الجزائر- أمر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال ترأسه الأحد الماضي اجتماعا لمجلس الوزراء، باعتماد اللغة الإنجليزية بدءا من الطور الابتدائي، وهذا بعد “دراسة عميقة للخبراء والمختصين”، وفق بيان لرئاسة الجمهورية.

‎وتسجل المدارس الجزائرية أكثر من 10 ملايين تلميذ، من بينهم قرابة 6 ملايين منتسب إلى المرحلة الابتدائية التي تمتد من السنة الأولى إلى الخامسة، يدرسون حاليا الفرنسية لغة أجنبية وحيدة بداية من العام الدراسي الثالث، قبل الاستفادة من التكوين في الإنجليزية لغة ثانية في الطور الثاني (الإعدادي).

 

وكانت وزارة التعليم العالي أعلنت عام 2019 عن التوجه لتكثيف تعليم الإنجليزية، في إطار التحضير مرحليا لاستبدالها بالفرنسية في الدراسات العليا والتخصصات الدقيقة التي يتم تدريسها حاليا باللغة الأجنبية.

ولقيت إرادة وزارة التعليم العالي تأييدا وسط الأسرة الجامعية، في انتظار أن تجد طريقها للتنفيذ التدريجي، مثلما يؤكد مسؤولو القطاع.

وسبق للجزائر تعليم الإنجليزية في المرحلة الأولى من التعليم العام بصفة اختيارية وتجريبية محدودة، مطلع التسعينيات من القرن الماضي.

وارتفعت في السنوات الأخيرة مطالب الإعلام والنخب ونقابات التعليم وجمعيات أولياء التلاميذ بضرورة تدشين الانتقال اللغوي في الجزائر، بزحزحة الفرنسية -ولو تدريجيا- لصالح الإنجليزية في كل الأطوار التعليمية، بصفتها لغة أجنبية وليست لغة تدريس بديلة من العربية.

لذلك حظي القرار الجديد بترحيب واسع على كافة المستويات النخبوية والتعليمية والشعبية، غير أن هاجس التجربة الأولى يظل حاضرا في الأذهان، مما يفرض -بحسب الخبراء والشركاء- توفير شروط موضوعية لتأمين العملية.

 

تحرر من المناولة الفرنسية

وأكد محمد قماري، أستاذ اللسانيات بجامعة “الجزائر 2 – أبو القاسم سعد الله” أن قضية التخطيط اللغوي تندرج في المنظور الإستراتيجي للدولة، فهناك اللغة الأم التي هي ركن من الأركان المؤسسة لمفهوم الأمة، وكل تقصير في حقها يترتب عليه تصدعات في بناء هيكل الدولة.

‎ثم هناك اللغة أو اللغات الوظيفية الأجنبية المعنية بالتخطيط الظرفي، وفقا للخدمات المرجوة منها في تحقيق أهداف الأمة الإستراتيجية (سياسيا، وثقافيا، واقتصاديا…)، فهي خريطة بمتغيرات متحركة، وترتيبها محكوم بمنطقة المصلحة، على حد قوله.

وبنظرة خاطفة على خريطة سوق اللغات في العالم، يسأل قماري: أي اللغات أجدى للجزائر من الناحية الإستراتيجية في التوطين للعلوم، وفي مجال العلاقات الدبلوماسية، والثقافة، وإضفاء سيولة على التعامل الاقتصادي؟

ويجيب سريعا: الأكيد أن العين لا تخطئ وجود الإنجليزية على رأس الترتيب، و”لا يمكن فهم اختيار مجلس الوزراء على أساس رد انفعالي، كما يحب بعضهم وصفه، بل هو خيار إستراتيجي، يحرر الجزائر من منطق المناولة التي تؤديها الفرنسية إلى اليوم”.

د.محمد قماري الصحافة الجزائرية
محمد قماري يعتبر قرار مجلس الوزراء إستراتيجيا ويحرر الجزائر من المناولة الفرنسية (الصحافة الجزائرية)

وأوضح للجزيرة نت أن هذا الخيار سيواجه في البداية صعوبات، أهمها بقايا حنين الجيل القديم إلى الفرنسية، والأمر الآخر يتعلق بالتأطير، ومشكلة الإبقاء على القرار داخل منظوره الإجرائي السياسي، و”الأصل أنه قرار إستراتيجي يجب القذف به عبر الترويج داخل الكتلة الشعبية”.

مجازفة أم خيار مدروس؟

من جهته، يعتقد مسعود بوديبة الناطق الرسمي للمجلس الوطني المستقل لمستخدمي التدريس للقطاع الثلاثي الأطوار للتربية، أن “قرار إدراج الإنجليزية في التعليم الابتدائي، مع استحسان الأغلبية له، لا يمكن المجازفة بتطبيقه بصفة موضعية جزئية في منظومة تعليمية تحتاج إلى إصلاحات وتحيينات، مرورا بتشخيص واقعي ميداني”.

‎وأضاف بوديبة للجزيرة نت أن القرار يحتاج إلى دراسات معمقة، بإشراك فاعلي الميدان وأهل الاختصاص وخبراء لهم دراية شاملة بواقع قطاع التربية الوطنية، مع توفير كافة الإمكانات المادية والبشرية والمعنوية المطلوبة.

‎وربط القيادي النقابي نجاح الخيار بمراجعة وإعادة هيكلة علمية بيداغوجية (تربوية) تسمح بحل كافة الإشكالات المطروحة على منظومة التعليم الجزائري.

‎واشترط الخبير التربوي مسعود عمراوي أيضا فتح ورشات عمل لأهل الاختصاص، وتكوين الأساتذة وتحضير برنامج للأقسام النموذجية التي يؤمل انطلاقتها في الدخول المدرسي المقبل، كتجربة أولية، إلى حين تعميم العملية خلال موسم 2023-2024، مع “ضرورة إيلائها اهتماما بالغا، وإسنادها للمؤمنين بالمشروع، وإلا فستكون النتيجة عكسية”.

مسعودي عمراوي يحذر من تحرك اللوبي الفرنسي لاجهاض المشروع بمبررات واهية (الجزيرة)
مسعودي عمراوي يحذر من تحرك اللوبي الفرنسي لإجهاض المشروع بمبررات واهية (الجزيرة)

‎وشدد على أن تأمين العملية يستوجب الابتعاد عن الارتجال والعمل في الغرف المظلمة، مع تحديد أجندة زمنية لتجسيد المشروع، والجهد الحثيث مع المختصين لإعداد البرامج والكتب المدرسية الجذابة التي تراعي النمو العقلي لتلاميذ هذه المرحلة.

‎وحذر العضو السابق في لجنة التربية بالبرلمان -في حديثه- من تحرك “اللوبي الفرانكوفيلي الذي سيعمل بقوة من أجل وأد المشروع، مفتعلا مبررات واهية”، على حد تعبيره.

نقاط ظل ومحاذير

من جهة أخرى، ظهر جمال ضو أستاذ التعليم العالي في الفيزياء النظرية بجامعة وادي سوف، حذِرا في تفاعله مع القرار المعلن، مؤكدا أن أزمة التربية والتعليم في الجزائر عميقة، وتتجاوز مسألة إضافة لغة أجنبية أو استبدالها.

ويرى أن “المدرسة الجزائرية اليوم بحاجة لتعليم التلاميذ أولا اللغة العربية، بعدما أصبحت مخرجاتها أشبه بمحو الأمية”.

 

واعتبر ضو -في تصريح للجزيرة نت- إعلان اعتماد الإنجليزية في التعليم الابتدائي مبهما وخاليا من أي تفاصيل، وكأنه “مجرد فقاعة للاستهلاك الإعلامي، وترك الباب مفتوحا لكل التأويلات”.

وقال أيضا إن القرار “لم يوضح هل ستكون الإنجليزية لغة ثانية بديلة للفرنسية أم ثالثة مرافقة، مما يفتح بابا للتساؤلات، بينما يفترض على الجهات الوصية حسم الأمر”.

وفي حال اعتماد الإنجليزية لغة أجنبية ثانية، بالإضافة إلى الفرنسية في الابتدائي، فسنكون عمليا أمام كارثة حقيقية وتدمير كلي لتحصيل تلميذ سيجد نفسه في متاهة لغوية متعددة، بلغة أو لغتين وطنيتين، ولغتين أجنبيتين، في ظل محيط مجتمعي لا يمت بصلة لهما بالنسبة لأغلب الأطفال الجزائريين، بحسب المختص جمال ضو.

ويضيف المتحدث أنه إذا كانت الإنجليزية بديلة للفرنسية، بصورة شبيهة بتجربة التسعينيات، فينبغي أن يكون الأمر ضمن إستراتيجية محكمة، تستهدف التحول اللغوي بشكل سلس وعبر مراحل وخطوات مدروسة وصولا إلى الجامعة.

وختم جمال ضو تعليقه بأنه ضد إقحام اللغات الأجنبية في المرحلة الابتدائية أصلا، لأنه يشوه لغة التلاميذ الأم، ويحدث خللا في تكوينهم وهويتهم، بل من الأفضل بيداغوجيا (تربويا) تأجيلها إلى المرحلة الإعدادية.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *