غزة- لم يكن مشهد التلاحم في تشييع الزميلة الراحلة شيرين أبو عاقلة حالة استثنائية للعلاقة التاريخية المميزة التي تعكس “فسيفساء” الترابط الإسلامي المسيحي على أرض فلسطين منذ الفتح الإسلامي.

هذه العلاقة يناقشها الكاتب والمؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر في كتابه “الأقباط في بيت المقدس”، الذي نال قبل بضعة أيام جائزة يقدمها “منتدى المثقفين المقدسيين” بوصفه أفضل كتاب يتناول تاريخ مدينة القدس عن عام 2022.

 

نظرة تاريخية

يقع الكتاب -الذي أصدرته دائرة المعارف الفلسطينية في جامعة النجاح الوطنية بمدينة نابلس بالضفة الغربية- في 100 صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن 4 فصول شملت تاريخ الوجود القبطي في فلسطين، والثقافة والعمارة والقوانين القبطية، وعلاقة الأقباط بالأديان والملل الأخرى في فلسطين، والحياة السياسية القبطية.

وأراد أبو النصر من خلال هذا الكتاب توثيق عمق المعاناة التي عايشها الأقباط وإخوانهم الفلسطينيون من باقي الأديان جراء بطش الاحتلال الإسرائيلي، ويقول للجزيرة نت “لا تزال هذه المعاناة مستمرة مع مرور 74 عاما على النكبة، ولا يفرق الاحتلال في بطشه بين مسلم ومسيحي”.

 

وفي الفصل الأول من الكتاب، يتناول أبو النصر تعريف الأقباط، وهم المصريون المسيحيون الذين عاشوا في بيت المقدس منذ ألفي عام، وأسهموا في واحدة من أقدم الكنائس على وجه الأرض، وهي كنيسة القيامة في مدينة القدس المحتلة.

 

ويتحدث الفصل الثاني عن الثقافة والعمارة والقوانين القبطية، وفي الفصل الثالث يركز أبو النصر على علاقات الأقباط بالديانات والطوائف الأخرى، مع الإشارة إلى عادات وأعياد وتقاليد الطوائف المسيحية الأخرى ولغاتها المختلفة.

وعن علاقة الأقباط بالمسلمين، يقول أبو النصر إنها تجسدت بالعهدة العمرية، وعاشوا في أمن وسلام وتعايش وتعاون في ظل الإسلام.

وجاء الفصل الرابع بعنوان “الحياة السياسية القبطية”، وتناول فيه أبو النصر موقف الأقباط من القضية الفلسطينية، الذي جاء متصاعدا ومواجها للاحتلال الإسرائيلي، ورفض قرار تقسيم فلسطين (رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947)، فضلا عن مشاركة أقباط في الحروب المساندة لفلسطين.

 

ولأبو النصر 8 إصدارات أخرى تتحدث عن جوانب مختلفة من التاريخ الفلسطيني، أبرزها: “ثورة الكف الأخضر” ويوثق أول عمل عسكري فلسطيني ضد الانتداب الإنجليزي في ثلاثينيات القرن الماضي، و”تاريخ مخطوطات فلسطين” الذي يرصد تاريخها من زمن الكنعانيين وحتى الفتح الإسلامي، و”قلم رصاص” ويضم مجموعة من المقالات في قضايا مختلفة كتبها على مدار 15 عاما.

التاريخ المسيحي في فلسطين

ويعتقد أبو النصر أنه لا يمكن قراءة تاريخ فلسطين بمعزل عن الوجود المسيحي الممتد على هذه الأرض منذ عقود طويلة، ويقول إن الديانة المسيحية انطلقت من أرض فلسطين، ورغم تراجع أعداد المسيحيين الفلسطينيين في الوقت الحالي، فإن هناك آثارا قيمة تشير إلى هذا الوجود الضارب في عمق الزمن.

وتشير التقديرات إلى أن 1% فقط من الشعب الفلسطيني على أرض فلسطين التاريخية هم من المسيحيين في الوقت الحالي، ويعيش نحو 45 ألفا منهم في أراضي السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وحسب أبو النصر، فإن كنائس “المهد” في مدينة بيت لحم بالضفة الغربية و”القيامة” في القدس المحتلة و”البشارة” في مدينة الناصرة داخل فلسطين المحتلة عام 1948؛ هي الأقدم تاريخيا على وجه الأرض، فضلا عن كنائس وأديرة أخرى يعود تاريخها إلى مئات السنين، منها كنيسة “بيرفيريوس” في غزة المقامة منذ ما يزيد على 700 عام.

 

وتثبت مكتشفات تاريخية -وفقا لأبو النصر- أن الفلسطينيين لم يدينوا بالمطلق عبر التاريخ بالديانة اليهودية، وكانوا على دين المسيحية حتى الفتح الإسلامي، فقد انتقلوا من الوثنية في زمن الكنعانيين إلى المسيحية، ثم إلى اعتناق الإسلام، مما يدحض المزاعم الإسرائيلية بأقدمية التاريخ اليهودي على أرض فلسطين.

 

وأبو النصر ينحدر من أسرة لاجئة من قرية “دير سنيد”، ويقول إن كل المدن الفلسطينية التي تبدأ أسماؤها بـ”دير” تشير تاريخيا إلى الوجود المسيحي، والأديرة التي كانت منتشرة على امتداد الأرض الفلسطينية.

عرق واحد وعدو مشترك

وقال أبو النصر إننا وأخوتنا المسيحيين “عرق واحد مشترك”، ونسيجنا المجتمعي متماسك ومترابط عبر الزمن، ولم تشوبه أي خلافات جوهرية عميقة، كما هي الحال في بلدان أخرى وصلت إلى حد “الاقتتال الدامي”، وما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرقنا، ولدينا الكثير من القواسم المشتركة.

ووجد أبو النصر في جريمة قتل الزميلة شيرين أبو عاقلة خير نموذج ليدلل على واحدة من هذه القواسم التي تجمع الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين في مواجهة بطش الاحتلال.

 

وفي رأيه أن “شيرين قتلت لأنها فلسطينية وطنية، بغض النظر عن دينها”، ولم تمض سوى أيام قليلة على “المشهد البشع” لجنود الاحتلال وهم ينتهكون حرمة جنازتها ويعتدون على مشيعيها، حتى ارتكبوا الفعل ذاته مع جنازة الشهيد وليد الشريف، وهو أحد المرابطين في المسجد الأقصى المبارك.

وأكد أن هذه الجرائم ورغم ما تحمله من الآلام والمآسي فإنها “توحدنا كفلسطينيين” باختلاف الدين، وحتى الطوائف، وهو ما تجسد في واحدة من المرات النادرة جدا التي توحدت فيها كنائس القدس بقرع أجراس كنائسها في تشييع شيرين، ومشاهد مسلمين يحمون بأجسادهم العارية “جثمانها المسجى في تابوت” من السقوط رغم بطش الاحتلال.

وقال أبو النصر إن المسيحيين الذين تصدوا للحملات الصليبية الغربية، ووقفوا في جبهة واحدة مع المسلمين دفاعا عن أراضيهم، هم أنفسهم الذين يدفعون اليوم ضريبة صمودهم وثباتهم في وجه الاحتلال الإسرائيلي.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *