بريطانيا.. ميزانية جديدة وسط أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة
لندن- “إنها ميزانية من أجل الأغنياء والشركات”، بهذه الكلمات اختار كريس جيلس كبير المحررين الاقتصاديين في مجلة “فايننشال تايمز” البريطانية، وصف الموازنة التي قدمها وزير الخزانة البريطاني جيرمي هانت أمام البرلمان البريطاني.
الميزانية التي تمتد حتى أبريل/نيسان من سنة 2024، هي الأولى لحكومة ريشي سوناك، بعد فوضى الميزانية المصغرة التي تسببت فيها رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس والتي أدت إلى انهيار تاريخي لقيمة الجنيه الإسترليني وخسارة أكثر من 50 مليار جنيه إسترليني.
وتأتي هذه الميزانية في ظل ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة، وموجة من الإضرابات التي تمس كل القطاعات الحكومية تقريبا وأكثر حساسية، وسبق لحكومة سوناك أن أعلنت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي عن توجهاتها المالية العامة، من خلال الزيادة في المداخيل الضريبية وتقليص الإنفاق العمومي لتوفير حوالي 50 مليار جنيه إسترليني.
ولم تأت الميزانية بأي إجراءات مفاجئة أو جديدة، حيث قاومت الحكومة ضغوطا كبيرة من المعارضة لرفع الضريبة على شركات المحروقات والشركات الكبرى التي حققت أرباحا غير مسبوقة خلال هذه السنة، وهو ما علق عليه مدير معهد الدراسات الضريبية (IFS) الاقتصادي بول جونسون بأن هذه أول ميزانية “لا تأتي بأي جديد باستثناء إجراءات تم الإعلان عنها مسبقا”.
اقتصاد يعاني
ظهر من خلال الأرقام التي قدمها وزير الخزانة أن الاقتصاد البريطاني لن يخرج من الأزمة التي يعيشها على الأقل خلال هذه السنة، وحسب توقعات مكتب مسؤولية الميزانية (OBR) -الذي يعتبر العقل المدبر للميزانية- سيعرف الاقتصاد البريطاني انكماشا بنسبة 0.2% عوض 1.4% التي تم الإعلان عنها سابقا.
كما سيستمر تدهور المستوى المعيشي للبريطانيين وتراجع قدرتهم الشرائية، لتصل إلى مستويات هي الأسوأ منذ أكثر من نصف قرن، وهذا راجع بالأساس إلى ارتفاع نسبة التضخم، وارتفاع أسعار الطاقة، وعدم الزيادة في الأجور.
ولن يعرف الاقتصاد البريطاني أي نمو إلا خلال العام المقبل، وسيكون نموا طفيفا يصل إلى 1.8%، ثم 2.5% في سنة 2025 ونسبة 2.1% في سنة 2026.
ولعل الخبر الجيد للاقتصاد البريطاني هو عدم تسجيله لركود خلال هذه السنة كما سبق أن أعلن البنك المركزي، وإنما قد يحقق نسبة نمو ضئيلة جدا (0.1%).
ويبقى الرقم الأهم بالنسبة لحكومة سوناك وللبنك المركزي هو نسبة التضخم، حيث توقعت الميزانية أنها ستنتقل من 11% المسجلة نهاية العام الماضي إلى 2.9% نهاية العام الحالي، وهو المستوى الذي يريد البنك المركزي الوصول إليه بأي ثمن.
كما أعلنت الحكومة أنها في طريقها نحو التحكم في نسبة الاقتراض العمومي ليبقى في حدود 97% من الناتج الداخلي الخام، وتوفير 36 مليار جنيه إسترليني خلال السنوات الأربع المقبلة.
أزمة المعيشة
ما زال المواطن البريطاني يعاني من ارتفاع أسعار الطاقة، التي كانت السبب في تدهور قدرته الشرائية بشكل كبير، وتعتبر حكومة سوناك محظوظة جدا لأن الظرفية الدولية تشهد حاليا انخفاضا لأسعار الغاز والنفط لتعود إلى المستوى الذي كانت عليه قبل الحرب في أوكرانيا.
واستفادت الحكومة البريطانية من هذا الوضع، كي تعلن أنها لن ترفع السقف السنوي لفاتورة سعر الطاقة على المنازل، لتبقى في حدود 2500 جنيه إسترليني عوض 3 آلاف جنيه إسترليني تم الإعلان عنها سابقا، مع استمرار تقديم دعم لكل بيت بريطاني في حدود 70 جنيه إسترليني شهريا إلى غاية يوليو/تموز المقبل.
ورغم الإضرابات المتتالية التي تضرب قطاعات الصحة والتعليم والنقل، فإن الحكومة لم تعلن عن أي إجراء لزيادة الأجور، كما رفضت فرض ضريبة جديدة على أرباح شركات المحروقات التي حققت أرباحا تاريخية، الأمر الذي أثار غضب المعارضة البريطانية.
ولن يشهد قطاع الدفاع أي زيادة كبيرة في الإنفاق، في وقت واجه فيه وزير الخزانة جيرمي هانت ضغوطا كبيرة لزيادتها، إلا أنه في النهاية أعلن أن خطة الحكومة ستظل نفسها، أي زيادة 11 مليار جنيه إسترليني للميزانية العسكرية خلال السنوات الخمس المقبلة.
لا نمو في الأفق
اتفقت كل التحليلات الاقتصادية أن حكومة سوناك لم تأت بأي جديد في الميزانية، واعتبر بول جونسون مدير معهد الدراسات الضريبية البريطاني في سلسلة تغريدات على حسابه في تويتر أن حديث الحكومة عن انخفاض التضخم “يجب ألا يحجب واقع أسوأ تدهور لجودة الحياة في بريطانيا في التاريخ”.
وانتقد الخبير الاقتصادي خلو ميزانية الدولة من أي إجراءات تتحدث عن زيادة الأجور التي هي مطلب عشرات الآلاف من الموظفين المضربين في مختلف قطاعات البلاد، محذرا في الوقت ذاته من أن الحكومة تمهد من الآن “لبداية تقليص النفقات الحكومية لما بعد سنة 2024”.
من جهته، علق الخبير الاقتصادي البريطاني الشهير ريتشارد مورفي على الميزانية بقوله إن أحد المؤشرات تقول إنه “من المستحيل تحقيق أي نمو خلال السنوات المقبلة”، معللا الأمر بتضرر الأسر والشركات بسعر الفائدة المرتفع واستمرار سياسة الحكومة في رفض زيادة الأجور إضافة لتقليص النفقات العمومية التي ستؤدي إلى عدم زيادة في الناتج الداخلي الخام.