مآذن متصدعة وزلازل مستمرة وبقلاوة.. حياة تأبى التوقف في غازي عنتاب
غازي عنتاب- لم تتوقف مئات الزلازل الارتدادية التي يمكن الشعور بها في مدينة غازي عنتاب (جنوبي تركيا) منذ الزلزال الكبير فجر الاثنين الماضي، وقد تستمر -بوتيرة أقل- أسابيع أو أشهرا قليلة حسب خبراء الزلازل، لكن الحياة أيضا لم تتوقف في المدينة التاريخية التي يسكنها أكثر من مليوني إنسان.
سكان غازي عنتاب -التي تعد واحدة من أقدم المدن المأهولة بالسكان في العالم- لا يزالون تحت وطأة صدمة الزلزال الأول بقوة 7.7 درجات -الذي أعقبه زلزال آخر بعد ساعات بقوة 7.6 درجات- ولا يملكون رفاهية الفرح بالنجاة من الكارثة بين حزام المدن المتضررة.
لكن مظاهر الحياة -التي لم تعد كما كانت- بدأت تعود رويدا رويدا، وبدأت الروح تدب في المدينة التي لم تدمر أغلب أبنيتها رغم أنها تقع على بعد 60 كيلومترا فقط من بازارجيك بكهرمان مرعش مركز الزلزال.
تنتصب المآذن قائمة بمناراتها العالية التي أصاب الزلزال كثيرا من أجزائها العلوية، ويوزع أصحاب المطاعم وجبات مجانية ساخنة، ويقدم متطوعون ووكالات الإغاثة المواد الغذائية والحساء الساخن في درجات حرارة وصلت إلى 11 درجة تحت الصفر.
وتمتلئ ساحات المدينة وحدائقها بمطابخ ميدانية وخيام وسيارات اختار أصحابها البقاء فيها لتجنب التعرض لموجات ارتدادية محتملة، ويجد كثيرون في النار الموقدة حول حطب التدفئة فرصة للتسامر وتناول بقلاوة عنتاب الشهيرة بفستقها المحلي.
في إحدى تلك الخيام بعد منتصف الليل، جلست مجموعة من الأتراك والسوريين يتبادلون أطراف الحديث حول نار موقدة للتدفئة، ويستذكرون دفء بيوتهم، ويغني بعضهم الأغاني المحلية التي تمجد البطولة والحب والهجرة.
من كهرمان مرعش إلى غازي عنتاب
في الطريق الشمالي إلى غازي عنتاب، لا بد من المرور بكهرمان مرعش، المدينة التي وقع الزلزال بين ضاحيتيها بازارجيك وألبيستان، وتبدو آثار الدمار هائلة في مركز المدينة العريقة التي تشتهر بمثلجاتها من العلامات التجارية الدولية.
ويقول مدير مركز أبحاث الزلازل بقسم الهندسة الجيولوجية بجامعة التاسع من سبتمبر حسن سوزبيلير إن طريق كهرمان مرعش-غازي عنتاب السريع انحرف 3 أمتار كاملة إلى الجانب بسبب تأثير الزلزال بالقرب من قرية تيفيكيلي.
وأضاف سوزبيلير -في بيان- أنه تم الكشف عن كسر الصدع السطحي الذي تسبب بالزلزال وقتل آلاف الناس في 10 مقاطعات، وتسبب ذلك الصدع بانزلاق 3 أمتار من الأرض.
وأدى انزلاق وهبوط الطريق السريع الواصل بين مدينتين إلى حوادث لسيارات كانت مسرعة وقت الزلزال واهتزت الأرض من تحتها، وخرج بعضها عن الطريق أو خرج الطريق نفسه عن مساره المفترض.
ورغم أن مركز الزلزال الكبير كان بين المدينتين، فإن كهرمان مرعش تأثرت مبانيها بشدة، في حين بقيت أغلب مباني غازي عنتاب سليمة أو مصابة بشقوق فحسب، ويعود ذلك الفرق لطبيعة المباني والبنية الحضرية للمدينتين حسب خبراء. ورصدت كاميرا الجزيرة نت محاولات فرق إغاثة إجلاء عالقين تحت الأنقاض، بينما يستمر تحليق مروحيات الإغاثة في الأجواء.
وقال أحد العاملين في فرق البحث والإنقاذ إنهم يعطون أولوية للمباني المهدمة التي يعثرون على أصوات تحت أنقاضها عبر الاستماع والمسح بأجهزة حساسة ومجسات صوتية وحرارية والكلاب المدربة، إضافة إلى استخدام محدود لنظام الرادار التركي (دار) المخصص للكشف عن العالقين تحت الأنقاض، ومع ذلك فإنهم لا يفضلون البوح بتوقعاتهم -إذا كانت سلبية- لذوي الضحايا، ويستمرون في جهود الإنقاذ حتى لو وصلوا لجثامين فحسب.
وتحدث أحد العاملين في فرق البحث والإنقاذ عن تقنية ممر الإنقاذ الآمن الذي يتم من خلاله اختراق الأبنية المهدمة للوصول للناجين بعد تحديد مكانهم، وتستخدم هذه التقنيات من قبل المنقذين المؤهلين فقط.
وفي غازي عنتاب، تبدو المدينة للوهلة الأولى كأنها غير مصابة، لكن الصدمة النفسية قاسية، كما يقول رجال ونساء تحدثوا للجزيرة نت عن خوفهم من العودة لبيوتهم (التي لم تصب بأضرار) نتيجة الصدمة.
ولجأ آلاف من سكان غازي عنتاب وضواحيها والولايات القريبة منها لمطار المدينة الجديد أو محطة الحافلات الرئيسية واستقلوا رحلات مجانية (أو مخفضة) مخصصة للإجلاء لولايات تركية أخرى بعيدة عن منطقة الزلازل.
بقلاوة وكباب ومآذن متصدعة
في الكوارث تظهر وجوه مشرقة وأخرى قاتمة للأخلاق والكينونة الإنسانية؛ فكما استغل بعض اللصوص حالة الخلخلة الأمنية وتوابع الزلزال، ظهرت وجوه ناصعة عديدة؛ منها فتح فنادق -بعضها من فئة 5 نجوم- أبوابها لاستضافة النازحين جراء الزلزال من خارج وداخل الولاية.
وتكشف الأزمة كذلك عن عمق علاقة غازي عنتاب بحلب المجاورة لها على الطرف السوري من الحدود؛ فالمدينة التركية -التي يعيش فيها نصف مليون سوري- تضررت قلعتها العريقة مثل توأمها الشبيه قلعة حلب، واختلط السوريون مع الأتراك في مراكز التطوع بالمدينة التي تعرف بقوة بنيتها التحتية من الأوقاف والأنشطة الإنسانية والخيرية.
فرق الدعم والإغاثة بالمنطقة اعتادت على تقديم الدعم للخارج، لكنها هذه المرة اضطرت لدعم “الأقربين”، ومع ذلك فقد وصلت فرق إغاثة من مركز عنتاب لمناطق إصلاحية وهاتاي ونورداغ وكهرمان مرعش الأكثر تضررا من الزلزال.
وتحدثت كوادر إغاثية سورية وتركية للجزيرة نت عن جهودها لجمع التبرعات لمناطق شمالي سوريا المتضررة من الزلزال رغم نقص الكوادر البشرية، ووصلت للمدينة أرغفة خبز ساخنة تم خبزها في أفران بمناطق حدودية شمال غربي سوريا.
وفتح كثير من التجار وأصحاب المطاعم والمخابز أبوابهم للسكان لأخذ احتياجاتهم بالمجان، وقال صاحب أحد محلات الحلويات إنه تمنى توزيع البقلاوة بالمجان بعد النجاة من الزلزال، لكن فواجع الأخبار الآتية من ضواحي إصلاحية ونورداغ القريبة تمنعهم من ذلك.
ويخشى تجار وحرفيون وعمال من عواقب الزلزال طويلة الأمد على قطاع الصناعة؛ فمدينتهم التي تحتضن خامس أكبر المناطق الصناعية المتطورة في تركيا تشتهر بالمنتجات الغذائية والبلاستيكية والمنظفات والجلود والقطنيات والسجاد وغيرها، بالإضافة إلى حركة تجارة وزراعة ومناجم تعدين ومحطات طاقة كهرومائية وشمسية، وأوقفت الكثير من المصانع نشاطها مؤقتا من دون تحديد موعد لعودة العمل.
وبدأت المطاعم فتح أبوابها تدريجيا في المدينة، لكن المقاهي لا تزال أغلبها مغلقة، ويقول أحد أصحاب المقاهي للجزيرة نت “لم يعد لدينا ما نقوله لأصدقائنا مع الشاي والقهوة، لكن الأطعمة الساخنة ضرورة في البرد، لا سيما الكباب والبقلاوة”.
وتصنف غازي عنتاب واحدة من المدن الإبداعية التابعة لليونسكو عن فن الطهو منذ عام 2015، وتتميز بمطبخها الثري والمتنوع، لا سيما أطباق اللحوم والقدور والحلويات الخاصة بها.
وفي عنتاب، توقفت جامعات المدينة الأربع عن العمل حتى إشعار آخر، وأغلقت الكثير من المساجد التاريخية أبوابها بينما تحولت جوامع أخرى لاستضافة النازحين من بيوتهم. وقالت المديرية العامة للتراث الثقافي والمتاحف -في بيان وصل للجزيرة نت- إن متحف “زيوغما” الذي يعد أحد أكبر متاحف الفسيفساء في العالم بقطعته التاريخية النادرة “الغجرية” لم يتضرر.
تفسيرات ما بعد الكارثة
وقال البروفيسور أوكان تويزوز -بقسم الهندسة الجيولوجية من جامعة إسطنبول التقنية- للجزيرة إن الزلزال الأول كان مكافئًا تقريبًا لإطلاق الطاقة من انفجار نحو 5 ملايين طن من مادة “تي إن تي” المتفجرة، بينما الزلزال الثاني بعد عدة ساعات كان يعادل 3.5 ملايين طن.
وقال سكان في مناطق الزلزال للجزيرة نت إنه رغم أن الزلزال الثاني كان أضعف بقليل من الأول، فإن شعورهم به كان أكبر بكثير لأنه كان وسط النهار ولم يكن مفاجئا، ولأن بعض المباني كانت متضررة بالفعل تسبب الزلزال الثاني في انهيارها.
ويقول سنان توركان -المهندس المدني ورئيس جمعية التعديل التحديثي للزلازل في تركيا- إن الزلازل القوية المتتالية هي الأكثر خطورة على الإطلاق.
ورأى توركان أن “قواعد التصميم المقاومة للزلازل في تركيا ترقى إلى المعايير العالمية، بل تعد حتى أفضل من معظمها، لكن هناك الكثير من التفاصيل في الواقع تختلف عن الخطط النظرية”.
معظم المباني التي انهارت يوم الاثنين شُيدت قبل عام 1999 عندما ضرب زلزال بقوة 7.6 درجات منطقة غرب مرمرة وقتل أكثر من 17 ألف شخص. ومنذ ذلك الحين، طورت الحكومة التركية قانون التصميم المضاد للزلازل بشكل كبير.
وفي عام 2008، شرعت في إطلاق مشروع تحويل حضري طموح لإعداد تركيا “للزلزال الكبير القادم”، كما يتم التعبير دوما في وسائل الإعلام وخطابات المسؤولين.
قدمت الحكومة حوافز مالية لكنها لم تجعل المشاركة في مشروع التحول الحضري إلزاميًا للمتعهدين، ويعني ذلك أن الأشخاص الذين كانوا في وضع يمكنهم من جني الأموال من إعادة البناء (أي الأشخاص الذين لديهم أراض قيّمة ومناسبة لمزيد من التطوير) وافقوا على هدم ممتلكاتهم القديمة وإعادة بنائها وفقًا للقانون المضاد للزلازل.
وفي المقابل، لم يرغب كثيرون في إنفاق الأموال على أعمال إعادة البناء أو التعزيزات التي لم تكن تبدو ملحة لهم، وهنا يكمن السبب -كما يقول الخبراء- الذي يجعل البلاد بعد أكثر من 20 عاما من زلزال مرمرة المدمر تمتلئ بالمباني التي تم تشييدها باستخدام مواد دون المستوى وتقنيات بناء متقادمة، وهي المباني التي انهارت عندما واجهت هزتين قويتين للغاية.