزة مفاعلات اندماج نووي بشكل مستقل.
وبدأت الصين التجارب في مفاعل توكاماك التجريبي المتقدم فائق التوصيل “إيست” (EAST) في 2016، ونجحت في ديسمبر/كانون الثاني 2021 في الحفاظ على حرارة فائقة للبلازما في المفاعل مقدارها 70 مليون درجة مئوية، أي أكثر 5 مرات من حرارة الشمس الحقيقية، بشكل متواصل لمدة 1056 ثانية (17 دقيقة).
وحطمت الصين بتلك التجربة الرقم القياسي السابق الذي سجله مفاعل توكاماك الفرنسي “تور سوبرا” في 2003، حيث ظلت البلازما في حلقة المفاعل عند درجات حرارة مماثلة لمدة 390 ثانية.
وفي الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2022 سجل نموذج التوكاماك الصيني “إتش إل-2إم” (HL-2M) -الذي اكتمل بناؤه في نوفمبر/تشرين الثاني 2019- رقما قياسيا جديدا مع تخطي تيار البلازما فيه المليون أمبير (1 ميغا أمبير) ليكون خطوة رئيسية نحو الإشعال الاندماجي في أبحاث وتطوير الاندماج النووي في الصين.
“آي تي إي آر” (ITER).. شمس اصطناعية عالمية
يعد مشروع “آي تي إي آر” (ITER) أو “المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي” (International Thermonuclear Experimental Reactor)) أبرز مشاريع الاندماج النووي، والذي لا يزال قيد الإنشاء في مدينة كاداراتشي، بجنوب فرنسا، ويعد من أضخم المشاريع بهذا المجال حاليا حيث سيبلغ وزنه حال اكتماله 23 ألف طن وارتفاعه نحو 30 مترا.
وهذا المشروع هو نتاج تعاون دولي غير مسبوق لـ35 دولة تتضمن الولايات المتحدة والصين والدول الـ27 في الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة وسويسرا والهند واليابان وكوريا الجنوبية وروسيا، وتمثل جميعها نحو نصف سكان العالم.
وفي 22 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 أعلنت الصين عن اختراق علمي كبير تمثل في الانتهاء من تصنيع مكون أساسي للجيل التالي من الشمس الاصطناعية، وهو نموذج أولي بالحجم الكامل للوح الجدار الأول (FW) للتدفق الحراري المُعزَّز (EHF) وبمؤشرات أساسية أفضل بكثير من متطلبات التصميم مع تلبية شروط التصنيع الواسع.
فهذا اللوح يستطيع تحمل درجة حرارة أيون البلازما حتى 150 مليون درجة مئوية، أي حوالي 10 مرات أكثر سخونة من الشمس الحقيقية، أثناء تشغيل المفاعل، وهو المكون الأساسي الأكثر أهمية في المفاعل، ويرتبط بالتقنية الأساسية لبناء مفاعل الاندماج النووي.
وفي هذا المشروع فإن أوروبا مسؤولة عن الجزء الأكبر من تكاليف البناء -حوالي 45%- بينما تساهم الدول المتبقية بحوالي 9%. كما تساهم البلدان أيضا في المشروع من خلال تقديم المكونات أو الأنظمة المكتملة أو بناء البنية التحتية، مثلما فعلت الصين مؤخرا.
ومع ذلك فإن مشروع الشمس الاصطناعية الدولي هذا لا يزال في مرحة البحث والتطوير، ومن غير المتوقع أن يكون الابتكار جاهزا للاستخدام قبل عام 2050.
خطورة مفاعلات الاندماج النووي
بعد هذا الحديث عن مفاعلات الاندماج النووي قد يسأل سائل ما مدى خطورة تلك المفاعلات؟ وما الذي قد يحدث إذا انفجر مفاعل اندماج نووي؟ وهل لتلك المفاعلات إشعاعات تؤثر على البيئة والبشر؟
إن إحدى المزايا الرئيسية للاندماج كمصدر طاقة محتمل مقارنة بمحطات الطاقة الانشطارية النووية، هو أنها آمنة بطبيعتها، فرغم أن البلازما في التوكاماك شديدة السخونة، فإنها تحت ضغط منخفض، وبالتالي فإن طاقتها الحرارية الكلية ليست كبيرة، فلا يوجد سوى غرام واحد أو نحو ذلك من الوقود.
وتظل البلازما بعيدة عن الأوعية المحتوية عليها عن طريق استخدام مجالات مغناطيسية، ولا تعمل بلازما الاندماج هذه إلا في ظل ظروف صارمة، وفي حال فشل أي من الأنظمة (مثل المجال المغناطيسي الحلقي الذي يحصر البلازما) أو إذا تم، عن طريق المصادفة، وضع الكثير من الوقود في البلازما، فإن البلازما ستنتهي بشكل طبيعي، حيث تفقد طاقتها بسرعة كبيرة وتنطفئ قبل حدوث أي ضرر دائم للهيكل، فلا يوجد في مفاعلات الاندماج النووي مفهوم “الانصهار”.
وباختصار فإن طاقة الاندماج لا تعتمد على تفاعل متسلسل كما هو الحال بالنسبة للانشطار النووي، كما يجب حفظ البلازما في درجات حرارة عالية جدا بدعم من أنظمة التسخين الخارجية وحصرها بمجال مغناطيسي خارجي، وأي تغيير في إعدادات العمل في المفاعل سيؤدي إلى تبريد البلازما وبالتالي يتوقف المفاعل تلقائيا في غضون ثوان قليلة.
الإشعاعات والبيئة وإنتاج الأسلحة
يعد الاندماج النووي من أكثر مصادر الطاقة الصديقة للبيئة، فلا يوجد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أو غيرها من الانبعاثات الضارة في الغلاف الجوي نتيجة عملية الاندماج، مما يعني أن الاندماج لا يساهم في انبعاث غازات الدفيئة أو الاحتباس الحراري، ومصدر وقود عملية الاندماج هو الديوتيريوم الذي يمكن استخراجه بتكلفة زهيدة من مياه البحر، والتريتيوم الذي يمكن إنتاجه من الليثيوم الموجود بوفرة في البيئة الطبيعية.
في المقابل، فإن محطات الطاقة الانشطارية تتطلب اليورانيوم، وهو مادة مشعة نادرة يجب تعدينها وإثراؤها، ولتلك المحطات مساوئ توليد نوى غير مستقرة يظل بعضها مشعا لملايين السنين، في حين لا يتسبب الاندماج بأي نفايات نووية مشعة طويلة الأجل، وذلك أن مفاعلات الاندماج تنتج الهيليوم، وهو غاز خامل، كما أنها تنتج وتستهلك التريتيوم ضمن المحطة في دائرة مغلقة.
والتريتيوم عنصر مشع، لكن نصف عمره قصير، ويتم استخدامه فقط بكميات ضئيلة، لذلك، على عكس النوى المشعة طويلة الأجل، لا يمكن أن ينتج عنه أي خطر جسيم.
ولكن ألا يمكن استخدام مفاعلات الاندماج النووي لإنتاج الأسلحة، حيث نعلم أن القنابل الهيدروجينية تستخدم تفاعلات اندماجية؟ الجواب هو لا، وذلك أن القنابل الهيدروجينية تتطلب قنبلة انشطارية إضافية لتفجيرها، وظروف عمل مفاعل الاندماج المحصور مغناطيسيا تتطلب كمية محدودة من الوقود في المفاعل، ويتم حقن هذا الوقود واستهلاكه باستمرار، لذلك لا توجد أبدا كمية كافية من الوقود لإنتاج القوة اللحظية المطلوبة للسلاح.
“الشمس الاصطناعية” وتوليد الكهرباء
من المتوقع أن يكون الاندماج النووي هو مستقبل أمن الطاقة، لأن الهيدروجين -الذي تستخدم نظائره وقودا للاندماج- مصدر طاقة سائد. ويمكن أن ينتج الاندماج النووي الهيدروجيني 10 ملايين ضعف طاقة الوقود الأحفوري بسعر 0.03 دولار لكل كيلووات / ساعة.
وفي الوقت الحاضر، تنتج أجهزة الاندماج أكثر من 10 ميغاوات من طاقة الاندماج. وسيكون جهاز “آي تي إي آر” (ITER) قادرا على إنتاج 500 ميغاوات من طاقة الاندماج، لكن هذا القدر سيكون على النطاق المطلوب لمحطة الطاقة، حيث لا تزال هناك بعض المشكلات التقنية التي يجب معالجتها قبل أن تتمكن محطة اندماج نووي من العمل على نطاق تجاري.
ومن المتوقع بناء نموذج أولي لمفاعل الاندماج “ديمو” (DEMO) -خليفة المفاعل “آي تي إي آر” (ITER)- بحلول عام 2040، ومن المتوقع أيضا أن يتم توليد الكهرباء واستغلالها في النصف الثاني من القرن، اعتمادا على التمويل والتقدم التقني.