بعد دخولها الجغرافيا الروسية.. كيف خلط ضم المناطق الأربع سيناريوهات الحرب في أوكرانيا؟
موسكو- مسار جديد في الحرب الروسية على أوكرانيا يوشك أن ينطلق بعد مصادقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السريعة على انضمام مناطق دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون، نتيجة للاستفتاءات التي أقامتها الإدارات الموالية لموسكو فيها، وانتهت بقرار الانضمام إلى روسيا.
وكان بوتين استبق ذلك بالقول إن موسكو ستدعم القرارات المتخذة في الاستفتاءات، كما أعلن عن تعبئة جزئية، لتتكرس بذلك حلقة إضافية في أعنف صراع تشهده العلاقات الروسية مع الغرب، الذي يواصل تقديم كافة أشكال الدعم لأوكرانيا في حربها مع روسيا التي دخلت شهرها التاسع وأدت حتى الآن -من بين نتائج أخرى- إلى تغيرات في الواقع الجغرافي لأوكرانيا لصالح اتساع في رقعة المساحة الروسية، فضلا عن أن العلاقات مع الغرب أصبحت كذلك أكثر تعقيدا من أي وقت مضى.
خلط أوراق
ولم يكن ذلك ليحصل بدون معارك طاحنة شنتها القوات الروسية في المناطق المذكورة، تمهيدا فيما يبدو لتكرار حالة القرم.
فتجربة التحاق القرم بالجغرافيا الروسية، ودخول روسيا مرحلة التأقلم مع العقوبات الغربية التي تبعت ذلك، يمكن وضعهما في خانة أبرز العوامل التي مهدت لانضمام الأقاليم الأربعة إليها. وفي ذات الوقت بدت روسيا غير مبالية بتبعات هذا القرار الذي فجّر غضب كييف والغرب على حد سواء.
ويتعزز هذا الاعتقاد عند ملاحظة أن ديناميكيات إجراءات انضمام مناطق جديدة إلى روسيا، تعطي انطباعا بأن الأخيرة كانت على دراية تامة بردود الفعل التي ستحدثها هذه الخطوة في الولايات المتحدة والغرب.
علاوة على ذلك، فإن حادث خطوط أنابيب الغاز في بحر البلطيق سيمثل بدوره بداية مرحلة جديدة في المواجهة بين روسيا والغرب، وقد يكون مصحوبا بزيادة في حالة عدم الاستقرار، ويزيد من احتمالية نشوب صراع عسكري بين الطرفين، أو -في الحد الأدنى- من إمكانية استقراء السيناريوهات اللاحقة للحرب في أوكرانيا.
الخيار المر
ويرى خبراء روس أن “قرار مجلس الأمن الروسي في 24 أبريل/نيسان 2014 برفض إرسال قوات إلى أوكرانيا لقمع الانتفاضة هناك قد حدد مسبقا تطور الأزمة الأوكرانية، والتي كانت في حينها غير مواتية للغاية لموسكو”.
فبرأيهم، كان من الواضح تماما أن أي عمل عسكري روسي في أوكرانيا سيؤدي حتما إلى انهيار سريع للدولة الأوكرانية في شكلها الحالي، وهزيمة قواتها المسلحة، ما كان من شأنه أن يجعل من الممكن حل “القضية الأوكرانية” بشكل جذري، ويؤدي لفصل المناطق الناطقة بالروسية عن أوكرانيا، وتحويل ما تبقى منها إلى دولة من الدرجة الثانية، وغير قادرة على تهديد المصالح الروسية.
ومع ذلك، لم تنجح مناورات موسكو في تجنب العقوبات الغربية. وكما كان متوقعا استمرت. ونتيجة لها، دخلت السياسة الخارجية الروسية -منذ اللحظة التي تخلت فيها عن “الإجراءات المباشرة” بأوكرانيا- في أزمة، فقد تحملت روسيا جميع تكاليف الأزمة من إنفاق موارد كبيرة لدعم مقاتلي دونباس، وكذلك عبء العقوبات الغربية، بينما في المقابل لم تحصل على “أرباح”.
لكن روسيا- برأي هؤلاء- عادت لتتبنى المبادرة التي كان من الممكن لفقدانها أن يشكل هزيمة لها، واغتنمت اللحظة التاريخية، بإجراء استفتاء في شبه جزيرة القرم، انتهى بانضمامه “دون دماء” إلى روسيا، وأسس لانتقال السياسة الخارجية الروسية إلى مرحلة الهجوم.
البعد القومي
علاوة على ذلك، لا يُخفي محللون سياسيون روس، أنه مع نهاية القرن الـ20، أصبح الروس أحد أكثر الشعوب انقساما في العالم، الأمر الذي اتخذ -برأيهم- أشكالا مأساوية للغاية في أوكرانيا، حيث أصبح ترهيب الروس فيها نمطَ تعامل اجتماعي وإداري وسياسة دولة.
ويعتقد المحلل السياسي ألكسندر دوتشاك أن روسيا بعد انضمام المناطق الأربع لن تخرج من الحرب الدائرة في أوكرانيا إلا بتحقيق أعلى سقف من النتائج الجيوسياسية، وستواصل مسلسل تجميع أوراق القوة، بانتظار تحولات داخل أوكرانيا وفي السياسة الغربية تصب في صالحها.
وعلى هذا الأساس، يأتي انضمام المناطق الأربع وإعلان موسكو قبل أيام من ذلك عن التعبئة الجزئية، في صلب هذا السياق، حسب دوتشاك، الذي يضيف أن أي “حركة متهورة” من الرئيس الأوكراني تجاه المناطق المذكورة قد “تنقلب عليه” وتؤدي إلى تكرار تجربة الاستفتاء لتشمل مناطق جديدة، وبالتالي مزيد من “قضم” الأراضي الأوكرانية.
ويوضح دوتشاك أن الرأي العام في أوكرانيا محبط من إخفاق فولوديمير زيلينسكي في الحفاظ على “وحدة البلاد”، فضلا عن عدم اتخاذ الغرب خطوات “أكثر جرأة” في دعم كييف، كالموافقة على ضمها إلى الناتو، ما عزز شعور الداخل بأن أوكرانيا ليست سوى أداة لتصفية حسابات بين المعسكرين.
ويعيد دوتشاك إلى الأذهان أن إقليم دونباس تاريخيا، ضَمن إلى حد كبير صعود روسيا في مطلع القرنين الـ19 والـ20 بما لديه من ثروات هائلة من الفحم والمعادن وغيرها من الموارد. ومن أجله قاتل الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية، وهو إحدى المناطق التي تم فيها تحقيق النصر على ألمانيا.
وبالتالي، فإن انضمام الإقليم، إضافة إلى زاباروجيا وخيرسون، سيساهم بشكل كبير في دعم الاقتصاد الروسي، وفي المقابل، “ترنح” الاقتصاد الأوكراني بكل ما يرتبط بذلك من تداعيات خطيرة على اقتصاد كييف، ووحدتها الجغرافية وقوتها العسكرية، وقدرة الغرب على تحمل كلفة مواصلة دعمها.
سباحة حرة
أما المحلل السياسي يوري سفيتوف، فيرى أن ما حصل تعود جذوره لرفض الغرب منح روسيا ضمانات أمنية، وقبل ذلك دمجها في هيكل أمني مشترك يلبي الحد الأدنى من أمنها ومصالحها الوطنية، ما دفعها لاتخاذ “خطوة تاريخية” تمثلت في سياسة “السباحة الحرة”، عبر عملية عسكرية خاصة تحقق ذلك وتعيد إليها سابق عهدها كدولة عظمى.
ويتابع، بأن طبيعة الأعمال القتالية في أوكرانيا في الوضع الراهن قد تتغير بعد ظهور قوات دولة (أو دول) أخرى في المناطق الروسية الجديدة. وفي كل الأحوال، فإنه بعد قبول مناطق جديدة في روسيا، ستنتقل العملية العسكرية الخاصة إلى مرحلة جديدة من أجل وقف قصف المدنيين في دونباس، وربما تأخذ طابع عمليات مكافحة الإرهاب، وبالتالي ستكون أيدي روسيا غير مقيدة إلى حد أكبر مما كانت عليه حتى الآن.
ويضيف أن رهان الغرب على تورط روسيا في حرب استنزاف طويلة الأمد لروسيا انقلب راسا على عقب. فقد انتقلت ارتدادات الحرب إلى الداخل الأوروبي، مع الارتفاع الجنوني في الأسعار، وتعطل مؤسسات صناعية كبيرة في القارة العجوز وتوقف إمدادات الغاز نتيجة العقوبات على روسيا، ما سيفجر -حسب تعبيره- حالة اجتماعية رافضة، بدأت تبرز في نتائج الانتخابات التي شهدتها بعض البلدان الأوروبية، وأفضت لصعود القوى اليمينية، التي تطالب بهامش استقلالية أكبر عن السياسية الأميركية.