يتوالى صدور الدراسات والإحصاءات التي تؤكد انحسار ظاهرة التدين والإيمان في الغرب، وهبوط نسبة معتنقي المسيحية إلى أقل من النصف. وفي حين تتجه أنظار معظم الباحثين إلى مؤشرات تزايد أعداد الملحدين واللادينيين، يلتفت بعضهم إلى ظاهرة أكثر غرابة، وهي انتشار الطوائف الوثنية والسحرية القديمة، ومنها الشامانية (Shamanism).
فوفقا لآخر تعداد سكاني في بريطانيا، الذي نشره قبل شهرين مكتب الإحصاءات الوطنية الحكومي (ONS)، انخفضت نسبة معتنقي المسيحية في إنجلترا وويلز خلال العقد المنصرم (2011-2021) من 59.3% إلى 46.2%، مقابل زيادة نسبة الذين لا يعتنقون أي دين من 25.2% إلى 37.2%.
ومن اللافت أن نسبة معتنقي الأديان الأخرى للمواطنين من أصول مهاجرة ارتفعت، في مقابل تخلي الإنجليز عن دينهم المسيحي، فبينما زادت نسبة الهندوس والسيخ بأرقام طفيفة (نحو 0.01%)، ازدادت نسبة المسلمين من 4.9% إلى 6.5%.
أما الملاحظة الأكثر غرابة، فهي ازدياد شعبية الأديان المنقرضة والطوائف التي تتعارض مع كل من المسيحية والعلمانية، حيث عرّف 74 ألف شخص أنفسهم على أنهم من أتباع الديانات الوثنية (Paganism)، و13 ألفا صنفوا أنفسهم بأنهم من أتباع الويكا، وهي ديانة سحرية ظهرت في القرن العشرين لاستعادة تراث ما قبل المسيحية، بينما قال 8 آلاف شخص إنهم من أتباع الشامانية.
وقال معدو الدراسة الإحصائية إن الشامانية تصبح بذلك أسرع “الأديان” انتشارا في بريطانيا، فمع أن عدد أتباعها قليل، إلا أنهم تضاعفوا أكثر من 10 مرات خلال العقد المنصرم.
We’ve released new #Census2021 data on religion in England and Wales.
46.2% said they were “Christian” – less than half of the population for the first time.
This was a decrease from 59.3% in 2011, but still the most common response.
➡️ https://t.co/Nv6VDkSO9i pic.twitter.com/HtoYJl7jkn
— Office for National Statistics (ONS) (@ONS) November 29, 2022
ما قبل التاريخ
لا يتفق الباحثون على أصل الشامانية الاصطلاحي والتاريخي، فبعضهم يرجح اشتقاق الاسم من جذور لغوية منغولية ويُقصد بها الإشارة إلى “الشامان” أي صاحب المعرفة، وهناك من ينسبها إلى أصل هندي سنسكريتي كان يُطلق على الناسك الصوفي، كما أعادها آخرون إلى أصول لغوية أخرى آسيوية وأفريقية.
والشامان هو الساحر الذي يكاد وجوده أن يكون عاملا مشتركا بين القبائل في العصور القديمة، ولا سيما في مراحل ما قبل التاريخ المدوّن، التي سبقت نشوء الدول والحضارات.
ففي غياب الرسالات النبوية والوحي، قبل ظهور المعابد الكبرى والهياكل الدينية المنظمة، كان الشامان يقدم نفسه للقبيلة بصفته وسيطا بينهم وبين عالم الأرواح، سواء كان رجلا أو امرأة، وغالبا ما كانت توكل إليه مهام العلاج والعرافة والتنجيم، وقد يكون على صلة حقيقية بالشياطين -التي تسمى الأرواح- عن طريق السحر، أو ربما يكون دجالا يمارس حيل الشعوذة.
وإلى جانب المهام الروحية، كان الشامانات يوظفون الرقص والموسيقى في أعمالهم، كما استغلوا المعارف الطبية التي كانت متداولة في ثقافتهم باستخدام الأعشاب، وغالبا ما أضفوا عليها أبعادا ميتافيزيقية (غيبية).
تقسّم الشامانية الوجود إلى 3 أقسام متساوية، وهي عالم الأرض بما يشتمل عليه من مكونات مادية، والعالم البشري، والعالم الكوني الذي يشمل النجوم والكواكب. ولكل من هذه العوالم روحه الخاصة، ويتكفل الشامان بالتواصل مع هذه الأرواح طلبا للعلاج ونزول المطر، أو لدفع الكوارث، وغير ذلك من الأهداف.
وبحسب المؤرخين وعلماء الآثار، تدل المؤشرات على وجود الشامانية في عصور سابقة لدى قبائل أستراليا وسيبيريا وكوريا واليابان والهند الصينية، وفي جميع أنحاء الأميركتين وأفريقيا، وفي مناطق متفرقة من أوروبا والشمال الإسكندنافي، وما زال وجودهم قائما حتى اليوم بنسبة أقل في المجتمعات القبلية والريفية. وقد أجمع خبراء عالميون أن مرُوج هولون بوير (شمال شرقي الصين) هي المنبع الرئيسي للثقافة الشامانية القديمة في العالم.
إعادة الإحياء
تتسم الشامانية بالبساطة والافتقار إلى التنظيم، فهي تعتمد أساسا على التجربة الفردية، وعلى اللجوء إلى استشارة أو مساعدة الشامان الذي لا يتطلب الاستناد إلى هيكل منظم أو مؤسسة دينية، لذا تقلص دور الشامان في الحضارات التي اتخذت لنفسها معابد وأنظمة ميثولوجية كاملة، وبقي السحرة يعملون فيها على هامش هذه المنظومة.
ومع انتشار الأديان الكبرى، تقلص دور الشامانات في معظم الحضارات، وحوربت أفكارهم المتناقضة مع العقائد الجديدة كالإسلام والمسيحية، أو أعيد دمجها في طوائف أخرى ظهرت داخل الأديان الرسمية، كما حدث في الهندوسية والبوذية.
وفي العصر الحديث، أخذت العلمانية واللادينية في الانتشار على حساب الأديان في مناطق واسعة من العالم، واعتُبرت الروحانيات القديمة ضربا من الدجل في المنظومة العلمية والثقافة السائدة، لكن الانحسار المتسارع للمسيحية في الدول الغربية خلال العقدين الأخيرين أتاح هامشا لافتا لإعادة إحياء هذه الممارسات التي كانت تُعد قبل سنوات قليلة فقط من الخرافات البائدة.
وتهتم الشامانية بمسألة التوازن بين قوى الإنسان الذاتية الداخلية والقوى الخارجية الروحية المحيطة به. وتكتسب نفوذها اليوم من ارتباطها المباشر بالتجربة الشخصية، فهي تعزز النزعة الفردانية التي تعد من أهم سمات الحضارة الحديثة، إذ لا تتطلب الممارسة انتسابا لكنيسة ولا اعترافا لكاهن، كما تبدو منسجمة مع نزعة التمرد اللادينية الرافضة لوجود إله متحكم في حياة الفرد، حيث لا يُلزم الممارس بأي شعائر للعبادة أو تشريعات مقيّدة.
علاوة على ذلك، تشبع الشامانية الحاجة الفطرية للانتماء، فمع أنها لا تتعارض مع الفردانية إلا أنها تنظم أتباعها في جماعات صغيرة، وهي تقدم بذلك بديلا للجماعات الدينية الأخوية، لكنها غير ملزمة، فلا يشكل الانتماء إليها عبئا على العضو الراغب في التجربة، ولو كان ذلك بدافع الفضول في البداية.
تقدم الشامانية أيضا فرصة لملء الفراغ الروحي الناشئ عن نمط الحياة الاستهلاكي، وتُقدَّم ممارساتها في إطار ترفيهي حافل بالرقص والموسيقى، وغالبا ما تقترن بتعاطي العقاقير المهلوِسة، مثل الآياهواسكا (Ayahuasca) الذي كان شائعا في منطقة الأمازون، وهو يُصنع من خلط نبتتين محليتين، إذ يعتقد متعاطوها أنها تمنحهم دخولا مؤقتًا إلى حالة بديلة من الوعي، تسمى بالنشوة الشامانية.
الموقف من الشامانية
مع أن انتشار النزعات الوثنية يزداد تسارعا في أوروبا، لكنها ما زالت مقتصرة على أقليات صغيرة للغاية، لذا فهي لا تثير اهتمام المتابعين حتى اليوم، لا سيما أنها تبدو أقرب إلى التجارب الروحية الفردية من الحركات المنظمة.
وعلى صعيد السياسة والدين، قد يبدي رجال الكنيسة والمحافظون امتعاضهم من تهافت بعض الشباب عليها، لكن العلمانيين والليبراليين يبدون تسامحا أكبر تجاهها، مع أنها تتعارض جذريا مع الموقف المادي من العالم، وقد يعود ذلك جزئيا إلى موقف براغماتي مصلحي يرى في هذه النزعات تشجيعا على نشر ثقافة الحفاظ على البيئة ومعالجة أزمة المناخ.
وفي السابع من يناير/كانون الثاني الجاري، أثار عدة سياسيين روس الجدل عندما شاركوا في احتفالات الشامانيين التي تُسمى طقوس “سامي” (Saami)، والتي وافقت عيد الميلاد الأرثوذكسي، وهو ما أثار غضب المسيحيين الأرثوذكس الذين رأوا في هذه المشاركات تعارضا مع “الأجندة الأرثوذكسية” للحكومة الفدرالية.
في المقابل، برر آخرون هذه الاحتفالات بأنها استعادة للثقافات الوطنية التقليدية، وأنها سلوك مقبول في زمن الحرب القائمة حاليا في أوكرانيا، وفقا لما نقلته صحيفة “يوراسيا ريفيو” (Eurasia Review) عن أستاذ الأديان في جامعة البلطيق الفدرالية رومان شيزينسكي.
وفي النرويج، اضطرت الأميرة مارثا (51 عامًا) للتخلي عن ألقابها الملكية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد إصرارها على التمسك بخطبتها من الأميركي دوريك فيريت، الذي يطلق على نفسه لقب “شامان”، والذي حاز شهرة واسعة في أوساط هوليود بتقديم علاجاته “الروحانية” للمشاهير.
وكان كبار السياسيين في النرويج قد أصدروا تصريحات معادية للشامان الأميركي، واتهموه بالترويج لنظريات المؤامرة والخرافات، في المقابل، رأى فيريت أنه يتعرض لاضطهاد عنصري بسبب أصله الأفريقي.
ويحذر الأطباء من خطر الترويج لما يسمى بالعلاج البديل، لا سيما محاولات إقناع المرضى بالتخلي عن علاج السرطان والأمراض النفسية والعقلية، كما يبرر آخرون تعاطيهم للمخدرات وممارسة الشامانية بمعالجة حالات الذهان أو الفصام، مما يزيد حالاتهم سوءا.