ذا سبيكتاتور: هل هناك حضارة مجهولة قديمة وغير عادية مدفونة شرق تركيا؟
في مدينة شانلي أورفا العريقة جنوب شرق تركيا، اكتشفت العديد من المواقع الأثرية التي تعود للعصر الحجري الحديث ويطلق عليها التلال الحجرية، وأشهرها غوبيكلي تبة، وأيضا “كاراهان تبه” التي يقدر عمرها بين 11 ألف عام و13 ألفا، مما يجعلها ضمن الأقدم في العالم مقارنة بعمر الهرم الأكبر في الجيزة الذي يبلغ 4500 عام، أو موقع “ستونهنغ” البريطاني الذي يبلغ عمره 5 آلاف عام، أو حتى مقبرة “كيرن دي بارنينيز” التي تعتبر أقدم مبنى قائم في أوروبا بعمر 7 آلاف عام.
وفي تقريره الذي نشره موقع “ذا سبيكتاتور” (spectator) البريطاني، يقول الكاتب شون توماس إن معبد “غانتيغا” في مالطا يعتبر أقدم معبد أثري في العالم، إذ يقدر عمره بـ 5500 عام، ولكن تبيّن أن مدينة “كاراهان تبه” ومعالمها الحجرية وكل ما يحيط بها بما في ذلك الأضرحة والزنزانات والمذابح والآثار الصخرية وقاعات الجمهور وغيرها أقدم بكثير من أي معالم أثرية أخرى.
اكتشاف تاريخي
اكتُشفت أطلال مدينة “كاراهان تبه” خلال العامين الماضيين. ونظرا لعمرها ومدى تعقيدها وتطورها وغموضها العميق، قد تكون أعظم اكتشاف في تاريخ البشرية، ويتوقع أن يتم افتتاح الموقع للجمهور في العام الجاري.
ذكر الكاتب أن نجمي كارول، كبير علماء الآثار المسؤول عن جميع الحفريات المحلية من جامعة إسطنبول، استدعاه لمشاهدة أحدث النتائج في هذه المنطقة، لأنه كان من أوائل الصحفيين الغربيين الذين جاؤوا إلى المنطقة منذ أعوام عديدة وكتبوا عن أصل مواقع التلال الحجرية.
في أواخر عام 1994، جاء عالم الآثار الألماني كلاوس شميت إلى موقع “غوبيكلي تبه”، ليبدأ عمليات التنقيب البطيئة والدؤوبة للأحجار المتعددة والغريبة والضخمة. وكانت الأحجار الأثرية القديمة في الغالب منحوتة بشكل معقد، مع وجود نقوش للحيوانات المحلية، وكذلك تماثيل لبشر.
تسبب التاريخ القديم جداً لموقع “غوبيكلي تبه”، الذي شُيّد لأول مرة منذ 10 آلاف قبل الميلاد إن لم يكن قبل ذلك، في إثارة العديد من الشكوك. ولكن مع مرور الوقت بدأ خبراء الآثار في قبول درجة أهميته. ومن جهته، أعلن إيان هودن، من جامعة ستانفورد، أن موقع “غوبيكلي تبه” يغير كل المعطيات. وصرح ديفيد لويس ويليامز، أستاذ علم الآثار في جامعة ويتواترسراند في جوهانسبرع في ذلك الوقت بأن “موقع “غوبيكلي تبه” يعد أهم موقع أثري في العالم”.
غوبيكلي تبه
في التسعينيات وأوائل الألفية، لم يكن موقع غوبيكلي تبه معروفا للناس، حيث أشار الكاتب إلى أنه لاحظ عندما سافر إلى هناك في عام 2006 أن السكان المحليين في المدينة الكبيرة المجاورة شانلي أورفا لم يكن لديهم أي فكرة عما كان موجودا هناك.
وذكر الكاتب أنه طلب من أحد سائقي سيارة الأجرة، في اليوم الذي وصل فيه أن يأخذه إلى غوبيكلي تبه لكنه لم يسمع عنه من قبل، وذلك شبيه اليوم بأن تسأل شخصًا ما في باريس عما إذا كان قد سمع عن متحف اللوفر فيجيبك بأنه لا يعرفه.
بعد استشارة العديد من زملائه تمكّن سائق سيارة الأجرة من إيجاد المكان الذي يريد الكاتب الذهاب إليه، حيث اتبّع الطريق خارج شانلي أورفا وصولا إلى قمة تل بعيد حيث صادف مشهدًا مشابها للمشاهد التي نراها في أفلام الرعب، إذ ينقب عالمو الآثار عن اكتشافاتهم التي ستغير العالم.
التقط الكاتب عدة صور لكلاوس الذي كان يرافقه وللمواقع الحجرية والعمال، علما بأنه كان السائح الوحيد الموجود هناك حينها، وقد لاقت بعض تلك الصور نجاحا وشهرة كبيرتين.
ووفقا لكلاوس “يغيّر غوبيكلي تبه فكرتنا عن تاريخ البشرية، إذ لطالما اعتقدنا أن الزراعة أتت أولاً، ثم الحضارة، لكن ذلك كان معكوسا في هذا المكان، حيث يبدو أن بناء مركز الطقوس جاء أولا، ثم عندما اجتمع عدد كافٍ من الصيادين للعبادة أدركوا أن عليهم إطعام الناس، ومن هنا ظهرت الزراعة. هذا هو المكان الذي انتقل فيه الإنسان العاقل من قطف الفاكهة من الشجرة إلى الكدح وزراعة الأرض”.
وأشار كلاوس إلى أنه بالنسبة للأشخاص الذين يؤمنون بأسطورة جنة عدن على أنها قصة رمزية لثورة العصر الحجري الحديث، فمن المحتمل أن تكون غوبيكلي تبه وضواحيها هي المكان الذي حدث فيه ذلك. وقال كلاوس “أعتقد أن هذا الموقع هو معبد في جنة عدن”، وهو اقتباس أعاد استخدامه الكاتب عديد المرات، علما بأن الناس صدقوا كلام كلاوس حرفيا، رغم كونه مجرد تعبير مجازي.
أضاف الكاتب أنه لم تكن هناك منازل ولا رفات بشرية في الموقع ولا أي دلالة على دينهم، لكن ما يعرفه العلماء أنه في وقت ما في 8 آلاف قبل الميلاد، قام مؤسسو غوبيكلي تبه بدفن هياكلهم المعمارية العظيمة تحت أطنان من الركام، ويظل السؤال ما إذا كان السبب شعورهم بالذنب؟ أو أرادوا استرضاء “إله غاضب”؟ أم فقط أرادوا إخفاء مدينتهم؟
غادر الكاتب المكان وهو في حيرة من أمره ومتحمس في الوقت ذاته، حيث قام بكتابة بعض المقالات ثم نشر روايته الشهيرة مما حفّز العديد من الكتاب والأكاديميين وصانعي الأفلام الآخرين لخوض رحلة محفوفة بالمخاطر في بعض الأحيان إلى هذا المكان المذهل والمحير، قرب الحدود التركية السورية المضطربة، الذي نمت شهرته ببطء.
في عام 2022، عاد الكاتب رفقة نجمي وأيدان أصلان، مدير دائرة شانلي أورفا للثقافة والسياحة، لرؤية موقع غوبيكلي تبه اليوم. لقد تغيّر كل شيء هذه الأيام، ولم يعد غوبيكلي تبه مجرد موقع أثري مشهور، إنه موقع استقطاب سياحي مدرج في قائمة اليونسكو للتراث العالمي يستقبل ما يقارب مليون زائر سنويا.
قاد نجمي الكاتب إلى متحف بُني لعرض وحماية أعظم الاكتشافات في المنطقة، بما في ذلك تمثال عمره 11 ألف عام باسم “رجل أورفا” تم استرداده من أسفل المركز من شانلي أورفا نفسها، وربما أقدم شخصية بشرية منحوتة بالحجم الطبيعي في العالم. ينتصب “رجل أورفا” اليوم في قاعة خاصة به في أحد أكبر المعارض الأثرية في تركيا.
وخلال تجوّلهم في المتحف، كان نجمي يشير إلى وجود العديد من المنحوتات من تماثيل الفهود والنسور. وأضاف أصلان أن علماء الآثار وجدوا مؤخرا دليلا محيرا على وجود الكحول في غوبيكلي تبه، من خلال اكتشاف أحواض ضخمة بها بقايا كيميائية للتخمير، مما يشير إلى إقامة أعياد شعائرية ضخمة على الأغلب.
تفسير جديد
وأفاد الكاتب بأنه يقترب من تفسير جديد بالغ الأهمية لمنطقتي غوبيكلي تبه والتلال الحجرية وهو تفسير مختلف تماما عن المنظور الذي أعطاه كلاوس شميت في عام 2006.
ذكر الكاتب أن نجمي أعاده إلى كاراهان تبه وإلى بعض الأماكن من التلال الحجرية ليتمكنا من رؤية هذا اللغز التاريخي معا، وبينما كانا يسرعان نحو المنحدرات القاحلة شرح له نجمي كيف وجد العلماء أدلة على وجود منازل في هذه المناطق.
ذكر الكاتب أن الأماكن في التلال الحجرية لم تكن معابد معزولة، حيث اعتاد الصيادون المجيء عدة مرات في السنة لممارسة طقوسهم عند صروح الحجارة المتعامدة، قبل العودة إلى السهول لمتابعة حياة مطاردة الحيوانات.
اعتاد البناة أن يعيشوا هنا ويقوموا بكافة النشاطات اللازمة لاستمرار الحياة من صيد وفن. ومع ذلك، لا توجد أي علامة على الإطلاق تشير إلى قيامهم بالزراعة؛ وربما كانوا صيادين وجامعين يفتقدون للحنكة والمهارة.
والأمر الغريب الآخر هو العدد الكبير من المنحوتات لأشخاص بـ6 أصابع. هل هذا تشوّه رمزي أم حقيقي؟ ربما أصبح لدينا الآن أفكار مبدئية حول الدين الفعلي لهؤلاء الناس.
أضاف الكاتب أنه تم انتشال العديد من الجماجم من منطقة غوبيكلي تبه، ويبدو أنه تم تفريغها عن عمد وثقبها بعناية حتى يكون ممكنا تعليقها وعرضها. لم تكن معتقدات أصحاب هذه الجماجم معروفة في منطقة الأناضول القديمة، وإذا كان هناك معتقد من هذا القبيل في منطقة التلال الحجرية، قد تفسره نقوش النسور وهي “تعبث” برؤوس بشرية، وربما تكون الجماجم قد نتجت عن الصراعات أو عن طريق تقديم القرابين البشرية.
هل دفنت عمدا؟
وبينما لم يتم اكتشاف سوى 1% من الموقع، ثبت أن عالم الآثار الألماني كلاوس شميت كان على حق تماما حيث اقترح أن غوبيكلي تبه دُفنت عمداً من قبل مؤسسيها، اقترح البعض أن آثار الردم الظاهرة كانت نتيجة آلاف السنين من التآكل والمطر والأنهار التي جرفت الأنقاض من بين النُصب الحجرية، مما أدى إلى اختفائها تدريجيا. والسؤال المطروح: لماذا يجب على أي مجتمع ديني أن يدفن معابده الخاصة التي لا بد أن بناءها استغرق عقودا؟
يقول الكاتب إنه تم دفن كاراهان تبه أيضًا بالتأكيد وعن قصد، وهذا هو السبب في أن نجمي وفريقه تمكنوا من اكتشاف الأعمدة بسرعة؛ وكل ما كان عليهم فعله هو إزالة الردم لتظهر الأعمدة المنحوتة من الصخور.
وتساءل الكاتب “هل كان لدى الأشخاص الذين بنوا تلك المواقع نظام كتابة؟”، يكاد يكون من المستحيل تصديق أنه يمكن إنشاء مثل هذه المواقع المعقدة في أماكن متعددة وعلى مساحة كبيرة جدا دون خطط دقيقة وواضحة، أي دون كتابة. يمكن تخمين الإجابة بينما يقوم علماء الآثار في جنوب شرق تركيا الآن بالتنقيب عن حضارة دينية كبيرة وغريبة ومتماسكة فنيا غير معروفة حتى الآن في بلاد ما بين النهرين دُفنت عمدًا منذ 10 آلاف عام.
توجه الكاتب ونجمي إلى قرية سايبورك العربية-التركية حيث وجدوا أحجارا تائية من طراز غوبيكلي وكاراهان تستخدم لدعم الجدران ويتراوح عمرها بين 11 ألف عام و13 ألفا.
كما وجدوا أيضًا داخل حظيرة حجرية قطعا أثرية حجرية مذهلة تظهر أشكالاً بشرية وحيوانية مثل نمور وثيران منقوشة بطريقية تكعيبية. ويمكن ملاحظة تصوير متطابق للثيران في غوبيكلي تبه مما يثير التساؤل عما إذا تم نحتها من قبل الشخص نفسه.