في الفترة السابقة لاندلاع ثورة 1919 قام الاستعمار البريطاني بمطاردة ونفي العديد من السياسيين المصريين (مواقع التواصل الاجتماعي)

في الفترة السابقة لاندلاع ثورة 1919 قام الاستعمار البريطاني بمطاردة ونفي العديد من السياسيين المصريين (مواقع التواصل الاجتماعي)

في مطلع القرن العشرين تشكلت حركة سياسية مصرية في المنفى الأوروبي نتيجة عوامل عدة، وشكلت -رغم ندرة الدراسات عنها- تاريخا مهما في سياق تشكل الجماعات الوطنية في الحقبة الاستعمارية وما تلاها، وبما أن الحقبة الاستعمارية ما زالت تلقي بظلالها على عقلية وتركيبة الدول والمجتمعات التي كانت مستعمرة فإن العودة إلى أخذ البعد التاريخي لها وأثرها المستمر مهمة لفهم العديد من الظواهر الحالية وكيفية التعامل معها.

ألمانيا القيصرية

 

في زمن الحرب العالمية الأولى لاحظت القيصرية الألمانية أن معظم البلدان الواقعة تحت احتلال منافستيها فرنسا وبريطانيا هي بلدان إسلامية، وتقع في الأساس ضمن عالم السلطنة العثمانية، من هنا تولدت الفكرة لدى الألمان باستخدام الإسلام -خاصة مفهومي “الجهاد”، و”القومية الإسلامية” (أو ما تعرف بفكرة الجامعة الإسلامية)- أداة تثوير للشعوب المسلمة ضد مستعمريها، وباعتبارها أحد الأسلحة الألمانية في حربها ضد الفرنسيين والإنجليز.

هذه الدعوة الألمانية للجهاد صادفت رغبة قوية لدى الأتراك في الدعوة إلى الجهاد لتحرير الشعوب التركية في القوقاز وآسيا الوسطى من نير الحكم الاستبدادي الروسي والأرمني، وإرساء نفوذ السلطان على جميع المسلمين الآخرين في العالم، ولا سيما في الهند، والتحرير النهائي للإمبراطورية العثمانية من الهيمنة الاقتصادية والسياسية من جميع القوى، بمن في ذلك الألمان، بحسب كتاب “تاريخ الإمبراطورية العثمانية وتركيا الحديثة” للمؤرخ الأميركي ستانفورد شاو.

عرفت هذه الدعوة إلى الجهاد في الأدبيات الغربية -خاصة الألمانية- بالحرب المقدسة (Heiliger Krieg)، وفي تلك الفترة رأت جمعية “تركيا الفتاة” في الدعوة إلى الجهاد أداة مهمة، ولها تأثيرها المباشر والقوي لتوحيد الشعب خلف سياسات الحكومة العثمانية، بحسب مؤرخين.

تجربة الحزب الوطني

وفي تتبع جذور المنفى المصري برزت مجموعتان رئيسيتان، المجموعة الأولى هي مجموعة “الحزب الوطني” الذي أسسه الزعيم السياسي مصطفى كامل عام 1907، والمجموعة الثانية يمثلها الخديوي عباس الثاني وحاشيته.

ففي الفترة السابقة لاندلاع ثورة 1919 قام الاستعمار البريطاني بمطاردة ونفي العديد من السياسيين المصريين، وكان معظمهم أعضاء في الحزب الوطني المصري، إلى جانب حركة طلابية واسعة تنتمي إلى نفس الحزب، وقد وجدت تلك الحركة في أوروبا -خاصة ألمانيا وسويسرا- كما أشار المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه “ثورة 1919.. تاريخ مصر القومي من 1914 إلى 1921”.

وكان السبب الرئيس خلف هذه المطاردة هو القدرة العالية لهذه المجموعات على التنظيم، ويعتبر الحزب الوطني الحزب السياسي الوحيد في التاريخ السياسي المصري الحديث الذي استطاع أن يؤسس لنفسه فرعا في المنفى (برلين)، وهي ظاهرة لم تتكرر في تاريخ المنفى المصري الحديث.

ويعود هذا إلى إيمان قادة هذا التيار بأهمية التنظيم المجتمعي والسياسي في العملية السياسية وتحقيق الأهداف على حد وصف جاكوب لانداو في دراسته عن الحزب الوطني “البرلمانات والأحزاب في مصر”.

ويُعتبر قادة هذا التيار مؤسسي نظرية ما عرف بـ”التنظيم الوطني المصري”، وعلى رأسهم الزعماء السياسيون عبد الله النديم، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وعبد العزيز جاويش، وآخرون ممن وصفوا باعتبارهم رواد العمل الوطني المنظم.

وانطلق رجال الحزب الوطني ينظمون العمال في نقابات وينظمون الفلاحين في جمعيات تعاونية زراعية، وقد كان محمد فريد حينها هو المحرك لهذه المسألة والدافع نحوها، وقد أوجد بذلك الأساس العملي للتحرك الحزبي في صفوف الطبقتين المقهورتين (العمال والفلاحون) من خلال تنظيمهما في مؤسسات اقتصادية واجتماعية يمسك الحزب الوطني بزمام التوجيه فيها.

من اليمين مصطفى كامل محمد فريد المصدر: الصحافة المصرية
الزعيمان السياسيان مصطفى كامل (يمين) ومحمد فريد (الصحافة المصرية)

جناحان للحركة الوطنية

وفي كتابه “محمد فريد الموقف والمأساة.. رؤية عصرية” ينوه السياسي والباحث رفعت السعيد بالنقابات التي أنشأها الحزب الوطني، ومنها “نقابة عمال الصنائع اليدوية في بولاق، وقد اتسع نشاطها وأصبح عدد أعضائها 800 عضو، ثم أنشئت لها فروع أخرى في الإسكندرية والمنصورة وطنطا، وقد قام أيضا رجال الحزب بإنشاء 23 نقابة للتعاون الزراعي، و17 شركة تعاون منزلي”.

كان هذا العصر عصر التنظيمات على مستوى العالم وكذلك عصر الإصدارات كما يذكر المؤرخ الأميركي الكبير روبرت إل تيغنور في كتابه “التحديث والحكم الاستعماري البريطاني في مصر 1882-1914”.

وفي مصر وجدت صحف مثل جريدة الأهرام 1875، والمؤيد 1889، والمنار 1898 والتي أنشأها الشيخ رشيد رضا أحد تلامذة محمد عبده، وقد لعبت هذه الإصدارات دورا كبيرا في الحياة السياسية والثقافية في مصر والعالم العربي.

وأثرت الطبيعة الاجتماعية والسياسية لألمانيا في ذلك الوقت -باعتبارها دولة مضيفة- على أفكار المجموعات المصرية المنفية هناك، فقد كان هناك تياران متنافسان داخل الحركة القومية المصرية، التيار الأول كان يمثله الشيخ عبد العزيز جاويش الذي كان يمثل الجناح الإسلامي، وهو الجناح الذي أصر على العلاقات الوثيقة مع تركيا (الإمبراطورية العثمانية حينها)، وهو التيار الذي كان يتمسك بالجامعة الإسلامية والولاء “لدولة الخلافة”.

أما الجناح الثاني فكان يمثله الزعيم الوطني محمد فريد​​ الذي كان يمثل توجها أكثر “علمانية وبراغماتية”، والذي كان يهدف إلى الحكم الذاتي الكامل لمصر بعيدا عن الدولة العثمانية، إذ كان فريد يفكر في اتحاد إسلامي شامل مثل الاتحاد الألماني، على أن يتم تأسيسه بعد الحرب ويقوده العثمانيون، ولكن مع تمتع كل دولة إسلامية بالحكم الذاتي والمشاركة في الحقوق المتساوية مع الأتراك.

واعتقد فريد أن التحالف بين الاتحادات الألمانية والإسلامية سيكون حصنا قويا ضد الاستعمارات الأوروبية.

الخديوي والسلطان

وجاء التأثير الآخر للمنافي على الحركة الوطنية المصرية من رأس السلطة، ففي 18 ديسمبر/كانون الأول 1914 أعلنت بريطانيا الحماية على مصر وانتهاء السيادة العثمانية (الاسمية)، وفي اليوم التالي أعلنت عزل الخديوي عباس حلمي الثاني من منصبه، معللة ذلك بتعاونه مع أعداء بريطانيا، وأعلنت تنصيب عمه حسين كامل باشا وأطلقت عليه لقب “سلطان مصر”.

قبل اتخاذ هذه الخطوة من قبل الاحتلال الإنجليزي ظهرت علامات تلوح في الأفق تنبئ بأن الصدام بين الخديوي وسلطة الاحتلال البريطاني واقع لا محالة، فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى تأزم الموقف بين الخديوي عباس الثاني والمندوب البريطاني اللورد كتشنر.

من اليمين عباس حلمي حسين كامل المصدر: الصحافة المصرية
الخديوي عباس حلمي الثاني (يمين) والسلطان حسين كامل (الصحافة المصرية)

في هذه الأثناء، سافر الخديوي إلى تركيا، ليطلب الدعم ضد الإنجليز وللتفاوض على دوره المستقبلي في مصر، وترافق هذا مع إشاعة مفادها أن إنجلترا ستقوم بإعلان مصر تحت الحماية البريطانية الكاملة، فيما نفى دبلوماسيون بريطانيون لنظرائهم الأتراك ذلك، طالبين البقاء على الحياد لأن ذلك يعني عدم تغيير وضع مصر.

ويعتبر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه “محمد فريد رمز الإخلاص والوطنية” أن تعيين الأمير حسين كامل سلطانا لمصر كانت له أهداف كثيرة، على رأسها “محاربته الحركة الوطنية”، فقد تم تعيينه عام 1909 ليصبح رئيسا لمجلس شورى القوانين والجمعية العمومية، وكان الغرض من تعيينه في هذا المنصب هو إضعاف روح المعارضة والاستقلال في أعضاء المجلس، ومن هنا يمكن فهم سبب تعيينه سلطانا على مصر وتعاونه الدائم مع الإنجليز ضد الحركة الوطنية بعد قرار عزل الخديوي عباس حلمي الثاني.

في الوقت نفسه، بدأ الإنجليز بالتواصل مع الخديوي عباس حول الوضع الجديد، وقد تم الطلب منه بصورة واضحة أن يعترف بالوضع القائم في مصر، وقد اعترف بالفعل بأن الاحتلال الإنجليزي لمصر أمر واقع لا يقبل الجدل، كما أنه أظهر تفهمه تسمية السلطان الجديد (حسين كامل) خليفة له مقابل ألا يقوم الإنجليز بمصادرة ممتلكاته في مصر.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *