المخرج داود عبد السيد: أنا ضد استخدام السينما كسلاح سياسي والرقابة الحالية غاية في السوء
جاء فوزه بجائزة النيل التي تعدّ أرفع جائزة مصرية ليكون تتويجا لمشوار بدأ عام 1985 بأول أفلامه “الصعاليك” ولم ينته بتقديمه لفيلم “قدرات غير عادية” عام 2015، ولم يكن مشوار المخرج داود عبد السيد المعروف بفيلسوف السينما إلا محاولات مستمرة للعثور على معنى لحياته وإعادة صياغة لوجدان عربي ومصري صدمته هزيمة يونيو/حزيران 1967 التي لم تكن في الحسبان.
يرى داود عبد السيد أن الفيلم يغيّر الجمهور ويشكّل وجدانه وأن ثورة يناير كانت إحدى المحاولات لتجاوز عجز المجتمع المصري.
قدم داود عبد السيد الذي ولد عام 1946 تسعة أفلام فقط في مشواره، لكنه استطاع من خلالها أن ينفذ إلى أعماق الإنسان ليس في مصر وحدها، بل في العالم عبر أفلام تجاوزت القضايا المحلية إلى أبعاد أكثر إنسانية، مثل “أرض الخوف” و”أرض الأحلام” و”رسائل البحر”.
داود الذي أراد أن يصبح صحفيا في بداياته صادف سوء فهم مع الصحافة منذ أشهر قليلة حين اعتبر أحد تصريحاته “إعلان اعتزال”.
جاء حوار فيلسوف السينما المصرية مع الجزيرة نت فرصة لتوضيح الأمر إذ يقول “ما نقل عني أسيئ فهمه، وما قلته إنني في حكم المعتزل لأنني لم أمارس مهنتي في الإخراج منذ سنوات، ولو جاءتني الفرصة والقدرة الآن لإخراج فيلم جديد لن أتردد”.
هزيمة جيل
جاء تخرج عبد السيد من الجامعة مصحوبا بتراجيديا مصرية وعربية وهزيمة كبرى عام 1967، يقول عنها “عشت صدمة عمري، وكان أكثر ما شغلني هو الإجابة عن هذا السؤال المهم: لماذا كانت الهزيمة؟ هزيمة مصر والعرب في 1967. كانت الهزيمة كاشفة لمشاكل كثيرة في المجتمع المصري وفي النظام السياسي المصري في ذلك الوقت، وكانت في الوقت نفسه تمثل عجز جيلنا الذي عرف الحقيقة وانكشفت أمامه بشكل فاضح، وكانت الحقيقة عكس كل قناعات هذا الجيل الذي عاصر حكم عبد الناصر والناصرية”.
يضيف “فوجئنا بهذا الزلزال الذي كشف لنا أننا كنا نعيش في بالونة فارغة نتيجة هذه الجماهيرية الكبيرة والتأييد الكبير لجمال عبد الناصر. أنا لست ضد عبد الناصر بالمعنى الأيديولوجي، لكننا كنا أبرياء في مقتبل العمر، ولم نكن مسيّسين، فكان هذا الهم هو أهم ما شغلني في هذه المرحلة الأولى من حياتي”.
وهنا حوار داود عبد السيد مع الجزيرة نت:
عندما أخرجت الفيلم الوثائقي “وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم” 1976 كنت مهموما بقضايا إنسانية فيها من الوعي أكثر ما بها من الجذب والفرجة والإثارة، هل هذا هو الطريق الذي رسمته لنفسك منذ البداية؟
كان طموحي أكبر من أكون مخرجا، ليس معنى أني تخرجت في معهد السينما أن أعمل في الأفلام؛ كنت أبحث عن طريق أجهل معالمه، ولهذا بقيت وقتا طويلا أختبر نفسي في كتابة السيناريو، وكنت أريد من ذلك أن أنتج عملا ذا قيمة، وعملت في مجال الأفلام التسجيلية، وقمت بتطبيق أفكاري عن الطلبة والفلاحين والقرية والمدينة والمثقفين والفنانين، وكان مجال الأفلام التسجيلية ضيّقا، فهي تعرض مرة أو بضع مرات وتنتهي، ولهذا فكرت في إخراج الأعمال الروائية الطويلة.
معظم أفلامك تقوم أنت بكتابة السيناريو الخاص بها باستثناء “أرض الأحلام” الذي كتبه هاني فوزي، وحتى في الروايات التي تأخذ عنها قصة الفيلم تكتب فكرة قد تكون مغايرة أحيانا للقصة نفسها.. لماذا؟
هذا يرجع لأنني لم يكن يهمني أن أشتغل على سينما تحمل اسمي فقط، بقدر ما همّني أن أعبر عن شيء يشغلني، قضيت 10 سنوات من عمري بعد التخرج أكتب سيناريوهات فقط، فكانت عندي القدرة على الكتابة، وعلّمت نفسي بشكل ما، ومن خلال التجربة والخطأ استطعت أن أصل إلى عمل أكون راضيا عنه هو سيناريو “الصعاليك” عام 1984.
وهل أنت راض عن كل أعمالك بشكل كامل؟
أستطيع أن أقول في المجمل: نعم، ولكن ليس 100%، فلي أخطائي، وإنما بوجه عام راض عن أي عمل أخرجته وأتحمل مسؤوليته كاملة، وسعيد به أيضا.
يصنف النقاد سينما داود عبد السيد بأنها تأريخ بالسينما عن الواقع المصري خلال نصف القرن الأخير، هل هذا صحيح من وجهة نظرك؟
كل ما فعلته أنني كنت أسير وراء ما يشغلني في الحياة، بمعنى أنه قد يشغلني موضوع ما أو فكرة ما، فأقوم بتجسيدها من خلال الفيلم، مثلا فيلم “الصعاليك” كانت فكرته عن الصداقة في الوقت الذي كان المجتمع المصري يمور خلاله بالتغيرات الاجتماعية الحادة، وشغلني السؤال عن التغيرات التي من الممكن أن تتركها الثروة في نفوس البشر، وهل ستصمد قيمة الصداقة أمام طغيان المادة والمال؟ كان هذا هو السؤال الذي حاولت الإجابة عنه في الفيلم؛ الصديقان اللذان كانا يحبان بعضهما جدا قتل أحدهما الآخر بتأثير المال.
في رأيك لماذا احتل فيلم “الكيت كات” مكانة خاصة في تاريخ السينما المصرية؟
العمل الفني ابن التجربة، وصانع التجربة يخرج منها مختلفا بعد الوعي بها، ويفترض بالجمهور أيضا أن يخرج منها مختلفا بعد مشاهدة العمل الناتج عن تلك التجربة، مختلفا عما دخل بمعنى أن وعيه أضيف إليه بعدٌ ما، وجهة نظر ما، فالعمل الفني الحقيقي يغيّر البشر، وكلمة “يغيّر” هنا تأتي بمعني أنه يعطيهم وعيا بموقف ما، وهذا قد يكون ما فعله فيلم “الكيت كات” في الجمهور.
قلت في أحد لقاءاتك تعليقا على “فيلم الكيت كات”: “نحن مجتمع عاجز وعلى صعيد الأفراد لا نستطيع تجاوز عجزنا”. من وجهة نظرك، كيف نتجاوز هذا العجز؟ وكيف عبرت عن هذا في السينما؟
في فيلم “الكيت كات” كل شخص لديه عجز بصورة ما، والمجتمع نفسه عاجز عن تحقيق رغبات أفراده، والناس يعتقدون أن الآخرين لا يرونهم، في حين أن كل شيء مكشوف ومفضوح.
وهل لا نزال مجتمعا عاجزا أفرادا وجماعات؟
ما دام لم يحدث تجاوز لحالة العجز فكل شيء يبقى على ما هو عليه، والتجاوز يأتي من أنك تصبح واعيا لإدراك عجزك أولا.
وثانيا: أن تكون لديك القدرة على تغيير نفسك، وثالثا: أن تكون لديك القدرة على تغيير الظرف والمجتمع المحيط بك، وتلك عملية طويلة وطبخة بطيئة جدا تحدث بالوعي، ينتج عنها نظام سياسي مختلف، ونظام ديمقراطي يشرك كل إنسان في الهمّ العام، وهناك بالطبع محاولات لتجاوز العجز، وفي المقابل هناك محاولات مضادة لمنع المجتمع من تجاوز حالة العجز، وأمامنا ثورة يناير، واحدة من المحاولات، وفي المقابل مقاومة خوفًا من أن يتجاوز الشعب عجزه.
السلطة أو الشرطة مشغولة بحماية حرية السيد وتكبيل الآخرين في أغلب أفلامك.. كيف يتجلى ذلك في الواقع؟
في فيلمي “البحث عن سيد مرزوق” و”أرض الخوف” وفي أفلام أخرى أحاول أن أتكلم عن مشكلاتنا مع النظام غير الديمقراطي، وأن السلطة بمختلف أشكالها تتحكم وتحكم لمصلحة طرف ما، وأنظمتنا ليست لديها القدرة على التشارك، ولذا سيكون من الطبيعي أن النظام يقمع طبقات لمصلحة طبقات أخرى.
هل يتغير الجمهور بتغير المراحل، وهل جمهور فيلم “أرض الخوف” مختلف عن جمهور “البحث عن سيد مرزوق”؟
بالطبع، يختلف الجمهور باختلاف المراحل، ولكن خلال مسافات أكثر اتساعا، فقد لا ندرك التغيير خلال 10 سنوات، إنما نراه واضحا خلال 20 عاما أو أكثر، وجمهور اليوم مختلف عن جمهور أواخر القرن الماضي، مختلف حتى طبقيا، فعندما كان سعر تذكرة السينما ضمن قدرة مختلف الطبقات كان الجمهور مختلفا عن جمهور اليوم، إذ التذكرة خارج قدرة أغلب أفراد الطبقة الوسطى، ودور السينما نفسها لم تعد مستقلة بذاتها، بل أصبحت سينما “مولات” ولكل سينما جمهور مختلف.
ولهذا اختلفت صور الإنتاج والتوزيع، بل اختلفت أشكال الكتابة نفسها، وزبون السينما الذي يذهب إلى السينما ويدفع ثمنا للتذكرة 100 جنيه أو أكثر هو زبون يبحث عن التسلية، زبون لديه أموال كثيرة، لكن ليست لديه هموم حقيقية.
التحالفات العالمية للسيطرة على السينما في العالم مثل “نتفليكس” وغيرها، هل أثرت على مستوى الإنتاج وجودة الفيلم في دول العالم الثالث ومنها مصر؟
كل منتِج يفرض شروطه، ولهذا لم تعد السينما حرة في إنتاجها، كما أصبحت الصناعة من الناحية التكنولوجية والفنية أفضل، فالتصوير أفضل والصورة أحسن، فهذا في مصلحة الصناعة.. لكن السؤال: هذه المنصات عندما تقدم على إنتاج فيلم، ما غرضها من هذا الفيلم؟ وما أهدافها؟ لا يوجد من ينتج بلا هدف، فالفيلم في وضعه الطبيعي يعتمد على تمويل الجمهور، والمشاهد بحسب احتياجاته يأتي لمشاهدة الفيلم ويدفع ثمن التذكرة.
لو عرضت عليك “نتفليكس” إخراج فيلم، هل ستقبل؟
لو عرضوا علي فيلما من دون تدخلات ولا تغيير هنا أو هناك سأقبله فورا، ولكن في الواقع هذا لا يحدث، فلو جاءتك أي جهة أو أي نظام لكي تنتج فيلما ما لا بد من تدخلهم لتحقيق أهدافهم.
أنا لا أناقش مسألة التحالفات وقضايا السيطرة الإمبريالية على السينما، تلك قضايا أكبر من أناقشها، ولكن أناقش حق الفنان؛ حقه في الحرية، وحقه في الاختيار، وحق الجمهور أن يكون همّه معروضا وتناقشه السينما.
وأنا ضد استخدام السينما كسلاح سياسي؛ فالسينما فن، وعلينا أن نتعامل معها على هذا الأساس، والمسرح متعة وفن، ويجب أن يكون نوع الرقابة مختلفا، لأن الرقابة الحالية غاية في السوء، ولا يوجد في العالم كله رقابة على السيناريو وحده، بل تكون الرقابة على الفيلم النهائي لتحدد المسموح للعرض، وليس من حق الرقابة أن تمنع فيلما لأن المنع ضد حرية التعبير التي يحميها الدستور، وأنا أتكلم عن الدستور وليس عن رغبات النظام السياسي.