تختلف طبيعة التنين في الثقافة والأساطير الغربية عن طبيعته في نظيرتها الصينية، ولطالما كانت التنانين -بحسب الأسطورة الغربيةـ وحوشا ترمز للشرّ، تطير وتنفث النار، جشعة، وتحتفظ بتلال من الذهب والكنوز الثمينة الأخرى. كما استُخدم التنين رمزا للحرب، حملته سفينة الفايكنغ أو سفينة التنين لنقل محاربي الفايكنغ في غاراتهم عبر أوروبا.
في المقابل، تنفي الأسطورة الصينية عن التنين نفث النار، بل تشتهر تنانين الأساطير الصينية باستدعاء المطر، فالصين بلد زراعي ومياه الأمطار مهمة جدا للزراعة، ومن ثم كان يُنظر إلى التنانين على أنها “آلهة خير” تساعد في تحقيق الازدهار للأرض، وتتحكم في العناصر الطبيعية الأخرى المرتبطة بالمطر والرياح والسحب والضباب والرعد والبرق.
أساطير الصين التاريخية لا تزال حاضرة في اعتقاد الصينيين، سواء في البرّ الصيني أم في جزيرة تايوان حاليا، أم بين الجاليات الصينية حول العالم بما فيها الولايات المتحدة؛ لكن يبدو أن إدارة الرئيس جو بايدن تسعى إلى شيطنة التنين الصيني، ليصبح على غرار أسطورة التنين الغربي ينفث نارا بدلا من استدعاء المطر، يشجعها على ذلك نجاحها في استفزاز الدب الروسي لغزو أوكرانيا.. فهل يحذو التنين حذو الدب؟
لكز الدب
القشة التي قصمت ظهر البعير في دفع روسيا إلى غزو أوكرانيا كانت توقيع الولايات المتحدة وأوكرانيا ميثاق الشراكة الإستراتيجية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، والذي أكّد “دعم أميركا لحق كييف” في متابعة العضوية في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بما يجعل احتمال انضمام أ وكرانيا إلى الناتو أقرب من أي مضى، وهو احتمال لا يطيقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وذكرت وزارة الخارجية الأوكرانية -عند توقيع الاتفاق- أنه ينصّ على أن “الولايات المتحدة تعيد تأكيد التزامها بالحفاظ على سيادة أوكرانيا واستقلالها وسلامة أراضيها داخل حدودها المعترف بها دوليا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، ويكرّس الميثاق دعم واشنطن لتطلعات كييف إلى العضوية في المؤسسات الأوروبية والأطلسية”.
بعد توقيع الاتفاق توالت التقارير والأخبار الأميركية والبريطانية والغربية عموما عن قرب غزو روسيا لأوكرانيا، وتبارت أجهزة استخباراتها في إصدار التصريحات يوميا عن غزو روسي وشيك، حتى تحقق بالفعل يوم 24 فبراير/شباط الماضي.
لا تختلف لهجة ميثاق الشراكة بين الولايات المتحدة وأوكرانيا عن اللهجة التي تحدثت بها رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى قادة تايوان قبل يومين، خلال زيارتها التي استغرقت 18 ساعة إلى تايبيه، فأعلنت خلال حفل أقيم في المقرّ الرئاسي أن “تضامن الولايات المتحدة مع تايوان حاسم”.
وقالت بيلوسي -في مؤتمر صحفي لاحق- إن هناك “صراعا بين الاستبداد والديمقراطية بالعالم” في الوقت الحالي، مضيفة أن من أهداف الرحلة هو “إظهار نجاح شعب تايوان للعالم، والشجاعة من أجل تغيير بلدهم ليصبحوا أكثر ديمقراطية”.
الصين أبدت غضبا غير مسبوق من زيارة بيلوسي غير المسبوقة، واعتبرتها بكين “استفزازية” و”لعبا بالنار”، مؤكدة أنها ليست عملا فرديا من قبل النائبة الديمقراطية. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الصينية هوا تشون ينغ “إن الحجة القائلة إن بإمكان عضو في الكونغرس القيام بمثل هذه الرحلات دون موافقة البيت الأبيض، محض دعابة”.
مضت الزيارة وبقيت تبعاتها مفتوحة لما ستكشف عنه الأيام المقبلة من حسابات الكلفة السياسية والعسكرية والاقتصادية، وما تنطوي عليه من سيناريوهات أسوؤها إقدام الصين على ضم الجزيرة بالقوة، في حرب أخرى كالتي شنتها روسيا على أوكرانيا.
الغموض الإستراتيجي
فهل تلوح في الأفق بوادر حرب جديدة على شاكلة الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا؟ وهل هذا هو ما تريده إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن؟ وهل تتخلى إدارته عن سياسة “الغموض الإستراتيجي” تجاه الصين التي لطالما انتهجتها واشنطن منذ عقود، وتعني ضمان “عدم تأكد” بكين أو تايبيه من مشاركة الولايات المتحدة في حالة نشوب صراع في مضيق تايوان؟
نجحت إستراتيجية “الغموض الإستراتيجي” التي اتبعتها الإدارات الأميركية بعد الاعتراف بالصين وإقامة علاقات دبلوماسية معها مطلع عام 1979، في التخفيف من خطر وقوع واشنطن في شرَك حرب مع الصين على تايوان، لكن نجاح “الغموض الإستراتيجي” كان مدعومًا أيضا بحقيقة أنه في معظم الوقت منذ عام 1979 لم تكن الصين تمتلك القدرات العسكرية على إكراه تايوان -بشكل مباشر أو غير مباشر- على العودة إلى حضن البر الصيني.
اقتربت بعض الإدارات الأميركية أكثر من غيرها من الخروج من تلك الإستراتيجية. ففي أبريل/نيسان 2001، أكد الرئيس جورج دبليو بوش -عقب قراره الموافقة على صفقة بيع أسلحة بقيمة 5 مليارات دولار إلى تايوان، بما في ذلك غواصات ومدمرات- أن الولايات المتحدة ستفعل “كل ما يلزم” للدفاع عن تايوان. ومع ذلك، عدل بوش عن هذا الموقف، وسعى إلى تثبيط التحركات التايوانية نحو إجراء استفتاء على الاستقلال من أجل متابعة مشاركة أكبر مع بكين.
تصريحات بيلوسي الأخيرة التي أدلت بها في تايبيه تكمل ما سبق أن أدلى به الرئيس جو بايدن خلال زيارته اليابان، حين أعلن استعداد بلاده للتدخل العسكري لحماية تايوان في حال تعرضها للهجوم من قبل الصين، كما سبق أن أعرب عن أمله في أن يدفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ثمن غزوه لأوكرانيا، ليُظهر للصين ما ستواجهه إذا قامت بغزو تايوان.
مقارنات
أوكرانيا وتايوان تقعان على بعد آلاف الأميال من الولايات المتحدة، لكنهما قريبتان للغاية من اثنتين القوى الكبرى في أوراسيا، روسيا والصين. وعلى الرغم من الاختلافات الكثيرة بين أوكرانيا وتايوان، فإن واشنطن تعتبرهما “ديمقراطيتين” تعيشان قرب جارين استبداديين أكبر منهما، لديهما مخططات قديمة تتعلق بأراضيهما وتواجهان مآزق إستراتيجية متشابهة.
وبينما تعد أوكرانيا دولة مستقلة وعضوا في الأمم المتحدة، يجمع المجتمع الدولي بأسره -بما فيه الولايات المتحدة نفسها- على أن تايوان جزء لا يتجزأ من جمهورية الصين الشعبية، وإعادة التوحيد السلمي لجزيرة تايوان مع البر الرئيسي هو جزء من “حلم الصين” الذي طرحه الرئيس الصيني شي جين بينغ.
بينغ أعلن أن “إعادة التوحيد بطريقة سلمية تتماشى بشكل أكبر مع المصلحة العامة للأمة الصينية، بما في ذلك مواطنو تايوان”، وحذر في الوقت نفسه من الاستخفاف بإرادة شعبه وقدرته وتصميمه على “الدفاع عن السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية”، معتبرا أن “المهمة التاريخية لإعادة التوحيد الكامل للوطن الأم يجب أن تتحقق، وبالتأكيد سوف تتحقق”، كما حذر من “التدخل الخارجي” وأكد أن المسألة “صينية داخلية بحتة”.
وتؤكد المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشون ينغ أن “تايوان ليست أوكرانيا. لطالما كانت تايوان جزءًا لا يتجزأ من الصين. هذه حقيقة قانونية وتاريخية لا جدال فيها”، هذه القناعات ترجّح أن بكين تفترض أن الدعم العالمي لتايوان سيكون أقل حماسا وصخبا مما كان عليه بالنسبة لأوكرانيا، على اعتبار أن دولا قليلة تقيم علاقات دبلوماسية مع تايوان، ويفتقر عدد منها حتى إلى علاقات متينة غير رسمية مع الجزيرة.
كما يشكل نجاح روسيا في الاستفادة من علاقاتها الاقتصادية مع بعض الدول لإبقائها على الحياد مصدر اطمئنان للصين، باعتبار أن نفوذها الاقتصادي -الأكبر بكثير من نفوذ روسيا- قد يحول دون تلقي تايوان دعما من دول كثيرة. وعلى الرغم من ذلك، يرى محللون أن من الخطأ افتراض أن غزو روسيا لأوكرانيا من شأنه أن يعجّل بأي طريقة رغبة الصين في الوحدة مع تايوان، وحجتهم في ذلك هي أن حسابات القادة الصينيين حول احتمال استعمال القوة ضد تايوان عبارة عن قرارات سياسية، لن تؤثر فيها تصرفات موسكو.
حسابات
وإضافة إلى الاعتبارات السابقة، يذهب محللون غربيون إلى القول إن المسؤولين الصينيين يدركون أن مهاجمة تايوان حاليا ستثير المخاوف الغربية من أن تشكل بكين وموسكو معا محورا بعد أن بدأتا تعملان بتوافق مع بعضهما بعضا، وهو ما سيزيد من احتمال التدخل المباشر من قبل الولايات المتحدة وحلفائها.
وباعتبار أن الولايات المتحدة قد بنت تحالفا للدول -بما فيها عدد من كبريات الاقتصادات في العالم- بهدف فرض عقوبات صارمة على روسيا، فإن الصين تراقب باهتمام بحثا عن دليل على تراجع نفوذ الولايات المتحدة، لأن أي تصدعات في هذا التحالف سيكون خبرا سارا لبكين التي لاحظت أن بعض شركاء الولايات المتحدة المقربين -مثل الهند- لم يفرضوا عقوبات على روسيا، ولم يشجبوا بقوة غزوها لأوكرانيا.
أما العقوبات الغربية على روسيا فهي موضوع دراسة دقيقة من قبل الصين، ومن المرجّح أن تعمل بكين على تسريع إستراتيجية “التداول المزدوج” المحلي والعالمي التي تتمثل في السعي لترويج الصادرات، في وقت تشجع فيه على وجود طلب محلي أقوى، وذلك في محاولة لزيادة اعتماد دول أخرى اقتصاديا على الصين والتقليل من اتكالها هي على دول أخرى.
وستحاول الصين أيضا إنتاج تقنيات ذات أهمية حاسمة مثل أشباه الموصلات، وتقليل اعتمادها على الدولار والنظام المالي للولايات المتحدة، ودعم نظام بديل لنظام المدفوعات الدولي المرتكز على الدولار (سويفت)، ومن ثم تجنيب الصين آثار العقوبات، وجعل أي عقوبات يمكن للدول الغربية أن تفرضها على بكين لردعها عن غزو تايوان أو لمعاقبتها على هذا الغزو، تؤذي الغرب أكثر مما تؤذي الصين.
على الصعيد العسكري، يأتي جيش الصين -الذي يحمل اسم “جيش التحرير الشعبي” الصيني- في المرتبة الثانية بين قائمة أقوى جيوش العالم في عام 2022، وهو الترتيب الذي كان يحتله الجيش الروسي من قبل. ويعود تقدّم الصين إلى تكريس جهودها لتطوير قدرات الحرب البحرية والجوية والبرية، من خلال الاعتماد على موارد محلية بشكل أساسي، وهو ما يرجح أن تصبح الصين الخصم العسكري الرئيسي للولايات المتحدة إذا استمرت في هذا الاتجاه، بحسب تقرير معهد غلوبال فاير بور موقع “GLOBAL FIRE POWER” العسكري المتخصص.
يراقب الرئيس الصيني وقيادات جيش بلاده مجريات الحرب الروسية على أوكرانيا بعناية شديدة، بحثا عن دروس للاستفادة منها حال نشوب صراع مع تايوان، والدرس الأهم هو أن الولايات المتحدة لن تتدخل بشكل مباشر ضد خصم مدجج بأسلحة نووية، وأن ترسانة روسيا النووية ردعت الولايات المتحدة عن التدخل، ومن ثم يعتقد الإستراتيجيون الصينيون أن ذلك يؤكد صحة قرار بكين زيادة ترسانتها النووية التي توقعت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) مؤخرا أنها ستصل إلى ألف رأس حربي على الأقل خلال عقد من الزمن.