أفرزت جائحة كورونا كثيرا من المتغيرات؛ فالعالم بعد كوفيد-19 ليس هو العالم قبله، ونحن نعيش في زمن جديد هو زمن ما بعد كوفيد-19، وهو زمن رقمي بامتياز أفرز طرقا جديدة ومختلفة للعيش والحياة، فمن “التعلم عن بُعد” إلى “العلاج عن بُعد”، وصولا إلى “العمل عن بُعد”؛ في ظاهرة جديدة أفرزت نوعا جديدا من البشر والموظفين وطريقة عيش جديدة كانت حلما من الأحلام قبل سنوات قليلة فقط.

قبل انتشار الوباء لم يكن من المعقول تخيل ملايين الموظفين في جميع أنحاء العالم يتمتعون بميزة العمل عن بعد، سواء كانوا بدوام كامل أو جزئي، وحسب الإحصاءات فإن نسبة العاملين عن بعد في العالم وصلت إلى 18% من مجموع القوى العاملة العالمية، وهي في ازدياد مستمر، وهناك 16% من الشركات في العالم تعمل عن بعد بنسبة 100%، ويقول 77% من العاملين عن بُعد إنهم أكثر إنتاجية عند العمل من المنزل، وانعكس هذا على مستوى الدخل؛ إذ يبلغ متوسط الدخل السنوي للعمال عن بعد 4 آلاف دولار أعلى من العمال الآخرين، وذلك كما ذكرت منصة “فايند ستاك” (findstack) في تقرير لها مؤخرا.

 

وفي دراسة أجرتها مختبرات “أو دبليو إل” (OWL)، فقد قدرت أن 22% من القوى العاملة في أميركا (36.2 مليون أميركي) سيعملون عن بعد بالكامل عام 2025، وذلك كما ذكرت منصة “أبولو تيكنيكال” (ApolloTechnical) في تقرير حديث لها.

ويرى الرئيس التنفيذي لشركة “ميتا” مارك زوكربيرغ أن 50% من الموظفين في شركته سيعملون عن بعد بحلول عام 2030. وما يؤكد هذه الرؤية قول 32% من الموظفين العاملين عن بُعد إنهم سيستقيلون من وظائفهم إذا أُجبروا على العودة إلى العمل من المكاتب، وذلك كما ورد في التقرير السابق.

بحلول عام 2030 سيعمل 50% من الموظفين في شركة “ميتا” عن بعد (شترستوك)

من البدوي الرقمي؟

أوجد هذا الوضع فئة جديدة من البشر تحيا حياة مختلفة، وهذه الفئة تملك الحرية الكاملة في التنقل من بلد إلى بلد، والسفر متى شاؤوا، والعيش في أي مدينة أو دولة في العالم تروق لهم، وهم بلا وطن محدد؛ فالعالم كله يمكن أن يكون سكنا ووطنا لهم، وهم موظفون مكاتبهم أجهزتهم وحواسيبهم المحمولة وجوالاتهم، ولا يرتبطون بمكتب أو موعد محدد للعمل من الصباح إلى المساء في مكان معين، بل يستطيعون العمل من أي مكان في العالم وفي أي وقت.

 

يطلق على هذه الفئة الجديدة من البشر القادرة على العمل من أي مكان في العالم اسم “البدو الرقميون” (digital nomads)، ووجدوا ليبقوا، حيث يبلغ عددهم في العالم حاليا نحو 38 مليون إنسان، وهذا الرقم في ازدياد مستمر، وذلك كما ذكرت منصة “ليدر بوست”  (leader post) مؤخرا.

وإذا كان للوباء أي جانب إيجابي، فهو هذا التحول الديناميكي للقوة من أصحاب العمل إلى الموظفين، الذين أصبحوا يتمتعون بقوة أكبر عن السابق، وصار لديهم نفوذ وهامش تفاوضي أكبر للتمسك بمبدأ العمل عن بُعد.

وفي الحقيقة، فإن العمل عن بعد ليس الأمر الجديد، فقد عرفنا منذ عقود بعض الموظفين الذين كانوا يعملون من المقهى المجاور أو المنزل في بعض الأحيان، ولكن كان هذا شيئا محدودا، ويأتي في العادة نتيجة ظروف طارئة معينة، أما اليوم وبعد الجائحة فقد صار نمطا شائعا، وأسلوب حياة لكثير من البشر حول العالم.

 

وعلى أرض الواقع، فإن كثير من الموظفين أصبحوا يفضلون هذا النمط من العمل، حيث يختار المزيد منهم أسلوب حياة البدو الرحل الرقميين. وهؤلاء الأشخاص ليسوا مجرد مجموعة من صغار الموظفين أو العاملين لحسابهم الخاص من كبار السن الذين يقيمون عادة في المنزل أو الفندق؛ فحسب دراسة أجرتها مؤسسة “فوكوسرايت” (Phocuswright) فإن 80% من العاملين عن بُعد اليوم هم من الخبراء والمحترفين، ولديهم درجات علمية متقدمة، ووظائف بدوام كامل، ومزيد من الدخل المتاح الذي يوفر لهم حياة مريحة، وذلك كما ذكرت منصة “هوت ليفينغ”  (haute living) في تقرير لها مؤخرا.

هل نجح نظام العمل من المنزل في الحد من انتشار كورونا
بعض البلدان تعمل بالفعل على تلبية احتياجات البدو الرقميين عبر تأمين نوع جديد من التأشيرات التي تضمن جذب المزيد من العمال عن بُعد من الخارج (غيتي)

تأشيرات بدو رقمية

وتعمل بعض البلدان بالفعل على تلبية احتياجات البدو الرقميين من خلال تأمين نوع جديد من التأشيرات التي تضمن جذب المزيد من العمال عن بُعد من الخارج. على سبيل المثال، منحت البرازيل تأشيرات مؤقتة وتصاريح إقامة للموظفين الأجانب للبقاء لمدة عام، مع خيار التمديد إلى سنة ثانية، شريطة أن يتمكنوا من إظهار دليل على العمل.

وهناك دول أخرى قدمت تأشيرات بدو رقمية مماثلة تشمل كرواتيا والمكسيك وكوستاريكا والبرتغال وموريشيوس وإستونيا وجمهورية التشيك وجورجيا ومالطا وكرواتيا واليونان، وهناك كثير من الدول على الطريق لمنح هؤلاء الرحل تأشيرات طويلة الأمد، كما ذكر التقرير السابق.

ولحسن الحظ، فلا يحتاج كثير من هؤلاء البدو إلى تأشيرة طويلة الأجل إذا كانوا يزورون مدينة أجنبية بضعة أسابيع فقط.

البدو الجدد ينشطون القطاع السياحي في العالم

والأهم من ذلك، أدت ظاهرة البدوي الرقمي الجديدة إلى زيادة كبيرة في الإقامات الفندقية الممتدة في جميع أنحاء العالم، وفي “إير بي إن بي” (AirBnB) أصبحت الإقامات طويلة الأجل لمدة 28 ليلة أو أكثر الآن شريحة العملاء الأسرع نموا، وكانت تعادل نحو 22% من الرحلات المحجوزة في الأشهر الثلاثة الماضية، حسب ما ذكره التقرير السابق.

 

وتتطور الفنادق أيضا للترحيب بهؤلاء الرحل الرقميين من خلال توفير تجهيزات إضافية يحتاجها هؤلاء الرحل لعملهم مثل تجهيزات العمل والطابعات والمستلزمات المكتبية، التي تضاف إلى غرف الفنادق، أو حتى معدات اللياقة البدنية ومساحات خاصة للحضانة، وطبعا من الواضح أن وجود شبكة “واي فاي” سريعة وموثوقة أمر لا بد منه.

ليس هناك شك في أن البدو الرقميين يغيرون الطريقة التي نعيش ونعمل ونسافر بها، كما أنهم يلعبون دورا مهما في تعافي صناعة السفر والسياحة في العالم بعد الجائحة. وفي الواقع، قد يكون ظهور البدو الرقميين أكبر تغيير في قطاع السياحة والسفر في العالم منذ ظهور عصر الطائرة التجارية.

وفي الحقيقة من منا لا يريد العمل من على شواطئ جزيرة ساحرة في المحيط الهندي، حيث الرمال الناعمة، والشواطئ البلورية، وصوت أمواج البحر الخفيفة تضرب أقدامنا العارية المنغمسة بين الرمل في حين تكون أصابعنا تداعب لوحة الحاسوب وتعمل وسط نسيم البحر! إنه الفردوس المفقود الذي جعلت منه التكنولوجيا أمرا ممكنا بل أصبح واقعا معيشا.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *