باريس- متشبها بطائر العنقاء الأسطوري بغية التحليق بأجنحة متعددة بين الترجمة والنشر والقصة والنقد السينمائي وكتابة السيناريو وكتابة المسرح، يحاول الكاتب والمترجم التونسي وليد سليمان، التخفي تحت أكثر من قبعة أدبية ليتصيّد ملكة الإلهام في شتى صنوف الإبداع.

وقد نجح سليمان رغم صغر سنه “47 عاما”، في سرقة عبق الإلهام وتحقيق النجاح والتميز من خلال الكثير من الكتب التي ألفها وترجمها، فأصدر في القصة مجموعتين قصصيتين، جاءت الأولى بعنوان “ساعة أنشتاين الأخيرة”، والثانية بعنوان “كوابيس مرحة”.

ولأنه تخصص في الترجمة الأدبية عن الإسبانية والإنجليزية والفرنسية منذ عام 1987. كان لوليد سليمان الفضل في انفتاح القارئ العربي على عدة ثقافات ولغات وكُتاب مرموقين يترجمون لأول مرة إلى لغة الضاد، على غرار السبق الذي حققه عام 2012 في ترجمة الكاتب الأوكراني الكبير أندري كوركوف من خلال روايته الموسومة بـ”عزيزي صديق المرحوم” في أول ترجمة لهذا الكاتب للغة العربية.

كما ترجم عن اللغة الإسبانية الكاتب البيروفي الكبير الحاصل على جائزة نوبل للآداب ماريو فارغاس يوسا من خلال كتابه “إيروس في الرواية”، وعن الفرنسية ترجم رواية ” ذاكرة روبن” للكاتب الفرنسي المعروف لويس دي ميراندا.

 

وأما ترجمته لرواية “المرجومة” للكاتب الإيراني فريدون صاحبجام، فقد لقيت نجاحا لافتا لدى القارئ العربي، خاصة أن هذه الرواية تُرجمت إلى أكثر من 30 لغة وحولت إلى فيلم سينمائي إيراني ناجح عام 2008.

وفي الشعر ترجم سليمان “مختارات شعرية” للشاعر عطية بوصبع عن منشورات شؤون ثقافية عام 2010، وترجم في نفس العام وعن نفس الدار كتاب “الشارة القرمزية: مختارات من شعر الهنود الحمر”.

وهو يمارس النقد السينمائي ورئيس سابق للجمعية التونسية للنهوض بالنقد السينمائي وكاتب سيناريو أسهم في كتابة الكثير من السيناريوهات السينمائية.

وقد صدرت لوليد سليمان من فترة قصيرة عن “دار الكتاب” بتونس، ترجمته لكتاب “حرية شرسة” للمناضلة والمحامية التونسية الفرنسية جيزال حليمي والكاتبة المرموقة أنيك كوجان.

 

وهي سيرة ذاتية في شكل حوار مطول مع حليمي التي قضت أكثر من نصف قرن من حياتها في الدفاع عن القضايا العادلة وفي مناصرة المستضعفين، وأسهمت بشكل كبير في الدفاع عن المناضلين التونسيين والجزائريين إبان الاستعمار الفرنسي. واستغلت منصبها في اليونسكو من أجل الدفاع عن القضية الفلسطينية.

وقد كان للجزيرة نت هذا الحوار مع الكاتب والمترجم وليد سليمان، الذي خاض في تفاصيل وخفايا هذه الترجمة لكتاب حليمي الأخير، وتطرق أيضا إلى قضايا الأدب والترجمة والحوار مع الآخر، وانفتح على خصائص الثقافة والأدب الأوكراني وعلاقته بنظيره الروسي ومكانته في أوروبا الشرقية، فإلى الحوار:

  • ما الظروف الذاتية والموضوعية التي حفزتك لترجمة كتاب “حرية شرسة” للمناضلة التونسية – الفرنسية جيزال حليمي والكاتبة أنيك كوجان؟

الحقيقة أن ترجمة أعمال جيزال حليمي إلى العربية حلم راودني منذ سنوات، لكن الظروف لم تسمح بتحقيق هذا الحلم بسبب صعوبة الحصول على حقوق أعمالها. لكن خلال الصائفة الماضية اتصلت بي المسؤولة عن الحقوق الأجنبية لدى دار نشر “غراسيه” الفرنسية الشهيرة وأعلمتني أنهم سوف يصدرون كتابا يحمل عنوان “حرية شرسة” (Une farouche liberté) للمحامية والمناضلة الشهيرة “جيزال حليمي” بالاشتراك مع الصحفية المرموقة أنيك كوجان، وقالت لي إن الكتاب يمكن أن يهمني للترجمة إلى العربية.

رواية "المرجومة" للكاتب الإيراني فريدون صاحبجام (الجزيرة)
رواية “المرجومة” للكاتب الإيراني فريدون صاحبجام (الجزيرة)

وفعلا بمجرّد أن قرأت هذا العمل قررت على الفور ترجمته إلى العربية. وكان من المفروض أن تصدر الترجمة عن “منشورات وليدوف” التي أديرها، لكن حين عبّر لي الصديق حبيب الزغبي مدير “دار الكتاب” عن رغبته في نشر العمل مع أعمال أخرى لجيزال حليمي تم الاتفاق بيننا على أن أتولى ترجمة العمل وتقوم داره بنشره، وهو ما حدث بعد ذلك. وبذلك صدرت أول ترجمة إلى اللغة العربية لأعمال جيزال حليمي. وكان ذلك للأسف بعد وفاتها بأشهر قليلة فلم تتمكن من رؤية أعمالها بالعربية.

  • ما الدروس والعبر الإنسانية التي يمكن أن يستخلصها القارئ العربي من حياة هذه المناضلة الشرسة، وسيرتها الذاتية؟

هذا كتاب مهم يجب أن يبرمج في مناهج التعليم خاصة في العالم العربي، وفي دول العالم الثالث التي عانت من الاستعمار وكانت وما زالت تكافح من أجل التحرر وإعطاء المرأة المكانة التي تستحقها. فحياة جيزال حليمي فيها الكثير من الدروس والعبر ويمكن أن تنير الطريق للأجيال الجديدة التي تحتاج إلى مُثُل عليا.

 

من شوارع تونس الفقيرة الرازحة تحت الاستعمار إلى باريس، استطاعت هذه المرأة الشجاعة والمكافحة أن تفرض نفسها وتحجز لها مكانة مرموقة في باريس. وهي كما تقول عنها الصحفية أنيك كوجان “لقد قاومتْ طيلة الوقت، مقتنعة بأن العدالة كانت قضية العمر بالنسبة إليها، وأن مهنتها كمحامية، التي انخرطت فيها بالتزام شبه صوفي، سوف تمكنها من تغيير العالم. كان القانون أداتها، والتمرّد علامتها المميزة، والكلمات، التي تطوعها ببلاغة، حليفها الرئيسي.. إنها متمردة، شغوفة، لا تكلّ. وحرّة، حرّة بشراسة”.

  • هل تعتقد أن الذاكرة العربية المعاصرة، والأجيال الجديدة أنصفت المناضلة جيزال حليمي التي قضت أكثر من نصف قرن من حياتها في الدفاع عن الثوار الجزائريين والتونسيين والفلسطينيين، ومناصرة القضايا العربية العادلة؟

للأسف لم تنصف جيزال حليمي في العالم العربي بتاتا رغم كل ما فعلته ورغم مناصرتها اللامشروطة لأغلب قضايا الوطن العربي العادلة، وهذا ينطبق أيضا على بلدها تونس، فلولا بعض المبادرات الخاصة هنا وهناك لقلنا إن هناك نية مبيتة في تجاهلها.

فهل هذا من باب الجهل بها أو أنه أمر مقصود؟ ليس لدي جواب مقنع. والحقيقة أن من الأسباب التي دفعتني لترجمة كتابها “حرية شرسة” هو أن هذا الكتاب المكثف يعتبر أفضل تلخيص لمسيرتها الزاخرة ويمكن أن يكون مدخلا لحياتها وأعمالها لكل من يريد أن يطلع عليها.

  • يقول الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا “في كل رواية، يكون الشكل -أي الأسلوب الذي تكتب به وترتيب ظهور الأحداث المسرودة- هو ما يحدّد ثراء أو فقر، وعمق أو تفاهة حكايتها”، فما المعادلة الأسلوبية والمضمونية القصصية التي يعتمدها وليد سليمان ليمسك بخيوط عمق الحكاية من البداية إلى النهاية؟

الشكل مهم جدا في الكتابة السردية، لكن يجب أن يكون هذا الشكل على علاقة وثيقة بالمضمون وإلا أفرغت الكتابة من محتواها وتحوّلت إلى مجرد عبث لغوي.

 

ولهذا السبب تتطلب الكتابة مني وقتا طويلا، خاصة في مرحلة اختمار العمل في الذهن والتي تشبه كثيرا مرحلة الحمل عند المرأة. إنها مرحلة ينمو فيها العمل في صيغته الجنينية ويتخذ شكلا واضحا ومميزا. لكن تبقى أهم مرحلة بالنسبة إليّ هي مرحلة إعادة الكتابة التي تجعل عملية السرد أقرب ما تكون إلى النحت بالكلمات. وهي المرحلة التي يتناغم فيها الشكل مع المضمون ويظهر فيها أسلوب الكاتب الذاتي الذي يميّزه عن غيره من الكتّاب.

 
  • هل يمكن أن نطبق منطق ماريو بارغاس يوسا الذي يقول إن “الكاتب لا يختار موضوعاته، بل الموضوعات هي التي تختاره”، على الترجمة ونقول قياسا إن “المترجم لا يختار ترجماته وإنما الترجمات هي التي تختاره”؟ كيف تختار الكتب التي تترجمها وكيف تتعامل معها، حدثنا عن غرفتك السرية الخاصة بالترجمة؟

في اعتقادي أن كل مترجم جاد يجب أن يكون له برنامج عمل واضح المعالم ومشروع ترجمي يميّزه عن غيره من المترجمين ويجعل مسيرته ذات معنى. وشخصيا أول شيء أقوم به هو وضع قائمة طويلة بالأعمال المهمة التي تثير انتباهي وأعتقد أن المكتبة العربية تحتاجها.

ثم تأتي عملية الغربلة، والتي تخضع إلى عدد من الاعتبارات: فهناك كتب يتبيّن أنها مترجمة بالفعل إلى العربية، وأخرى لا يتسنى الحصول على حقوق ترجمتها لسبب من الأسباب، وكتب أخرى تتطلب إيجاد تمويل أو دعم يحتاج إلى وقت طويل نسبيا، وما يتبقى من القائمة أبرمجه للنشر ضمن جدول زمني صارم.

 

والملاحظ هنا هو أن أغلب دور النشر العربية تخاف من ترجمة ونشر الأسماء الأجنبية غير المكرسة والتي لم يتعرف عليها القارئ العربي بعد. في حين أن الدور الأساسي للمترجم الأدبي هو التعريف بكتّاب جدد مهمّين وفتح نوافذ جديدة على الآداب الأجنبية.

  • هل صحيح أن العرب اليوم يفتقدون لمشروع ترجمة نهضوي يعتني بالترجمة بوصفها أداة للمعرفة والمثقافة والحوار الحضاري النِّدي مع الآخر؟

كل يوم أتأكّد أكثر من صحة هذه المقولة، فالغياب التام لأي إستراتيجية أو خطة عمل واضحة على الصعيد العربي تبقى السمة المميزة للترجمة في منطقتنا. ورغم وجود عديد المشاريع المهمة في بعض الدول العربية فإن غياب التكامل بين الدول العربية يجعل الفائدة من هذه المشاريع محدودة. ولعل أبرز مثال هنا هو الكَم الكبير الذي تنتجه مصر من الكتب المترجمة وبأسعار مناسبة، غير أن هذه الكتب لا تصل إلى بقية الدول العربية مما يحدّ من تأثيرها.

لذلك دعوت دائما إلى تأسيس هيئة أو مركز عربي للترجمة يكون بمثابة همزة الوصل بين المترجمين ودور النشر والوكلاء الأدبيين وغيرهم من المتدخلين في قطاع الترجمة، وآمل أن تتبنى إحدى دول الخليج العربي -التي لها إسهامات كثيرة ومهمة في مجال الترجمة ولها إمكانيات ضخمة- هذا المشروع الحضاري والنهضوي.

  • إتقانك للغة الإسبانية جعلك تغوص في أدب أميركا اللاتينية قراءة وترجمة، وتنفتح على تجارب لافتة، فما مميزات هذا الأدب وخصوصياته التي جعلته ينتشر بسرعة في العالم؟ وكيف يستطيع الأدب العربي أن يستفيد من مميزات هذا الأدب ليحقق العالمية؟

بداية من النصف الثاني من القرن الـ20 تحولت أميركا اللاتينية إلى نقطة مضيئة في الأدب العالمي وإلى حاضنة للمواهب الأدبية الفذة وهذا بشهادة الأوروبيين والأميركيين أنفسهم الذين تمنعهم مركزيتهم الثقافية في العادة من الاعتراف بتفوق الثقافات الأخرى.

 

وهذا ما جعل غوص الإنسان في هذا الأدب ضرورة ملحة وليس ترفا. والحقيقة أن من بين الأسباب التي دفعتني إلى تعلّم اللغة الإسبانية هو رغبتي في الاطلاع على كتابات أدباء إسبانيا وأميركا الجنوبية.

أما بالنسبة إلى الشق الثاني من سؤالك، فأعتقد أن أفضل طريقة تسمح للأدب العربي بالاستفادة من أدب أميركا اللاتينية هي الترجمة.

لكن يجب أن تكون هذه الترجمة واعية وتقوم على أسس صحيحة، وذلك عكس ما يحدث الآن. فهناك فوضى كبيرة واختيار الأعمال المترجمة لا يخلو من عشوائية. كما أن قائمة روائع أدب أميركا اللاتينية التي لم تترجم بعد إلى العربية طويلة، وهو ما يحرم القارئ العربي من الإلمام بتنوع هذا الأدب.

الكاتب والمترجم وليد سليمان رفقة الكاتب الأوكراني الكبير أندري كوركوف فرنسا عبد المجيد دقنيش مواقع التواصل
الكاتب والمترجم وليد سليمان (يسار) رفقة الكاتب الأوكراني الكبير أندري كوركوف (الجزيرة)
  • كنت سبّاقا في ترجمة الكاتب الأوكراني المعروف أندري كوركوف إلى لغة الضاد عام 2012، من خلال روايته “عزيزي صديق المرحوم”، فما المحفزات الفنية والمميزات الإبداعية لهذه الرواية ولهذا الكاتب الذي جعلك تغامر بترجمته لأول مرة إلى العربية، ولماذا لم تتواصل هذه التجربة؟

أثبتت الأيام أن اختياري لكوركوف لترجمة أول عمل له إلى العربية كان موفقا. كل عمل أدبي أترجمه هو ثمرة قصة حب مع الكتاب.

 

فالترجمة بالنسبة إليّ قصة عشق واعية. طبعا سأكون سعيدا بترجمة أعمال أخرى لكوركوف وآمل أن يتجسد ذلك قريبا، فهناك اتفاق مبدئي مع دار نشر عربية لترجمة أعمال أخرى له ونحن الآن في مرحلة التفاوض بشأن الحصول على حقوق الترجمة.

  • لديك اطلاع جيّد على الأدب والثقافة الأوكرانيين بحكم أنك متزوج من أوكرانية وعشت لفترة هناك، حدثنا عن خصائص هذا الأدب وعن الثقافة الأوكرانية وموقعها في أوروبا الشرقية؟

أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى أطروحة كاملة. لكنني سأحاول الاختصار. الأدب الأوكراني المعاصر يسعى إلى الخروج من معطف الأدب الروسي على حد تعبير الكاتب الروسي العظيم نيكولاي غوغول المولود قرب مدينة بولتافا، الواقعة في أوكرانيا الحالية. وبالتالي صارت اللغة الأوكرانية أداة لكسر هيمنة اللغة الروسية التي كانت مفروضة على كل دول الاتحاد السوفياتي سابقا.

وحاليا هناك العديد من الكُتّاب الأوكرانيين المتميزين مثل: أوكسانا زابوجكو ويوري فينيشوك وتاراس بروخاسكو ويوري أندروخوفيتش وفولودومير ديبروفا، لكن يبقى أندريه كوركوف هو الأشهر والأكثر انتشارا في العالم. والحقيقة أن ترجمتي لأول عمل له إلى العربية قبل سنوات أسهمت في التعريف به لدى القارئ العربي.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *