الحرب في أوكرانيا.. اختبار قاس للعلاقات الأميركية الألمانية
واشنطن- قبل مغادرته إلى واشنطن للقاء الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض اليوم الجمعة، طالب المستشار الألماني أولاف شولتز -في خطاب ألقاه أمام البرلمان (البوندستاغ) أمس- الصين بعدم تقديم مساعدات فتاكة (أسلحة) إلى روسيا، داعيا بكين لاستخدام نفوذها لدى موسكو للضغط من أجل انسحاب القوات الروسية من أوكرانيا.
ويمثل الموقف الألماني تطورا كبيرا من التردد المبدئي الذي اتخذته برلين عند وقوع الحرب في أوكرانيا، وهو ما سبب بعض القلق في الدوائر الأميركية إزاء الموقف الألماني من الحرب.
وعلى مدار السنوات الماضية، أظهرت ألمانيا نفورا كبيرا من فكرة استخدام القوة العسكرية، وترجع جذور هذا النفور إلى تاريخها في الحرب العالمية الثانية. فعام 2014، أصرت المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل على أنه لا يوجد حل عسكري للصراع في أوكرانيا، ورفضت اقتراحات بأن تقدم ألمانيا مساعدة عسكرية إلى كييف حتى بعد ضم موسكو شبه جزيرة القرم.
تدرج الموقف الألماني
فور وقوع الهجوم الروسي على أوكرانيا، سارعت الولايات المتحدة لتقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا، في الوقت الذي ترددت فيه ألمانيا في القيام بخطوة مماثلة بسبب علاقاتها التاريخية وإرث العدوان النازي على الأراضي الروسية والأوكرانية معا، وأظهر بايدن وإدارته كثيرا من الصبر في التعامل مع التردد الألماني المبدئي، من هنا صبغ الموقف من الحرب علاقات واشنطن وبرلين الثنائية بطرق جديدة، خاصة لكونهما أكبر عضوين في حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO)، وتملكان أكبر قوة اقتصادية، وقدرات صناعية وعسكرية ضخمة.
وبعد 3 أيام من الحرب الروسية الأوكرانية، ألقى المستشار شولتز واحدا من أهم الخطابات في تاريخ ألمانيا الحديث، وهو الخطاب الذي ألغى معه ثوابت سياسة بلاده الخارجية والدفاعية المتبعة منذ استسلامها عند نهاية الحرب العالمية الثانية، واصفا الحرب بأنها “تحول كوني”، ووعد بتجديد سياسة ألمانيا الخارجية والدفاعية بشكل شامل ردا على ذلك.
مصالح وحسابات مختلفة
نظرت ألمانيا في البداية إلى أزمة أوكرانيا باعتبارها مسألة أمن إقليمي، في حين اعتبرت واشنطن أن الحرب في أوكرانيا تشكل قطعة واحدة في لعبة الشطرنج الجيوسياسية العالمية المعقدة ضمن حساباتها مع الصين وروسيا.
بالنسبة لواشنطن، كانت هناك دائما مقاومة ألمانية لزيادة الإنفاق العسكري، فقد كانت أقل من اتفاقية النسبة المقررة لدول الناتو البالغة 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
وأضاف اعتراض واشنطن على المشاركة الألمانية لروسيا في خطوط أنابيب الغاز “نورد ستريم” (Nord Stream) كثيرا من التوتر لعلاقات الدولتين قبل الحرب على أوكرانيا، خاصة مع تهديد الحليف الأميركي بفرض عقوبات لردع صفقة الغاز الروسي لألمانيا.
وكانت سنوات حكم الرئيس دونالد ترامب قد أضرت بعلاقة واشنطن ببرلين، إذ طالب ترامب بسحب الآلاف من الجنود الأميركيين من قواعدهم العسكرية داخل ألمانيا، ورأت واشنطن ضرورة أن تتقاسم ألمانيا مزيدا من عبء الدفاع عن أوروبا، حتى تتمكن من تخصيص مزيد من الموارد لمنافسة الصين في المحيط الهادي.
تغيير الرؤية
وغيرت برلين رؤيتها لروسيا بعد وقوع الحرب، وأدركت أن روسيا ليست الشريك الذي كانت تأمل، وأن طموحات الكرملين قد تمتد إلى ما وراء أوكرانيا، ويأتي ذلك في وقت يدرك فيه الألمان أن آسيا والتعامل مع صعود الصين سيستهلكان مزيدا من الاهتمام والموارد والتركيز العسكري الأميركي.
واتخذت ألمانيا خطوات عسكرية غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ مدت أوكرانيا بأكثر من ألف صاروخ مضاد للدبابات و500 صاروخ “ستينغر” (Stinger) المضاد للطائرات، كما أوقفت الحكومة الألمانية كثيرا من القيود المفروضة على الأسلحة الألمانية الصنع التي يتم إرسالها إلى مناطق الصراع.
ومنحت ألمانيا ملاذا لملايين الأوكرانيين الفارين من الحرب الأخيرة، إلا أنها رفضت إرسال دبابات “ليوبارد” (Leopard)، مكررة تبرير رفضها بأنه لا يمكن لألمانيا القيام بذلك بمفردها.
وقال شولتز إن ألمانيا لن تفعل ذلك بمفردها وإنه ينتظر أن ترسل الولايات المتحدة دبابات “أبرامز” (Abrams) الثقيلة إلى أوكرانيا، وهو ما تحقق لاحقا.
غطاء دبلوماسي
وظهر خلاف داخل ألمانيا حول إذا ما كان ينبغي توفير دبابات القتال ليوبارد لأوكرانيا في وقت لم تكن فيه أي دولة غربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، قد قدمت دبابات قتالية غربية الصنع إلى أوكرانيا، وترددت ألمانيا في القيام بذلك بمفردها، قبل أن تشترط قيام واشنطن بالخطوة نفسها، وهو ما تم لاحقا.
واحتاج المستشار شولتز إلى “غطاء دبلوماسي وأمني” لاتخاذ قرارات سياسية غير مريحة للرأي العام الألماني، كما قال توماس كلاين بروكهوف، كبير الباحثين في صندوق مارشال الألماني في برلين.
وأثنى بايدن علنا على المستشار شولتز بسبب “التزامه الثابت” تجاه أوكرانيا، وكذلك نَسب الفضل إلى ألمانيا في “اتخاذها خطوات تدريجية تجاه تقديم الدعم لأوكرانيا”.
واتخذ شولتز قرارا تاريخيا قبل نهاية العام الماضي، وذلك بموافقته على إرسال دبابات قتالية رئيسية من طراز ليوبارد إلى أوكرانيا، وعلى الرغم من أن بايدن نفى أن يكون قد مارس ضغوطا على شولتز أجبرته على تغيير رأيه بشأن إرسال الدبابات الألمانية، فإن التشاور الذي استمر أسابيع كان بمثابة تذكير بالحاجة الألمانية إلى حليفها الأكبر.
وقال كلاين بروكهوف إن صناع السياسة في واشنطن أدركوا الآن “مدى رغبة الألمان في اتباعهم وليس قيادتهم”.
عقيدة عسكرية جديدة
بعث الهجوم الروسي على أوكرانيا برسالة سلبية لألمانيا ولعقيدة تسليح جيشيها، خاصة ما يتعلق بغياب رادع عسكري أمام أي تصعيد روسي في الساحة الأوروبية.
ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمتها واستسلامها، تبنت ألمانيا دستورا سلميا حدّ من قدرتها على بناء جيش قوي أو لعب أي دور عسكري في النزاعات الخارجية.
ومع بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، تشهد ألمانيا خطوات متسارعة باتجاه تغيير عقيدة تسليح جيشيها، وهو ما يثير كثيرا من القلق لدى خصومها، في الوقت الذي تلقى فيه هذه الخطوات ترحيبا كبيرا داخل واشنطن.
ويبلغ حجم الإنفاق العسكري الألماني في العام الحالي 2023 ما يقرب من 55.4 مليار دولار، كما بدأت ألمانيا خطوات تأسيس صندوق خاص بقيمة 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني، ومؤخرا أعلنت برلين أنها أبرمت صفقة مع واشنطن لشراء 35 طائرة من طراز “إف-35” (F-35).
وفي حديث للجزيرة نت، يقول ستيف بايفر، خبير الشؤون الأوروبية ونزع السلاح بمعهد بروكينغز، تعليقا على هذا التحول إن هناك “تفهما أميركيا ودعما واسعا للقرارات المتخذة في برلين لزيادة الإنفاق الدفاعي وتعزيز قدرات جيشيها”.
ووافق البرلمان الألماني مؤخرا بأغلبية كبيرة على تعديل دستوري يتيح استثمارات بالمليارات لصالح الجيش الألماني، وهو ما دفع بالمستشار شولتز للقول إن بلاده ستمتلك قريبا أكبر جيش نظامي لدول حلف الناتو في أوربا، مضيفا أن ذلك سيعزز بشكل كبير أمن ألمانيا وحلفائها.