بعيدا عن القارة الآسيوية، تشهد الديانة والفلسفة البوذية اهتماما ملحوظا في بلدان العالم الغربي بالتزامن مع تراجع الديانات الغربية وأبرزها المسيحية، نتيجة عوامل مثل الهجرة والعولمة؛ جعلتها الدين الأسرع نموا في بلد مثل أستراليا رغم أنها لا تزال الديانة الثالثة من حيث عدد معتنقيها بعد المسيحية والإسلام، رغم كونها تراجعت كثيرا في موطنها الأصلي بالهند لصالح الهندوسية.

وأصبح الاحتفال بعيد ميلاد بوذا في أستراليا حدثا ثقافيا معتادا، وأصبحت العقيدة البوذية -التي تنكر الإله الخالق- جزءا من الثقافة السائدة بالدولة القارة، لكن كيف ومتى اكتشفت بلدان الغرب بوذا؟

 

في مقاله الذي نشره موقع “ذا كونفرسيشن” (the conversation)، قال الكاتب فيليب سي ألموند، أستاذ تاريخ الأديان بجامعة كوينزلاند الأسترالية، إن الحقائق حول حياة بوذا مبهمة ولكن يمكننا الافتراض أنه ولد في موعد لا يسبق 500 ق.م وتوفي في موعد لا يتجاوز 400 ق.م. وقد قيل إنه ابن ملك هندي، أصابه الحزن من مشهد المعاناة لدرجة أنه أمضى سنوات في البحث عن إجابة لها، ووصل أخيرا إلى “التنوير” (صحوة الفكر) أثناء جلوسه تحت شجرة بودي “تين مقدس”، وكان اسم عائلة بوذا غوتاما “باللغة البالية أو السنسكريتية”، وقد قيل لاحقا إن اسمه الشخصي هو سيدهارتا ويعني “الشخص الذي حقق مسعاه”.

تراجع في الهند

ووفقا للتقاليد البوذية؛ كما يقول الكاتب، فقد أمضى بوذا 45 عاما يُعلم الطريق إلى التنوير ويجمع الأتباع وينشئ المجتمع الرهباني البوذي، وعند وفاته في عمر الـ80، دخل حالة النيرفانا (الخلو من المعاناة)، وفقا للأسطورة.

 

وروج الإمبراطور أشوكا للبوذية لأول مرة في الهند خلال القرن الثالث ق.م، ومنذ ذلك الوقت فصاعدا، انتشرت جنوبا، مزدهرة في سريلانكا وجنوب شرق آسيا، ثم انتقلت عبر آسيا الوسطى بما في ذلك التبت، وأكملت طريقها إلى الصين وكوريا واليابان، ومن المفارقات أن البوذية تراجعت في الهند في القرون التالية حيث انقرضت فعليا هناك بحلول القرن الـ13.

رحلة إيطالي

وفي القرن نفسه؛ قدم التاجر البندقي ماركو بولو للغرب روايته الأولى عن حياة بوذا، وذلك بين عامي 1292 و1295، في توثيق رحلته إلى الوطن من الصين، وعندما وصل إلى سريلانكا، سمع هناك قصة حياة سيرغاموني بوركان، وهو الاسم المنغولي لبوذا (سيرغاموني لشاكياموني) التي تعني حكيم عشيرة شاكيا، وبوركان لبوذا التي تعني المؤله.

ووفقا لماركو بولو كان سيرغاموني ابن ملك عظيم راغب في نبذ العالم، فيما نَقَل الملك سيرغاموني إلى قصر وأغراه بـ30 ألف عذراء، لكن عزم سيرغاموني لم يتأثر، وعندما سمح له والده بمغادرة القصر لأول مرة، التقى برجل ميت وعجوز عاجز، فعاد إلى القصر خائفا ومذهولا؛ قائلا لنفسه “إنه لن يظل في هذا العالم السيئ ولكنه سيذهب للبحث عن من صنعه ولم يمت”، وغادر سيرغاموني بعد ذلك القصر بشكل دائم وعاش الحياة الزاهدة لناسك أعزب؛ حيث علق ماركو قائلا “لو كان مسيحيّا لكان بالتأكيد سيكون قديسا عظيما”.

 

اليسوعيون والمؤلفون

وقال الكاتب إن الكثير لم يُعرف عن بوذا خلال الـ 300 عام التالية في الغرب، لكن ومنذ منتصف القرن الـ16، تراكمت المعلومات، بشكل أساسي نتيجة للبعثات التبشيرية إلى اليابان والصين، وبحلول عام 1700 كان هناك افتراض متزايد من قبل المطلعين على البعثات التبشيرية مفاده أن بوذا كان الحلقة المشتركة في طائفة من الممارسين الدينيين الذين كانوا يواجهونهم.

 

وتُظهر كتابات المؤلف الإنجليزي دانيال ديفو “1660-1731” ما قد يعرفه القارئ الإنجليزي المتعلم عن بوذا في أوائل القرن الـ18؛ حيث يخبر ديفو عن تمثال لبوذا على جزيرة بالقرب من البحر الأحمر، قيل إنه يمثل فيلسوفا ملحدا عاش قبل 500 عام من كونفوشيوس، أي حوالي ألف عام قبل الميلاد ووفق ديفو “تم نقل هذا التمثال إلى الصين مع تعليمات متعلقة بعبادته، والتي تحولت لمعتقد خرافي ألغى كونفوشيوس المعروف بإدانته للإلحاد والوثنية دائما”.

خلط

وواجه البريطانيون بوذا مختلفا تماما في أواخر القرن الـ18؛ فبينما حققوا هيمنة اقتصادية وعسكرية وسياسية في الهند، وقد كانوا يعتمدون على مخبريهم الهندوس، الذين أخبروهم أن بوذا كان تجسيدا لإلههم فيشنو الذي جاء ليقود الناس المضللين بالتعليم الكاذب.

ويبين الكاتب أنه نتيجة لذلك فقد ساد المزيد من الارتباك في الغرب؛ حيث قيل إن هناك اثنين من بوذا؛ أحدهما يعتقد الهندوس أنه التجسيد التاسع لفيشنو “ظهر حوالي ألف عام قبل الميلاد”، والآخر “غوتاما” الذي ظهر بعد حوالي ألف عام، ومما زاد الارتباك أن الغرب كان لديه تقليد منذ منتصف القرن الـ17 ينص على أن بوذا جاء من أفريقيا، وفي القرن الـ19، كان يُعتقد أن تماثيل بوذا، لا سيما في الهند وباكستان وأفغانستان، التي تم تصويرها بشعر أشبه بالصوف و”شفاه إثيوبية” سميكة كانت دليلا على أصوله الأفريقية، وبالطبع كانت هذه التمثيلات مخطئة في تصويراتها، وفق الكاتب.

أول استخدام لمصطلح “البوذية”

ويكشف الكاتب عن أن هذه الارتباكات انتهت بفعل نقطتي تحول رئيسيتين؛ الأولى كانت استنباط مصطلح “البوذية”، وكان أول استخدام له باللغة الإنجليزية في عام 1800 في ترجمة حددت هذا الدين الآسيوي، عندها فقط بدأت البوذية في الخروج من نطاق مجموعة “الأوثان والأصنام” التي تمثلت فيها، وأصبحت ينظر إليها كديانة، إلى جانب المسيحية واليهودية والإسلام.

 

وكانت نقطة التحول الثانية، وفق الكاتب، في وصول النصوص البوذية إلى الغرب، وكان العقد الذي بدأ من عام 1824 حاسما، فنظرا لأنه لقرون لم تكن هناك وثيقة أصلية واحدة للديانة البوذية متاحة لعلماء أوروبا. ولكن في غضون 10 سنوات، تم اكتشاف 4 آداب بوذية كاملة بالسنسكريتية والتبتية والمنغولية والبالية، تبعتها مجموعات من اليابان والصين، وقد مكنت هذه النصوص العلماء الغربيين من تحديد أن البوذية كانت تقليدا نشأ في الهند حوالي 400-500 عام ق.م. وكانت لاليتافيستارا -التي كُتبت حوالي القرن الرابع الميلادي- من بين هذه النصوص، وقد احتوت على سيرة بوذا الذاتية؛ حيث تمكن الغربيون لأول مرة من قراءة سرد عن حياته.

ورسمت اللاليتافيستارا والسير الذاتية الأخرى عالما ساحرا وخرافيا للغاية لحياة بوذا قبل ولادته، فقد أنجبه فيل، وكان رحم والدته شفافا، وكذلك قواه الخارقة عند ولادته، والعديد من “المعجزات” التي قام بها.

epa01025721 Buddhist monks pray as they perform a series of ceremonies commemorating Buddha's Day of Enlightenment, or Waisak, at Sewu temple in Yogyakarta, Indonesia 01 June 2007. EPA/CLARA PRIMA
رهبان بوذيون في إندونيسيا (لأوروبية)

لكن ضمن هذه النصوص السحرية، بقيت هناك قصة حياة بوذا التي نألفها، المتمثلة في الملك الهندي شودهودانا الذي نظرا لخشيته لأن يرفض غوتاما العالم، جعله في منأى من أي معاناة، وعندما غادر غوتاما القصر أخيرا، التقى برجل عجوز ورجل مريض ورجل ميت، وعندها قرر البحث عن إجابة لسبب المعاناة.

وبالنسبة لبوذا، فإن سبب المعاناة يكمن في التعلق بماديات العالم، وبالتالي فإن طريق التحرر منه يكمن في نبذ التعلق، وتم تلخيص طريق بوذا إلى نبذ التعلق  في “المسار الثماني المقدس” بالقول إن “الآراء الصحيحة، والعزم الصحيح، والخطاب الصحيح، والسلوك الصحيح، وسبل العيش الصحيحة، والجهد الصحيح، والوعي الصحيح، والتأمل الصحيح. كانت نتيجة هذا المسار هي بلوغ النيرفانا عندما تهرب الذات وقت الموت من إعادة البعث وتنطفئ مثل شعلة الشمعة”.

 

وكان بوذا الذي أُعجب به الغرب، خلاف بوذا غير الأناني، الذي قيل إنه مات في بساتين الأشجار بالقرب من بلدة كوسيناغارا الهندية.

التاريخ مقابل الأسطورة

ويتساءل الكاتب عما إذا كان بوذا في الأسطورة هو نفسه بوذا الذي في التاريخ، ويجيب قائلا إن التقليد الذي تقول به البوذية من المحتمل جدّا أن حكيما هنديا يُدعى غوتاما قد أسسه حوالي القرن الخامس ق.م. ومن المرجح أن يكون قد بشر بطريقة وسطى للتحرر، بين الانغماس الدنيوي والزهد المتطرف، ويكاد يكون من المؤكد أنه زرع ممارسات الوعي والتأمل، التي أدت إلى السلام والطمأنينة، وفق الكاتب.

ومع ذلك؛ أظهرت التقاليد البوذية الأولى القليل من الاهتمام بتفاصيل حياة بوذا. فقد كانت تعاليمه المسماة بالدارما هي المهمة وليس شخصه، لكن يمكننا تبين الاهتمام المتزايد بحياة بوذا من القرن الأول ق.م حتى القرن الثاني أو الثالث من العصر الحالي؛ حيث ينتقل بوذا في البوذية من مدرس إلى منقذ، ومن إنسان إلى مؤلَه، وفق اعتقادهم.

ويختتم الكاتب بقوله إنه من القرن الأول إلى القرن الخامس الميلادي، طورت العديد من النصوص البوذية التي تقدم روايات كاملة عن حياة بوذا، منذ ولادته إلى نبذه للعالم، وتنويره وتعاليمه، وأخيرا وفاته. وبهذا الشكل يكون هناك فترة طويلة -حوالي 500 إلى 900 سنة على الأقل- بين وفاة بوذا وهذه السير الذاتية. والسؤال هو هل يمكننا الاعتماد على هذه السير المتأخرة لبوذا للحصول على معلومات دقيقة عن أحداث حياته ؟ في الغالب لا. ومع ذلك، فإن أسطورة حياته وتعاليمه لا تزال تقدم إجابة لمعنى الحياة لحوالي 500 مليون من أتباعه في العالم الحديث.

المصدر : ذا كونفرسيشن

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *