القاهرة- يخوض البنك المركزي المصري معركة قاسية مع معدلات التضخم التي ارتفعت إلى أعلى مستوى لها منذ 5 سنوات، وأخرى مع العملات الأجنبية التي جمحت بعيدا عن الأسعار الرسمية في البنوك المحلية مقابل الجنيه بقيادة السوق السوداء.

وقفز معدل التضخم السنوي في مصر إلى 19.2% خلال نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، من 16.3% في أكتوبر/تشرين الأول السابق له، وهو أعلى مستوى له منذ ديسمبر/ كانون الأول 2017.

 

وهوى الجنيه في السوق الموازية بحسب متعاملين، تحدثوا للجزيرة نت، إلى ما بين 35 و38 جنيها للدولار الواحد منتصف الشهر الماضي، قبل أن يستعيد بعض قوته بعد قرارات اتخذها البنك المركزي للحد من تسرب العملة الأميركية وارتفاعها.

عام تنفيذ التوصيات

كانت الأيام الأولى من العام الجديد وما صدر فيها من قرارات من قبل البنك المركزي مهمة، لاختبار ثقة صندوق النقد الدولي فيما تم التوافق حوله من إجراءات ضرورية لاستكمال برنامج قرض موسع مدته 46 شهرا بقيمة 3 مليارات دولار تمت الموافقة عليه منتصف الشهر الماضي.

وتضمن الاتفاق أن تتخذ مصر إجراءات محددة من بينها:

  • القبول بمستندات التحصيل في تنفيذ العمليات الاستيرادية.
  •  التحول الدائم لنظام سعر صرف مرن.
  • خفض معدلات التضخم المرتفعة تدريجيا.

 

سعر صرف مرن

يقول صندوق النقد الدولي إنه يريد “تحديد قيمة الجنيه المصري على أساس حر أمام العملات الأخرى (أي إرساء نظام سعر صرف مرن)، الأمر الذي من شأنه تجنب تراكم اختلالات مزمنة في عرض العملات الأجنبية والطلب عليها في مصر ويحافظ على احتياطي النقد الأجنبي لدى البنك المركزي”.

 

وفي هذا الإطار، يتوقع صندوق النقد تحرك سعر الصرف صعودا وهبوطا، حيث يرتفع أو ينخفض تماشيا مع الأوضاع الاقتصادية، وسوف تعود مرونة سعر الصرف بمنافع عديدة، وستساعد الاقتصاد المحلي في مصر على التكيف بسلاسة أكبر في مواجهة الصدمات الخارجية، وفق الصندوق.

خفض الجنيه ورفع الفائدة

من منطلق توصيات الصندوق، قرر المركزي المصري بالفعل إلغاء العمل بالكتاب الدوري الصادر بتاريخ 13 فبراير/شباط 2022، والسماح بقبول مستندات التحصيل لتنفيذ كافة العمليات الاستيرادية، ثم السماح بهبوط الجنيه نحو جنيهين ونصف بنسبة 10% من مستوى 24.7 جنيها إلى 27.25 خلال يومين، وسط توقعات باستمرار الهبوط والاقتراب من سعر السوق السوداء.

وفي خطوة أخرى لمواجهة ارتفاع معدلات التضخم، أعلن بنك مصر والبنك الأهلي المملوكان للدولة عن طرح شهادة ادخار بعائد يصل إلى 25%، وهي إحدى أدوات المركزي من أجل تقليل السيولة في السوق وخفض التضخم، لكنها تؤشر على استمرار خفض قيمة الجنيه المصري أيضا.

وقررت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي نهاية الشهر الماضي، للمرة الرابعة في 2022، رفع سعر الفائدة بمقدار 300 نقطة أساس (3%) لتصبح 16.25% في حال الإيداع، و17.25% على الإقراض، ويصبح إجمالي الزيادة في سعر الفائدة 800 نقطة أساس (8%).

وأدت عمليات تخفيض سعر الصرف مرة تلو الأخرى -بحسب صندوق النقد الدولي- إلى ارتفاعات حادة في معدل التضخم وأضعفت النشاط الاقتصادي، مع فقدان المستهلكين والمستثمرين ثقتهم في سلامة أوضاع الاقتصاد المصري.

جراحات المركزي لمعالجة الأزمة

اعتبرت نائبة رئيس بنك مصر السابقة، سهر الدماطي، أن “قرارات المركزي المصري خطوة جيدة في الطريق الصحيح بناء على تطورات الأوضاع الاقتصادية في مصر والعالم الذي تأثر كثيرا بالحرب التي تدور رحاها في شرق أوروبا، ارتفع التضخم في جميع بلدان العالم، وزادت معدلات الفائدة لمستويات غير مسبوقة، وتراجعت عملات العديد من الدول، وقفزت أسعار السلع الإستراتيجية بما فيها المواد البترولية والقمح وغيرها”.

 

وأوضحت، في حديثها للجزيرة نت، أن إجراءات المركزي الأخيرة تأتي ضمن جهوده لمواجهة التضخم، على رأسها زيادة العائد على الفائدة منذ بداية العام الماضي 8%، ورفع الاحتياطي الإلزامي للبنوك وهو أحد أدوات “المركزي” للتدخل في السوق عبر سحب أو زيادة السيولة، وإصدار شهادات بعوائد مرتفعة لمساعدة المواطنين وامتصاص السيولة من السوق، في حين زاد الاحتياطي النقدي إلى 34 مليار دولار.

إلى جانب إجراءات البنك المركزي، قامت الحكومة -بحسب الدماطي- بإصدار وثيقة سياسة ملكية الدولة وتحديد القطاعات التي سوف تتخارج منها الدولة بالكامل، ومشاركة القطاع الخاص في قطاعات محددة وزيادة دوره بشكل فعال، إضافة إلى العمل على الإفراج عن البضائع المكدسة في الموانئ التي وصلت إلى نحو 15 مليار دولار، مع نجاحها في دخول جزء كبير من هذه البضائع.

وفيما يتعلق بتحريك سعر الجنيه بنحو 10% مجددا، أكدت الخبيرة المصرفية أن هذا القرار هو أحد نتائج الاتفاق مع صندوق النقد الذي ينص على اعتماد سعر صرف مرن من أجل استقرار سعر الصرف، وهو قرار إيجابي ساعد على كبح جماح المضاربات على الدولار.

وقالت “في نهاية المطاف سوف يتراجع التضخم وتختفي السوق السوداء، لأنه لا يمكن أن يسير الاقتصاد المصري في ظل وجود سوقين رسمي وغير رسمي”.

وساعدت شروط صندوق النقد في تقييد يد “المركزي” عن التدخل لدعم الجنيه في ارتفاع صافي احتياطيات العملات الأجنبية إلى 34 مليار دولار في ديسمبر/كانون الأول مقابل 33.3 مليارا في نوفمبر/تشرين الثاني.

 

 

وتعاني مصر من نقص حاد في العملة الأجنبية رغم خفض قيمة الجنيه، والإعلان عن حزمة دعم بقيمة 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، بعد أن أدت التداعيات الاقتصادية للحرب في أوكرانيا إلى تفاقم نقص النقد الأجنبي، مما تسبب في تباطؤ حاد بالواردات وتراكم البضائع بالموانئ.

رافق ذلك تخارجات واسعة لاستثمارات الأجانب في أدوات الدين المصرية (سندات وأذون)، نتج عنها خروج النقد الأجنبي من السوق المصرية، بموازاة ارتفاع كلفة الواردات من الخارج ضمن تبعات التضخم.

وقال رئيس الوزراء المصري مصطفي مدبولي، قبل أيام، إن الحكومة لديها خطة كاملة لخروج كل البضائع من كل الموانئ، دون أن يوضح ملامح تلك الخطة، مضيفا أنه تم إخراج بضائع بـ6 مليارات و250 مليون دولار خلال ديسمبر/كانون الأول الماضي من إجمالي 15 مليار دولار بضائع محتجزة في الموانئ.

 محاولات لجذب الدولار

كانت هناك محاولات لجذب الدولارات من السوق السوداء إلى المصارف من خلال خفض قيمة الجنيه، وإطلاق وعاء ادخاري بفائدة مرتفعة لتعزيز الاستثمار في الجنيه المصري، سبقتها محاولات مماثلة على مدار السنوات الماضية.

كما طرح بنكا الأهلي ومصر شهادة ادخار بعائد 18% في مارس/ آذار الماضي، قبل أن يقررا إيقافها في مايو/ أيار الماضي، بعد رفع الفائدة 1% وخفض قيمة الجنيه 18% إلى مستويات 18.50 جنيها، قبل أن ينزل إلى نحو 28 جنيها، أي بنسبة هبوط بلغت 55%.

 

ونفي رئيس بنك مصر محمد الأتربي، في وقت سابق، طرح أي شهادات ادخار جديدة بعائد أعلى من الشهادة ذات العائد 18% التي تم طرحها في مارس/آذار الماضي، وذلك بسبب تكلفة عبء الفائدة المرتفعة على البنك، لكن البنك عاد وطرح شهادات بعائد ما بين 22.5% و25%.

في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أعلنت عدة بنوك محلية طرح شهادات جديدة ذات آجال 3 سنوات وليس سنة واحدة مرتفعة العائد تصل إلى 17.25% سنويا بداية بعد يوم من إعلان البنك المركزي رفع الفائدة 2% على الإيداع والإقراض في اجتماع استثنائي للجنة السياسة النقدية.

المواطن تحت سندان الدولار

تداعيات قرار تحريك الجنيه على المواطنين ستكون سلبية وصعبة، بحسب عضو شعبة المستوردين بغرفة التجارة بالقاهرة الذي قال إن الأسعار وخاصة السلع الغذائية سترتفع بشكل كبير، والمواطن هو من يتحمل تداعيات الغلاء الذي طال حتى المواد الغذائية الأساسية مثل الأرز والفول والمكرونة.

وأكد في حديثه للجزيرة نت، أن المواطن لا حول ولا قوة له، وإن كانت الدولة تحاول أن تخفف الأعباء من خلال منافذ البيع التابعة لها -يضيف المتحدث ذاته- فهي لا تكفي جميع المواطنين ولا تشمل جميع السلع والاحتياجات، كالتنقلات والسكن والخدمات والمدارس والعلاج.

ويرى الخبير الاقتصادي هاني توفيق أن السياسة النقدية وحدها لا تكفي، في إشارة إلى قرارات البنك المركزي، وقال لا شك أن رفع سعر الفائدة وخفض قيمة الجنيه هما خطوتان سليمتان في الطريق الصحيح، لكن ما لم يصاحب السياسة النقدية الحكيمة التي يتبعها البنك المركزي، سياسات أخرى رشيدة مالية واستثمارية واقتصادية في الوقت نفسه، فلن نكون قد تحركنا من موقعنا، ولا أمل في نمو اقتصادي أو تنمية أو ازدهار.

وأضاف في منشور له على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك أن السياسات المطلوبة هي تلك التي تهدف إلى زيادة إيرادات الدولة من كافة أنشطتها الاقتصادية والاستثمار وإزالة معوقاته المعروفة، والإنتاج والتشغيل والتصدير وخفض نفقات الحكومة، وأخيرا وليس آخرا، الاستغلال الأمثل وإعادة ترتيب الأولويات لموارد الدولة المحدودة، دون كل ذلك، لا أمل يرجى من أي قرارات يصدرها البنك المركزي أو خلافه.

 

وفيما يتعلق بالجنيه، أوضح توفيق أنه من الناحية الفنية ورغم أن سعر الجنيه حاليا مقوم “نظريا” بأعلى من قيمته الحقيقية، فإنه من المنتظر أن يستمر تحريكه تدريجيا وبمرونة إلى أن يصل لنقطة التوازن، وهي النقطة التي يتساوى فيها سعر السوق (السوداء) مع السعر الرسمي، وهو ما تم الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولي، و يتطلب “ذخيرة” كافية لدى البنك المركزي ليستطيع الدفاع بها عن السعر الرسمي للدولار.

 

أدوات مكررة

اعتبر الخبير الاقتصادي إبراهيم نوار أن قرارات “المركزي” مكررة، وقال إن “المشكلة الكبرى التي يواجهها البنك المركزي هي شح المعروض من الدولار، وعودة السوق السوداء بقوة، وضعف تأثير أداة أسعار الفائدة، وخروج الإنفاق الحكومي عن نطاق السيطرة.”

وأضاف للجزيرة نت، “ليس معنى الانتقال السلس إلى سعر صرف مرن، تحت رقابة صندوق النقد الدولي، تحرير كامل لسعر الصرف، رغم أن سعر صرف الجنيه يقترب من 28 جنيها للدولار، في محاولة لتضييق الفجوة بين سعر البنك وسعر السوق السوداء بعد انتعاش تجارة الدولار في مصر وخارجها”.

ورأى نوار أنه يجب على الحكومة المصرية ألا تحمل البنك المركزي والبنوك التجارية أكثر من طاقتها، لأنها لا تستطيع أن تخلق سوقا للدولار من العدم، ويجب أن تكون لديها قدرة على جذب الموارد الدولارية القابلة للتبادل وإلا سوف يصبح النظام المصرفي قناة خاوية عديمة القيمة في سوق العملات الأجنبية.

المصدر : الجزيرة

About Post Author