جدل الهوية ومخاوف الانقسام مع تراجع التدين في أميركا
يتوالى صدور الدراسات والاستطلاعات التي ترصد التحول السريع في المجتمع الأميركي من المحافظة الأخلاقية والتدين المسيحي إلى السيولة (ظاهرة يكون فيها الدين غير ثابت ولا راسخ) واللادينية.
ورغم أن هذه الظاهرة باتت شائعة في شتى أنحاء العالم -خصوصا في الغرب- فإنها تبدو أكثر حدة في بلاد لطالما تغلغل الدين في هويتها منذ بدء تشكل الأمة.
شهد الغرب في القرن العشرين هزات كبرى كادت تعصف بالكثير من الثوابت والقيم الأخلاقية، ولا سيما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي تركت أسئلة مؤلمة عن جدوى الحضارة ومعنى الحياة.
وبينما كان الناجون من الإبادة في أوروبا منشغلين بإعادة الإعمار كان آلاف الشباب في أميركا يرفعون راية التمرد ويشكلون جماعات “الهيبيز” الرافضة للدين والحضارة.
ومع ذلك، سرعان ما استعادت أميركا هويتها الدينية، إذ لم يتقبل المجتمع حركات التمرد العدمية، كما لعبت الكثير من مؤسسات السلطة والإعلام دورا في الحد من انتشارها، فيما أخذت الكنائس البروتستانتية زمام المبادرة.
فبالتوازي مع “الثورة الجنسية” التي بلغت أوجها الستينيات كان تحالف الكنائس الإنجيلية البروتستانتية يؤسس حركة كبرى تحت مسمى “الأغلبية الأخلاقية” بقيادة القس جيري فالويل، والتي نجحت في إحياء قيم الأسرة من جديد، وأصبحت رقما صعبا في كل الحملات الانتخابية للرؤساء وأعضاء الكونغرس.
لكن هذا الواقع تغير كثيرا في السنوات الأخيرة، فبعدما كان أنصار “الأغلبية الأخلاقية” يجوبون الشوارع في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وهم يرفعون لافتات تندد بالجنس خارج إطار الزواج أصبحت مسيرات المثليين والمتحولين الحاشدة هي التي تملأ شوارع أميركا اليوم، دون أن تثير الاستنكار الذي كان معهودا في الجيل السابق.
ومن مظاهر هذا التغيير وقوف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بقوة وراء التغييرات الاجتماعية التي تتحدى الثوابت المسيحية، مثل التغريدة التي نشرها بايدن في مارس/آذار الماضي وجاء فيها أن “المتحولين جنسيا خلقوا على صورة الرب”، والتي أعقبها إصداره في ديسمبر/كانون الأول الماضي قانون “احترام الزواج” الذي يفرض على المجتمع احترام زواج المثليين وليس الاكتفاء بتقنينه.
هذه المواقف ما كان ليجرؤ عليها أي رئيس أميركي قبل 20 عاما، بل لم يكن بايدن نفسه مؤيدا لها عندما كان عضوا في الكونغرس في التسعينيات، ولو حدثت آنذاك لكانت ستثير موجة من الاحتجاج والرفض الشعبي، لكن المجتمع نفسه تغير الآن.
تفكك وانقسام
في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2021 أصدرت جامعة هارتفورد لأبحاث الدين في الولايات المتحدة تقريرا بعنوان “20 عاما من التغيير الجماعي”، وهو أكبر مسح أجري في الولايات المتحدة للجماعات الدينية.
سعى الباحثون في هذه الدراسة إلى تعقب الاتجاهات في المشهد الديني الأميركي منذ عام 2000، وشملت دراستهم أكثر من 15 ألف جماعة دينية تنتمي لنحو 80 طائفة.
ومن أهم نتائج الدراسة توقع الباحثون أن 30% من الجماعات الدينية في الولايات المتحدة لن تبقى على قيد الحياة في السنوات العشرين القادمة.
وفي الأسبوع الماضي نشرت مجلة أتلانتيك مقالا مشتركا لويندي كيدج البروفيسورة في علم الاجتماع بجامعة برانديز، وإيلان بابشوك نائب رئيس المركز اليهودي القومي للتعلم والقيادة، وأقرا في بدايته بما جاء في دراسة هارتفورد، وأن جولة بالسيارة في أي مدينة كبرى بالولايات المتحدة تكفي لاكتشاف تزايد عدد الكنائس المعروضة للبيع بسبب غياب المصلين حتى صارت تباع أكثر من المنازل.
ويستشهد الكاتبان المتدينان أيضا بكتاب روبرت دي بوتنام وديفيد إي كامبل الصادر عام 2010 بعنوان “النعمة الأميركية.. كيف يفرقنا الدين ويوحدنا؟”، إذ جاء فيه أن المجتمع الأميركي فقد الكثير من أواصره الاجتماعية بتخليه عن دور العبادة، ففي الأجيال السابقة كانت العائلة تعثر على أصدقاء جدد فور انتقالها إلى منزل جديد من خلال حلقات التعارف في أقرب دار للعبادة، وإذا أصيب شخص بمرض ما سرعان ما يتكاتف زملاؤه المتدينون لرعايته والدعاء له، لكن هذه العادات أصبحت نادرة اليوم.
وبالإضافة إلى الأواصر الاجتماعية التي يبنيها الانتماء الديني يعطي الدين معنى للحياة ويجيب عن الأسئلة الوجودية، ويحفز أتباعه على المشاركة في بناء مجتمع أكثر عدلا ولطفا وحبا، كما يقول الكاتبان.
ويحث الكاتبان في مقالهما -الذي يحمل عنوان “الدين الأميركي لم يمت بعد”- على استعادة هذا الدور للدين في مجتمع أصبح “أكثر فردانية، وأكثر انقساما، وأقل أملا، وأقل ثقة مما كان عليه في العقود السابقة”، وذلك بغض النظر عن الدور الأهم للإيمان وهو الفلاح في الآخرة.
وقبل سنتين ونصف كتبت ويندي كيدج مقالا آخر عن “صعود القساوسة”، وكانت آنذاك متفائلة للغاية مع ازدياد نشاط رجال الدين في ذروة اجتياح فيروس كورونا، إذ لعب الدين حينها دوره التقليدي في بث الأمل واستعادة معنى الحياة، لكن هذا النشاط سرعان ما انحسر مع انحسار الوباء، وانقلب التفاؤل إلى نقيضه كما يبدو من مقال الكاتبة المنشور مؤخرا.
اليأس والانتحار
وقبل يومين نشر موقع ميركاتور الأسترالي مقالا للكاتب مايكل كوك بعنوان “أعد إلي ذلك الدين القديم.. هل حمى الدين الأميركيين من اليأس؟”، وقال فيه إن جيل الألفية هو أول جيل في تاريخ الولايات المتحدة الذي سيكون المسيحيون فيه أقلية، ففي عام 2070 سيكون أقل من ثلث الأميركيين فقط مسيحيين، وفقا لدراسة أجراها “مركز بيو للدراسات” (Pew Research Center).
ويستشهد الكاتب أيضا بدراسة صدرت مؤخرا عن المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية التابع لجامعة كامبردج في ماساشوستس، والتي رأت أن تدهور التدين في المجتمع ليس سيئا فحسب، بل هو “مميت” حرفيا، فانعدام الشعور بالمعنى كان سببا رئيسيا لتزايد نسبة الوفيات الناجمة عن إدمان الخمور والمخدرات والانتحار، وهذا ناتج -بحسب الدراسة- عن تراجع الممارسة الدينية.
ويطالب الكاتب جميع المنظّرين العلمانيين بالتريث قبل التصفيق لانحسار المظاهر الدينية في الفضاء العام بالولايات المتحدة، مشددا على أن حضور دور العبادة يحمي الضعفاء من العواقب المدمرة للعزلة الاجتماعية والاغتراب وغياب المعنى، وحتى الموت.
هوية المجتمع
لا يمكن اعتبار التحذيرات السابقة ضربا من المبالغة، فالتبدل الحاصل في بنية المجتمع الأميركي يقلق المراقبين من شتى الأطياف والتوجهات.
ورغم أن الولايات المتحدة أقيمت منذ نشأتها على أساس دستوري علماني فإن الحضور الديني للعقيدة البروتستانتية كان متجذرا في الهوية الأميركية طوال تاريخها، فبالتوازي مع انحسار التدين في معظم أنحاء أوروبا خلال القرن العشرين ظلت نسبة التزام الأميركيين بزيارة الكنيسة تدور حول 70% طوال القرن، لكن الانهيار بدأ تقريبا في مطلع الألفية الجديدة، وأخذ في التسارع خلال عقدين، لتهبط مؤخرا نسبة المؤمنين إلى أقل من 50% للمرة الأولى في تاريخ البلاد.
وفي سبتمبر/أيلول 2020 أكدت دراسة نشرت في مجلة “فورين أفيرز” (Foreign Affairs) الحجم والسرعة الهائلين لهذا التغيير، وقالت إن الولايات المتحدة كانت بين عامي 1981 و2007 واحدة من أكثر دول العالم تدينا، ثم سرعان ما صُنفت فجأة إحدى أكثر الدول ابتعادا عن الدين.
وأشارت الدراسة نفسها -بحسب الباحث رونالد إنغلهارت- إلى أن التدين كان ينحسر خلال تلك الفترة في الدول الـ49 التي اختارها من أنحاء العالم لتحليل التغيرات في مجتمعاتها، لكن الانهيار المفاجئ بهذه السرعة العجيبة في جزء أصيل من مكونات هوية أقوى دولة في العالم هو أمر يستحق التوقف.
فعلى سبيل المثال، كانت العلمانية جزءا أصيلا من الهوية الفرنسية منذ نجاح الثورة في القرن الـ18، وظل تراجع التدين في أوساط المجتمع الفرنسي يتزايد منذ ذلك الحين كما هو الحال في بقية الدول الغربية، لذا لا يبدو مستغربا أن يفضل أكثر من 80% من الفرنسيين حظر العروض الدينية في الأماكن العامة، وفقا لدراسة نشرها معهد بروكينغز في فبراير/شباط 2020، لكن الشرائح العلمانية في الولايات المتحدة لطالما كانت تعتز بخلفيتها البروتستانتية باعتبارها مكونا مهما لهويتها الوطنية.
الهوية الأميركية ارتبطت ثقافيا باستعلاء البروتستانتية البيضاء، ولم تتخلص البلاد من ظاهرة الرق إلا بحرب أهلية طاحنة بين المؤيدين والمعارضين، كما ظل التمييز العنصري ضد السود راسخا في القوانين حتى ستينيات القرن العشرين، وما زالت آثاره تلقي بظلالها على الحياة العامة حتى اليوم لكنه انتقل على الأقل من ساحة المفاخرة إلى خانة التجريم، أما تخلي الأجيال الشابة اليوم طواعية عن انتمائها الديني فيطرح أسئلة صعبة عما تبقى من هوية الأميركيين.
يقول الباحث الأميركي شادي حامد في مقال نشره بمجلة أتلانتيك في أبريل/نيسان 2021 إن أتباع أيديولوجيا اليقظة الذين يمثلون أقصى اليسار الليبرالي أعادوا تشكيل المفاهيم الدينية والطقوس المسيحية ووظفوها لتطبيق أيديولوجيتهم اللادينية، فالعلمانية أصبحت تتمتع بنفس القداسة والحماس، والمتعصبون لها يرفعون درجة التحدي إلى حد الصدام.
وفي المقابل، لا يبدو أتباع الجمهوريين من المحافظين واليمينيين متمسكين بهويتهم الدينية كما كان أجدادهم من قبل، فرغم أن الرئيس السابق دونالد ترامب استقطب في خطابه الجمهور المتدين بصفته جمهوريا محافظا بطبيعة الحال فإن أغلبية أنصاره من اليمين المتطرف كانوا يرفعون رايات قومية وعرقية ووطنية أكثر من كونها مسيحية.
ومع تزايد الانقسام بين الجناحين لم يعد الدين المسيحي عنصرا جامعا للشتات الأميركي كما كان من قبل، وفي غياب صحوة دينية جديدة -كما يقول الباحث حامد- قد لا يتبقى أمام الأميركيين سوى السقوط في فخ الحرب الأهلية من جديد كما سقط الأوروبيون في أهوال حربين عالميتين، قبل أن يلوذوا بخطة إعادة التوحيد وتشكيل الاتحاد الأوروبي.
وفي مقال نشره موقع “حكمة الجماهير” (Wisdom Of Crowds) في سبتمبر/ أيلول 2020 يشكك الكاتب الأميركي مرتضى حسين في جدوى الرؤى الإلحادية لإعادة ترويض الإنسان، فرغم أن هذه الأحلام كانت تراود العديد من الملحدين النبلاء في الماضي فإن هناك احتمالات لواقع أكثر شؤما، فما الذي يمنع اليسار اللاديني -كما يتساءل الكاتب- من اضطهاد خصومهم بنفس أدوات المتطرفين الدينيين، ولا سيما أن اللادينية خالية أصلا من الضوابط الدينية، كالرحمة والاعتراف بالضعف البشري؟