من السهل على المرء أن يحمل حقيبته، كصحفي أو ككاتب، ويذهب ليتقصى طريق البلقان الشهير، ليكتب ريبورتاجا أو رواية عن معاناة المهاجرين الذين حالفهم الحظ ووصلوا أحياء إلى بداية ذلك الطريق في اليونان.
السهولة تكمن في عدة أمور، أولها أن ذلك الكاتب محصن بجواز سفر أوروبي يستطيع من خلاله السفر والحجز في الفنادق والعبور كسائح. والأمر الثاني أنه لن يعاني من “بازار” المهربين، وطرقهم المختلفة للحصول على المال، وطرقهم الكثيرة في التضليل والكذب.
وإضافة لذلك فالكاتب يمتلك حساسية مختلفة تجعله ينتبه لتلك التفاصيل التي قد تمر عابرة، رغم آلامها الكبيرة، أمام الآخرين. ولكن هذه التفاصيل بالذات هي ما تمحي تلك “السهولة” وتجعل الآلام تنبثق مجددا كبيرة وثقيلة.
تجربة الهرب
الروائي العراقي الألماني نجم والي مر هو نفسه بتجربة الهرب من بلده العراق، ويعرف ما معنى اكتشاف الهارب من قبل حرس الحدود، وإعادته إلى بلده الذي قد يحكم عليه بالإعدام.
قرر الهرب يوم 28 أكتوبر/تشرين الأول 1980 في وقت كان ذلك يعني الهرب من “الواجب الوطني” في الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) وعقوبة ذلك الأمر كانت تصل إلى الإعدام من خلال محكمة عسكرية سريعة ومرتجلة.
“زورت بعض الوثائق الرسمية التي ساعدتني في عبور الحدود العراقية التركية برا، كما أنني سافرت بالقطار من إسطنبول عبر صوفيا وبلغراد وبودابست وبراغ، ثم برلين ومنها إلى هامبورغ”.
يقول والي في كتابه “طريق البلقان” الصادر بالألمانية عن دار ماتيس أوند زايتس البرلينية: يبدو هذا السفر، بعد الحظ الكبير في عبور الحدود العراقية التركية، مرفها، لا بل محسودا عليه من خلال المرور بعواصم ومدن تحمل بريقها وهيبتها.
في كتابه هذا يعود صاحب رواية “ملائكة الجنوب” في الطريق المعاكس لطريقه الأول ذاك، يعود من برلين إلى اليونان ليقيم في معسكري “إيدومني” و”مويرا” في جزيرة “ليسبوس” اليونانية متابعا الرحلات الشاقة والمتوالية للمهاجرين القادمين، عبر البحر، من تركيا إلى اليونان، ثم ليتابعوا طريقهم إلى “الجنة” الأوروبية” التي مات المئات منهم في سبيل الوصول إليها.
من أجل نوال
أحد أهم الأسباب التي دفعت والي لكتابة هذا البحث/الريبورتاج الثقافي والاجتماعي هو من أجل الكتابة عن معاناة أخته “نوال” التي جاءت من الجنوب ناحية الشمال هاربة من الوضع هناك، حيث لم تجد أمامها مخرجا غير تسليم نفسها إلى مزاج المهربين وخططهم وهم ينقلون الهاربين مثلها كما كانوا يفعلون (وسيفعلون) دائما عبر طريق البلقان.
يتألف كتاب طريق البلقان، الذي جاء في 170 صفحة، من مدخل: بداية الرحلة، ومن مدخل آخر بعنوان هجرة الهجرات، وكذلك من 5 فصول تحوي الكثير من العناوين الفرعية.
لم تخطر فكرة هذا الكتاب مسبقا على بال والي عندما قرر الذهاب إلى اليونان متتبعا حيوات المهاجرين وسيرهم وقصصهم وفقدان أرضهم وأهلهم “لم أعرف أن الرحلة التي فكرت بالقيام بها، بفضول، لرؤية ما يجري بأم العين، للحصول ولو على انطباع بسيط لما يجري هناك، ستذهب باتجاه آخر، أو أنها ستنتهي إلى منحى آخر”.
يقول صاحب رواية “تل اللحم” للجزيرة نت إن أكثر ما فكر به حينها هو عرض المساعدة للترجمة من اللغة العربية إلى الإنجليزية أو الإسبانية أو الألمانية، التي يتقنها والي، بين اللاجئين والمنظمات الطبية والإنسانية العاملة هناك.
لم يكن يعرف أن الرحلة -التي بدأت في أبريل/نيسان 2015 إلى معسكر إيدوميني- ستحمله على زيارتها مرة أخرى في يوليو/تموز من نفس العام، وبأنه سيبقى لفترة أطول، وسيتنقل مرارا برا عبر طريق البلقان، بالحافلة مع أولئك المهاجرين، من سالونيك حتى إسطنبول، أكثر من 550 كيلومترا، ومن إسطنبول حتى إزمير، قرابة 400 كيلومتر، ومنها إلى آيفاليك، حيث تنطلق شمالها بكليومترات قليلة قوارب المهاجرين، ثم بالباخرة إلى جزيرة ليسبوس حيث هدف أغلب تلك القوارب المشحونة بالبضاعة البشرية، وإلى شرق وشمال الجزيرة، في إيفتولو وموليوس.
بابليون وفرس ويونان
مثلما لم يعرف والي، ولم يخطط، بأن هذه الرحلة ستجعله يقرر تأليف هذا الكتاب، جاءته المفاجأة الأخرى خلال كتابته، فهو لم يكتب فقط هذا الريبورتاج الشخصي، بل ستحمله انطباعاته تلك على تذكر موجات هروب ساحقة في قدمها.
فالفصل الأول يكتب فيه عن الهجرات الكبرى التي جاءت من الجنوب باتجاه الشمال. عن البابليين والفرس والهيلانيين (الإغريق القدماء) وعن الإلياذة والأوديسة وملحمة جلجامش وعن العهد القديم والتناص الهائل بين تلك الملاحم والهجرات والمصائر والنصوص.
بينما ذهب الفصل الثاني إلى نبش الهجرات التي جاءت من الشمال، عن الحملات والفتوحات، عن الإسكندر الكبير وعن الحملات الصليبية.
خص والي الفصل الثالث عن رحالة قضوا حياتهم على طرق السفر، وعاينوا خلالها العمران والخراب، والحرب والسلام، والموت والنجاة… مثل ابن بطوطة وهانز كريتسنزين وجون دوس باسوس.
وخلال تلك الفصول يغرق القارئ في مقتطفات من كتب التاريخ والفلسفة والرواية والرحلة، وطوال الوقت يشعر، خلال القراءة، بأنه على متن قطار قديم يرتج بسبب السكك وخشبها وحجارتها، حتى يصل إلى المتن الأصلي لرحلة والي، والتي لن تستغرق حتى ثلث هذا الكتاب.
يقدم والي أحوال المعسكرات التي خصصت للاجئين الفارين إلى اليونان، كعتبة أولى قبل الاستمرار في طريق البلقان للوصول إلى الدول الغنية كألمانيا والسويد والدانمارك والنروج وفنلندا وهولندا والنمسا وسويسرا. بينما قد يكون الحظ سيئا نوعا ما إذا وصل الطريق باللاجئ إلى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، بسبب تفاوت الدعم الاقتصادي وتوافر فرص العمل للاجئين.
هذه المعسكرات التي تصبح من “الأسرار العسكرية” لأنها تصبح من اختصاص وسيطرة الجيش اليوناني، وبالتالي لا أحد يعثر على معلومات وبيانات حقيقية، ولا حتى على زيارات، إلا بعد الحصول على تصريح رسمي من المؤسسات الرسمية.
ومع أنها تعج بالمدنيين، الفارين من سوريا والعراق وإيران وباكستان وأفغانستان ومصر والجزائر والمغرب وإرتيريا والسودان والصومال، تصبح تلك المعسكرات محاطة بالأسلاك الشائكة والمكهربة ويمنع فيها التصوير. كأن الناس صارت فجأة في معتقل كبير وواسع، بسبب العبور الغير شرعي للحدود من أجل النجاة بحياتهم وعائلاتهم.
رغم منع التصوير في تلك المعسكرات، ضم هذا الكتاب 24 صورة لوجوه متعبة وقلقة، وسكك حديدية وسخة وبيوت صفيح وخيام مرتجلة، والكثير الكثير من الألم والأسلاك الشائكة.
كتاب لا ينقل بحيادية رحلات ومعسكرات الهروب، بل يفضح في طياته وحشية الإنسان في حروبه وجشعه واستغلاله ضد الضعيف والقلق والبائس، وكذلك السياسات الدولية التي تلعب بمصائر اللاجئين كأوراق للضغط المالي أو السياسي.
كتاب رحلات مثير ومؤلم هو ما كتبه الروائي العراقي نجم والي كعادة كتاباته لفضح العسكر والساسة وكذلك، هنا، المهربين.