تناقصت مساحة نفوذها.. هل تتحرك الرمال في أفريقيا تحت أقدام فرنسا؟
واغادوغوـ أنشأت فرنسا إمبراطورية واسعة في أفريقيا بدأت منذ منتصف القرن الـ16 إلى أن أكملت السيطرة على نصف القارة تقريبا عقب مؤتمر برلين عام 1885 الذي قسم القارة السمراء إلى محميات بلغت مساحة المستعمرات الفرنسية منها 3 ملايين ميل مربع، ومع منتصف القرن العشرين باتت فرنسا تملك 100 قاعدة عسكرية في أفريقيا.
ولكن مع مرور الوقت، تقلصت القواعد الفرنسية في القارة إلى 7 قواعد فقط في حين بدأ الوجود الفرنسي فيها يتلاشى شيئا فشيئا حتى بات حاليا مهددا بشكل كامل في ظل السياسة الفرنسية الحالية التي أدت إلى خروج العديد من الدول الأفريقية من العباءة الفرنسية.
ما طبيعة الوجود الفرنسي في أفريقيا؟
خرجت فرنسا من مستعمراتها عام 1960، ولكنها ظلت محتفظة بعلاقات قوية بمستعمراتها السابقة في أفريقيا، لتعمدها بربط الدول المستقلة حديثا بسياسات تعاونية عميقة اقتصاديا وثقافيا وعسكريا، حتى تحافظ على دور مؤثر لها في مستقبل هذه الدول، ولكن بقيت دول غرب أفريقيا الـ14 -التي تشكل أغلبية مجموعة دول الإيكواس- ترتبط بفرنسا بشكل خاص، وعلى وجه العموم يتركز النفوذ الفرنسي في أفريقيا شمال القارة وغربها، وشرقا في جيبوتي، وفي الجنوب الشرقي في جزر القمر ومدغشقر، مع تفاوت في مستوى النفوذ ونوعيته وتركزه.
أين يتركز الوجود الفرنسي في أفريقيا وكيف؟
يتركز النفوذ الفرنسي الفاعل في غرب أفريقيا، إذ فرضت فرنسا اتفاقيات تربط اقتصاديات هذه الدول بالاقتصاد الفرنسي ولا تزال تدفع ضريبة الاستعمار، وتضخ 85% من احتياطاتها النقدية الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي، ولا تستطيع الحصول إلا على 15% منها إذا ما احتاجت إلى ذلك، وتضخ أفريقيا بالتالي ما يعادل 500 مليار دولار سنويا، وعند السحب يتم التعامل معها بالأسعار التجارية.
لدى فرنسا، اتفاقيات تعاون عسكري مع 25 دولة أفريقية وكان لها إلى وقت قريب نحو 7 قواعد عسكرية متفاوتة الحجم في كل من تشاد وأفريقيا الوسطى والكاميرون وجيبوتي وجزر القمر والسنغال والغابون، حيث بدأت في التقلص في السنوات الأخيرة بسبب الرفض الذي تواجهه سياساتها في أفريقيا.
ما الدول التي قطعت علاقاتها بفرنسا وما الأسباب؟
شهدت السياسة الفرنسية في أفريقيا تراجعا كبيرا منذ نهاية حقبة الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، نتيجة عدد من العوامل أبرزها سيطرة الروح الاستغلالية، والاستعلاء الفرنسي على الأفارقة، وتكرار السياسات الاستعمارية نفسها، مما دفع الدول الأفريقية إلى البحث عن بدائل والاستغناء عن فرنسا إلى درجة قطع العلاقات الدبلوماسية معها وهي كالتالي:
- أفريقيا الوسطى: قطعت علاقتها بفرنسا عام 2021، على إثر اتهامات متبادلة بين البلدين بحملات ممنهجة.
- مالي: منذ الانقلاب الذي قاده عصيمي غويتا بدأت علاقاتها بفرنسا بالتراجع حتى تم الإعلان عن قطعها نهائيا عام 2022.
- بوركينا فاسو: طلبت استبدال السفير الفرنسي في واغادوغو قبل أن تطلب مغادرة القوات الفرنسية أرضيها في غضون شهر يوم 19 يناير/كانون الثاني الجاري.
ما أسباب تدهور العلاقات بين فرنسا والدول الأفريقية؟
تتعدد الأسباب التي دفعت -والتي يمكن أن تدفع- دولا أفريقية أخرى لسلوك الطريق نفسه في التعامل مع فرنسا، ولكن يمكن إجمالها على النحو التالي:
- إخفاق السياسة الفرنسية واستمرارها بذات النفس الاستعماري الاستعلائي في أفريقيا ورفضها الاعتذار عن أخطائها السابقة، وبالتالي ضعف رصيدها والإنهاء على ما تبقى من ثقة.
- فشل فرنسا منفردة -أو مستعينة بالدول الأوروبية- في التصدي لمخاطر انتشار الجماعات الإسلامية في دول الساحل والصحراء.
- توسع رقعة عمليات المنظمات المسلحة بعد التدخلات الفرنسية وتوالد الجماعات وانتشارها في عدد جديد من البلدان الأفريقية، وهو ما دفع بأسئلة جدوى وجود القوات الأجنبية إلى الواجهة.
- بروز جيل أفريقي جديد متحرر إلى حد كبير لا ينظر إلى فرنسا إلا باعتبارها مستعمرا لا يضع مصالح الأفارقة ضمن قائمة الاهتمامات، وهو ما دفعهم إلى البحث عن شركاء ليست لهم سوابق استعمارية في أفريقيا.
- تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية والاقتصادية للشعوب الأفريقية بعد جائحة كرونا وتفاقمها بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، مع انسداد الآفاق في حلول عملية تضمن استقرار الأحوال في المجالات كافة.
هل تعتبر المنافسة الصينية الروسية التحدي الرئيسي لفرنسا؟
على الرغم من تصريحات رؤساء فرنسا -منذ فرانسوا هولاند إلى الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون- بضرورة مراجعة السياسة الفرنسية في أفريقيا، فإن الواقع فرض عناصر منافسة جديدة بدخول الصين وروسيا على خط التنافس.
من جهتها، تتبع الصين سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية، مع التركيز على مجال الاقتصاد والبني التحتية والقروض الميسرة، فوجدت قبولا في أفريقيا وأصبحت الشريك الاقتصادي الأكبر في وقت وجيز، وتفوقت على الولايات المتحدة والشركاء الأوروبيين، ويتوقع أن ترتفع استثمارات الصين إلى 500 مليار دولار تقريبا في 2025، هذا فضلا عن المساعدات غير المشروطة التي تدعم بها الصناديق المحلية في أفريقيا.
أما روسيا فعلى الرغم من العودة المتأخرة إلى أفريقيا، فإنها احتلت موقعا متقدما في الشراكات مع الدول الأفريقية، وأصبحت منافسا قويا على حساب المساحات التي كانت تتمدد فيها فرنسا وغيرها من الدول، فتقدمت في عدد من المجالات:
- قامت روسيا بإعفاء عدد من الدول الأفريقية 20 مليار دولار من الديون المستحقة، فكانت بادرة حسن نية وعربون صداقة.
- أصبحت روسيا -في وقت وجيز- أكبر مصدر للسلاح لأفريقيا، مما يسد حاجتها في مواجهة النزاعات الأفريقية المزمنة وبشروط ميسرة (كانت روسيا مصدر 50 % من السلاح الوارد إلى أفريقيا في 2020).
- توفر روسيا تدريبا للجيوش الأفريقية عبر شركة “فاغنر” التي تنشط في عدد من المجالات منها تقديم الحماية للمؤسسات والشخصيات والاستثمارات.
- لعبت الدعاية الروسية -عبر وكالة سبوتنيك ومحطة “روسيا اليوم”- دورا مهما في إضعاف صورة فرنسا أمام الرأي العام في أفريقيا، وقد شكت باريس مرارا وتكرارا من الدعاية السوداء ضدها.
ماذا ينتظر فرنسا إذًا؟
وعلى خط تململ عدد من الشعوب الأفريقية غير بعيد عن مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، فهناك تشاد التي خرجت فيها المظاهرات والنيجر التي انتقلت إليها الجيوش التي أجلتها فرنسا من مالي وأفريقيا الوسطى، فالسياسة الفرنسية في منعطف الاختبار، فإذا بقي ثمة وقت ينبغي لفرنسا أن تعالج فيه سياساتها أو تخسر المخزونات الإستراتيجية الأفريقية ربما إلى الأبد.