حرب الرقائق.. النفط الجديد النادر والصراع بين أميركا والصين.. وما علاقة تايوان؟
الرقائق هي النفط الثمين الجديد والمصدر النادر الأكثر حيوية الذي يعتمد عليه العالم الحديث، والمعركة من أجله بدأت منذ عقد من الزمان، لكن الصراع فيها يحتدم حاليا بين طرفين لا ثالث لهما، هما الولايات المتحدة والصين، وتلعب تايوان دورا محوريا في هذا الصراع، بل تكاد تكون هي أساسه.
لكن ما أهمية الرقائق؟ ولماذا قد تندلع حرب باردة جديدة بين قوتين كبيرتين بسببها؟
في الوقت الحالي، فإن القوى العسكرية والاقتصادية والجيوسياسية مبنية على أساس رقائق الحاسوب، ونظريا فإن كل شيء ابتداء من الهواتف الذكية وأفران المايكروويف إلى سوق الأسهم والسيارات وحتى الصواريخ والطائرات، كلها تعمل بالرقائق.
وإلى وقت قريب، كانت أميركا تصمم وتصنع أسرع الرقائق، وحافظت على ريادتها باعتبارها القوة العظمى رقم 1. لكنها بدأت تتراجع، ويقوضها بذلك منافسون في تايوان وكوريا وأوروبا، وقبل كل أولئك الصين.
لقد تركت أميركا المكونات الرئيسية لعلمية بناء الرقائق تفلت من قبضتها، مما أسهم ليس فقط في نقص الرقائق في جميع أنحاء العالم، ولكن أيضا في حرب باردة جديدة مع خصم من القوى العظمى التي تعمل جاهدة لسد الفجوة.
وربما يكون التحكم في تصنيع الرقائق في القرن الـ21 بمثابة التحكم في إمدادات النفط في القرن الـ20. فيمكن للدولة التي تسيطر على هذا التصنيع أن تخنق القوة العسكرية والاقتصادية للدول الأخرى.
ولعل أبرز الأمثلة على ذلك القيود التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في يونيو/حزيران 2020 على شركات أشباه الموصلات الخارجية التي تستخدم التكنولوجيا والمعدات الأميركية بحظر تصديرها إلى شركة “هواوي” (HUAWEI) الصينية، وعلى رأس تلك الشركات المطالَبة بالالتزام بالحظر شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية “تي إس إم سي” (TSMC) المورد الرئيسي لهواوي في مجال الرقائق المتطورة، مما وضع الأخيرة في وضع تنافسي صعب في سوق الهواتف الذكية ومعدات الشبكات.
وحاليا، فإن تايوان تمثل نحو 92% من الإنتاج العالمي لصناعة أشباه الموصلات بدقة أقل من 10 نانومترات، مما يجعلها المزود الرئيسي للغالبية العظمى من الرقائق التي تشغل أكثر الأجهزة تقدما في العالم، بدءا من هواتف “آيفون” (iPhone) لشركة “آبل” (Apple) وحتى الطائرات المقاتلة “إف-35” (F-35)، وتعتبر شركة “تي إس إم سي” الأولى في العالم بهذا المجال.
وتوجد الرقائق التي تصنعها شركة “تي إس إم سي” في كل شيء تقريبا مثل الهواتف الذكية، ومنصات الحوسبة عالية الأداء، والحواسيب المكتبية واللوحية، والخوادم، ومنصات الألعاب، والأجهزة المتصلة بالإنترنت مثل الأجهزة الذكية القابلة للارتداء، والإلكترونيات الاستهلاكية الرقمية، والسيارات، وتقريبا كل أنظمة الأسلحة التي بنيت في القرن الـ21. وحوالي 60% من الرقائق التي تصنعها شركة “تي إس إم سي” هي لشركات أميركية.
لذلك تعتبر تايوان حيوية جدا بالنسبة للولايات المتحدة كما هي للصين، فالدولة التي تتحكم في الرقائق المتقدمة ستتحكم في مستقبل التكنولوجيا. وتعد مسابك تصنيع الرقائق التايوانية هي الأفضل في العالم.
إن إعادة التوحيد الناجحة بين البر الرئيسي وتايوان من شأنها أن تمنح الصين احتكارا فعليا لأكثر صناعات مسابك الرقائق تقدما، لكن في المقابل فإن خسارة “تي إس إم سي” ستجعل الولايات المتحدة تتدافع للعثور على مصادر بديلة، مثل “إنتل” (Intel) أو “سامسونغ” (Samsung)، لكن التحول والتعافي سيستغرق سنوات ومعها عشرات المليارات من الدولارات. في غضون ذلك، سيكون للولايات المتحدة مكانة من الدرجة الثانية في مجال التكنولوجيا.
لهذا الأمر، نجد أن الصراع على تايوان أكبر من مجرد رغبة صينية في ضم تايوان إلى البر الرئيسي، أو حب أميركي للسلام من خلال منع الصين من غزو تايوان، فجذور الصراع أعمق بكثير، وتدخل صناعة الرقائق المتقدمة في صلبها، إن لم تكن أساسها.
كيف وصلت تايوان إلى هذه المكانة المتقدمة في صناعة الرقائق؟
بدأت صناعة أشباه الموصلات التايوانية في 1974، وفي 1976 أقنعت الحكومة شركة “آر سي إيه” (RCA) الأميركية، التي كانت شركة إلكترونيات رئيسية في أميركا، بنقل تكنولوجيا أشباه الموصلات إلى تايوان.
وفي عام 1987 تأسست شركة “تي إس إم سي” وامتلكت الريادة في نموذج تصميم وبيع رقائق ومعدات أشباه الموصلات، وتطورت صناعتها إلى الريادة العالمية في 2002 مع تشغيل 40 مصنعا لتصميم وتصنيع أشباه الموصلات، وفي عام 2007 تفوقت صناعة أشباه الموصلات في تايوان على الولايات المتحدة.
وفي 2010 أصبحت تايوان تملك أكبر حصة على مستوى العالم من قدرات تصنيع الرقائق بدقة 300 نانومتر، و90 نانومترا، و60 نانومترا، وأصبحت لاحقا تهيمن على سوق التصنيع بتقنية 10 نانومترات، كما هيأت نفسها لمرحلة الانتقال السلس إلى تصنيع بدقة 3 نانومترات، وبهذا انتقلت من قوة إلى قوة، في حين تأخر أقرانها، حيث لا تمتلك إنتل بعد التكنولوجيا لإنتاج رقائق بتقنية 5 نانومترات وأقل، كما لا تزال سامسونغ تكافح لتحسين إنتاجية الرقائق بدقة 4 نانومترات، الجيل السابق.
وبحلول عام 2020 كانت تايوان هي الدولة الرائدة التي لا ند لها في صناعة أشباه الموصلات العالمية، مع استحواذ شركة “تي إس إم سي” وحدها على أكثر من 50% من حصة السوق العالمي، رغم التحديات المستمرة من إنتل وسامسونغ. ولذلك فإنه ليس من المستغرب، وفقا لتحليل “مجموعة بوسطن للاستشارات” (Boston Consulting Group) أن الانقطاع لمدة عام واحد في توريد الرقائق التايوانية وحدها سيكلف شركات التكنولوجيا العالمية نحو 600 مليار دولار.
لماذا لا تصنع أميركا أو الصين أشباه الموصلات أو الرقائق بنفسها؟
تعد مسابك تصنيع الرقائق تحديا تقنيا هائلا وعملا محفوفا بالمخاطر، كما أنها مكلفة للغاية، حيث تبلغ تكلفة بناء مصنع رقائق جديد ما يصل إلى 20 مليار دولار، ويستغرق بناؤه سنوات، ويحتاج إلى تشغيله بشكل ثابت 24 ساعة يوميا لجني الأرباح.
وقد وجدت دراسة حديثة أجرتها مجموعة بوسطن للاستشارات أن تكلفة مصنع رقائق كبير أصبحت الآن تكلف أكثر من بناء حاملة طائرات من الجيل التالي، أو أكثر من بناء محطة طاقة نووية جديدة. وفي تايوان، بلغت تكلفة مصنع “فاب 18” (Fab 18)، الذي تم بناؤه لإنتاج الرقائق المتقدمة، 17.5 مليار دولار أميركي.
لهذا تفضل الولايات المتحد والصين الاعتماد على شركات طرف ثالث تملك بالفعل مصانع جاهزة وقادرة على تلبية احتياجاتها من الرقائق المتقدمة، بدلا من المخاطرة ببناء مصانع جديدة مكلفة للغاية، وهذه الشركات مقرها تايوان.
هل تدفع أهمية تايوان الصين إلى غزوها؟ وما الذي سيحصل في هذه الحالة؟
سلط الخلاف حول قدرة هواوي على الوصول إلى رقائق شركة “تي إس إم سي” الضوء على مدى ضعف الصناعة الأميركية في حال فقدان إمداداتها الوحيدة من الرقائق المتقدمة. كما أن الصين قد ترى بدورها أن القيود التي تفرضها أميركا على الرقائق هي حرب اقتصادية وتتصاعد بسرعة، مما قد يشكل تهديدا لتايوان.
فإذا غامرت الصين وغزت تايوان لإعادة ضمها إلى البر الرئيسي، فهناك أمران من الممكن حدوثهما لإمداد الرقاقات الإلكترونية: الأول أن تقع هذه المصانع تحت سيطرة الصين، والثاني أن تُدمَّر هذه المصانع في خضم صراع بين البلدين.
وفي كلتا الحالتين، هناك كارثة عالمية ستحصل لا محالة. ففي السيناريو الأول، بإمكان الصين أن تقرر تقييد وصول الولايات المتحدة وحلفائها إلى الرقاقات الإلكترونية المتقدمة، ومن ثمَّ تقليص مزايا التفوُّق التكنولوجية والعسكرية والاقتصادية الأميركية. أما في حال حدوث السيناريو الثاني، فسيشهد العالم أزمة اقتصادية لم نشهد مثلها منذ الكساد الكبير سنة 1923.
لكن في المقابل فإن محللين يرون أن هيمنة تايوان في تصنيع أشباه الموصلات قد تلعب دورا حيويا في ردع أي غزو صيني محتمل للجزيرة، وذلك لأن بكين تعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا التايوانية لتشغيل الصناعات الرئيسية فيها والتي تعتمد عليها لمضاعفة ناتجها المحلي الإجمالي بحلول عام 2035.
ورغم أن الصين جيدة في الخوارزميات والبرامج وحلول السوق، فإن صناعاتها تحتاج إلى العديد من رقائق الحاسوب عالية الأداء “إتش بي سي” (HPC) التي لا تملكها. وإذا تسبب الصراع في تعطيل إمداداتها، فإن هذا سيبطئ بشكل كبير طموحات الصين في مجال الذكاء الاصطناعي واتصالات الجيل السادس، وسيتحتم عليها إعادة ترتيب إستراتيجيتها الصناعية بالكامل.
ولهذا نجد نكتة في تايبيه مفادها أنه إذا غزت الصين تايوان، فإن أفضل مكان للإيواء سيكون في مصانع الرقائق، لأنها الأماكن الوحيدة التي لا يستطيع جيش التحرير الشعبي تدميرها.
التصعيد الأميركي ضد الصين هل يدفع الأخيرة إلى خيارات متطرفة؟
التصعيد الأميركي ضد الصين من خلال القيود المفروضة على توريد التقنية الأميركية لها، قد يدفع بكين إلى أحد خياراتها الإستراتيجية العديدة المرنة -بخلاف الحرب-، فمثلا قد تنجح في إجبار الشركات التايوانية على التوقف عن تصنيع الرقائق للشركات الأميركية، أو يمكن أن تبدأ الصين نوعا من الحرب التجارية مع تايوان لضمان استمرارية وصول الرقائق إليها.
وعلى الرغم من أن المراقبين في المنطقة يستبعدون الخيار الأكثر تطرفا وهو قيام الصين بحملة تخريب عنيفة لشركات تصنيع الرقائق التايوانية، فإنه ليس من المستحيل استخدام هذا الخيار إذا استمر التصعيد الأميركي بشكل مستفز.
وإلى جانب ما فعله ترامب، فإن من أبرز الأمثلة على التصعيد في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هو القيود الجديدة التي فرضتها إدارته في أكتوبر/تشرين الأول 2022 على الشركات الأميركية التي تبيع أشباه الموصلات المتقدمة إلى الصين، بما في ذلك القيود المفروضة على المواطنين الأميركيين والمقيمين الذين يعملون في مصانع الرقائق في الصين.
ووفقا لموقع بلومبيرغ الإخباري، فقد كان تأثير هذه القيود فوريا تقريبا، إذ بدأ الأميركيون العاملون في المصانع الصينية بمغادرة البلاد بالفعل، مما يجعلها إستراتيجية فعالة لإيقاف مسار التقدم التقني الصيني، بحسب الموقع ذاته.
وقبل ذلك في أغسطس/آب الماضي كانت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى تايوان والتي تسببت في تصعيد غضب الصين على تايوان، ودخلت بعدها في مرحلة خطيرة من الاستفزازات كان آخرها قرار الحزب الشيوعي أن يدرج لأول مرة إشارة في ميثاقه تؤكد “معارضة” بكين استقلال تايوان.
وفي جميع الحالات، يجب على واشنطن أن تكون قلقة، فإذا حُرمت الولايات المتحدة من الوصول إلى مصانع تايوان، فإن الصناعات الدفاعية والإلكترونيات الاستهلاكية الأميركية ستتراجع لمدة 5 سنوات على الأقل.
وعلاوة على ذلك، فإن الصين تنفق المزيد من الأموال كل عام في استيراد الرقائق أكثر مما تنفق على استيراد النفط، وتستثمر المليارات في بناء مصانع رقائق خاصة بها للحاق بالولايات المتحدة، مما يضع على المحك التفوق العسكري الأميركي والاقتصادي، وتصبح الصين الرائدة في التكنولوجيا خلال العقد القادم أو أكثر.
الولايات المتحدة والصين تخوضان حرب رقائق ساحة المعركة فيها تايوان، أما من سينتصر في هذه الحرب الباردة الجديدة، فهذا أمر محل جدل ويخضع لاعتبارات عديدة، وفي النهاية فإن المتضرر من هذه الحرب ليس أميركا والصين وحدهما وإنما العالم بأسره.