تعد المنظرة الماركسية والفيلسوفة روزا لوكسمبورغ (ولدت في بولندا عام 1871) واحدة من الفلاسفة المؤثرين في الحركات العمالية الأوروبية والماركسية، وأكثر من كونها مفكرة، ينظر للوكسمبورغ على أنها من ملهمي التيارات اليسارية الغربية المعاصرة.
ورغم إعاقتها وانحدارها من أوروبا الشرقية، أثرت الفيلسوفة الاشتراكية الثورية -التي اغتيلت في برلين عام 1919- في الحركات المناهضة لما يسمى “التطرف القومي”، وإضافة إلى ذلك اشتهرت بنقدها الشديد للثورة البلشفية الروسية والقمع الذي أنتجته.
وبعد عودة الجدالات الأيديولوجية بين اليمين واليسار من جهة، وبين تيارات اليسار المختلفة من جهة أخرى، للواجهة في الفترة الأخيرة، تكتسب مراسلات روزا لوكسمبورغ المنشورة أهمية خاصة بالنظر للوجوه الشخصية والإنسانية التي تكشف عنها، ونشرت بعضها المترجمة نهلة الشهال في كتابها “مراسلات: روزا لوكسمبورغ” الذي تضمن رسائل تنبض بالحب والحنين من السجن الألماني الذي تم حبسها فيه إلى حبيبها هانز ديفا نباخ، الذي كان مرتبطا بها بعلاقة صداقة وغرام وكان أصدقاؤهما المشتركون يأملون في زواجهم بعد الحرب.
هذه الرسائل كانت ترسل له من سجون مختلفة في ألمانيا؛ إذ المعروف عن روزا أنها كانت لا تخرج من السجن إلا لتدخله من جديد؛ حيث زج بها في سجون بولونيا وروسيا وألمانيا وكانت أقساما مهمة من إسهاماتها النظرية والعملية تنتج هناك ثم تُسرب إلى الخارج.
وتعرف روزا لوكسمبورغ بكونها أكثر النساء الاشتراكيات شهرة في البلاد الناطقة باللغة الألمانية بسبب نقدها اللاذع للرأسمالية، وهي صاحبة الرؤية المثالية للفكر والممارسة الاشتراكية الديمقراطية.
وسماها لينين “صقر الماركسية المحلق”، ووقفت ضد الحرب العالمية الأولى التي نشبت عام 1914 وانتهت 1918.
طبعة جديدة
هذا الكتاب “مراسلات: روزا لوكسمبورغ” -الذي صدر في طبعته الأولى عام 1977- أعيد طباعته حديثا عن دار شهريار 2020.
وعن الطبعة الجديدة، قال صاحب “دار شهريار” الناشر العراقي صفاء دياب “هناك أسباب عدة لإعادة طباعة مراسلات روزا، الأول أن الكتاب مهم وهو يتناول حياة روزا الخاصة، ولأنه مطبوع منذ 45 عاما، فلم يعد متوفرا في متناول اليد”.
والثاني -بحسب دياب- أن هناك “اهتماما غير مسبوق -عراقيا وعربيا- بالكتب الماركسية والشيوعية، من قبل شباب مهتم بالقراءة وهو ما دفعنا لإعادة طباعته. مع ملاحظة أن هؤلاء الشباب في الغالب ليسوا شيوعيين”.
في هذه المراسلات تظهر روزا لوكسمبورغ إنسانة تعشق وتتألم، وتعيش كأي امرأة في هذا العالم بعيدا عن شخصيتها القيادية.
من روزا؟
تبدو لوكسمبورغ في الرسائل نحيلة وقصيرة ومريضة دائما، لكنها امرأة عميقة الثقافة ومتنوعة المعرفة، تحب الزهور والعصافير والشمس وتحب الموسيقى والأدب ويسكنها المرح والحزن معا وتجيد فهم معاناة الآخرين.
وهي تحنو على النساء وآلامهن ومعاناتهن وضعفهن، على الرغم من أنها رفضت على الدوام أن تكون إسهاماتها النضالية نسوية، ليس احتقارا لهذا الميدان، بل لأنها كانت ترى أن أفضل خدمة يمكن أن تقدمها للنضال النسائي هي تثبيت موقعها بوصفها قائدة للرجال والنساء معا.
وتقول المترجمة نهلة الشهال، أن “هدفها من ترجمة هذه المراسلات ليس لغرض وثائقي فحسب، أو لإضاءة جوانب من شخصية روزا، وإنما لإضفاء جوانب من الأنوثة على من كانت إنسانة صلبة. وفي قلب هذا التناقض تكمن كل روعة الإنسان”.
وتتابع الشهال “تكشف الرسائل عن الجانب غير المضاء من شخصية ونفسية منظّرة ماركسية وفيلسوفة واقتصادية واشتراكية ثورية. وأشارت عدة مصادر إلى انهيارها العصبي والمعنوي، وإلى محاولتها الانتحار بسبب انهيار آمال ثورة شيوعية في ألمانيا”.
نفاد النسخ
وقالت المترجمة نهلة الشهال إنها سعيدة بهذه الطباعة الجديدة من الكتاب الذي ترجمته عام 1977 في بيروت وصدر عن دار ابن خلدون.
وأضافت “للأسف ضاع ما تبقى من نسخ الكتاب عندي. وكان اتصل بي -عن طريق الفيسبوك- الناشر صفاء دياب وطلب موافقتي على إعادة طباعة الكتاب الذي عثر عليه ضمن كتب مكتبة قديمة اشتراها البصرة.. وافقت طبعا. وطلبت قراءة النص قبل إعادة طباعته”.
وتابعت “صححت بعض الأخطاء الطباعية. وتركت المقدمة التي كنت قد وضعتها له وأنا في الـ25 من عمري كما هي. ليس كأثر، بل لأني بصدق وجدتها ممتازة ولم يكن عندي ما أضيفه عليها أو ما أريد تعديله. فرحت لأنه بعد أكثر من 40 عاما وتجارب بعضها مرير وخيبات بمقدار الحماسات (بل أكثر) وتغيير في الكثير من الأشياء، ما زلتُ موافقة على مرتكزات قناعاتي والقيم التي أتمسك بها”.
انتظرك بفارغ الصبر
وتوضح الشهال “عندما اقتنيت الكتاب لم أكن أعرف من هي روزا لوكسمبورغ، فقط شدني الغلاف. وبعد القراءة أحببت عالم هذه المرأة القوية والمدافعة الشرسة عن أفكارها، والمرأة التي تثمن الحب وتصفه بأنه يمنحنا القدرة على رؤية العالم، وكأنه من قصص الجنيات ويخرج من النفس البشرية أجمل ما فيها”.
ففي رسالتها الموقعة يوم 14 مايو/أيار 1917، كتبت لهانز تقول “هذا المساء، كنت أشعر أنني أكثر بؤسا مما يمكن وصفه، فتصفحت الديوان الشرقي الغربي ـوهو مجموعة من القصائد كتبها غوته وهو في سن الـ70- أحب هذا الكتاب كثيرا، ليس فقط بسبب الحيوية اللاهبة والدائمة التي تشع منه، ولكن أيضا بسبب زليخة أو ماريان التي تجسد وحدها -في نظري- صورة المرأة المحببة إلى غوته، وأعد أشعارها تعادل حقا أشعار غوته من حيث الحرارة والبساطة”.
عندما كانت معتقلة بقلعة “فرونكة” في السابع من يناير/كانون الثاني 1917، كتبت إلى هانز تخبره أن اليوم هو الأحد، وكان -على الدوام- مشؤوما بالنسبة لها، وللمرة الأولى منذ إقامتها في هذا المكان تشعر بأنها بائسة، لذلك قررت أن تكتب إليه هذه الرسالة.
وجاء فيها “اليوم فكرت بك طويلاً يا هانز، متى سنعيش من جديد؟ سهراتنا الحلوة في سودانت، حين كنت تقرأ لي بصوت عالٍ بعضا من (كتابات) غوته وأنت تحتسي أكوابا لا تحصى من الشاي، وحين كنا نتبارى في مشادات لا تنتهي عن الله والكون، إلى أن كنت (يا هانز) -حوالي منتصف الليل- بعد إلقائك نظرة بائسة على الساعة تغرق رأسك في قبعتك وتسرع إلى المحطة مهرولا كالمجنون”.
كثيرا ما اختتمت روزا لوكسمبورغ هذه الرسائل بجملة “انتظرك بفارغ الصبر”، ففي فبراير/شباط 1917، كتبت له ألا يفاجئها بزيارته، فقط عليه أن يبلغها قبل حضوره، وكان هانز ديفا نباخ (1884 ـ 1917) قد التقى مع روزا أول مرة خلال إقامته في برلين، ثم جُند في أثناء الحرب في سلاح المدفعية حيث قتل بقذيفة.
هذه المراسلات لا تحمل شروحات وتفاصيل لحياة روزا في السجن، وإنما هي بمثابة يوميات قصيرة وسريعة وفيها الكثير من الحنين لهانز، فمثلا تخبره عن الكتب التي تعمل على إنجازها ومطالبته أن يكتب رسائله على الورق، وليس على إيصالات المكتبات التي يختار منها الكتب ويرسلها إلى السجن.
في صباح 29 يونيو/حزيران 1917، كتبت له “كل مساء، حين أكون جالسة أمام النافذة المشرّطة ممددة القدمين على كرسي آخر، أتنفس هواءً نقيا وأحلم.. يصلني من مكان ما من الجوار ضجيج متواصل لسجاد يطرق بحماس أو لشيء من هذا القبيل. أجهل تماما صاحب هذا العمل ومكانه ولكن التكرار المنتظم لهذه الأصوات يشعرني وكأني على علاقة حميمة بهؤلاء الناس”.
هذه الأصوات التي تتناهى لسمعها من بعيد وهي داخل الزنزانة تشعرها بالراحة، ففي إحدى السجون كانت تستمع إلى صوت بطتين تعيشان في مستنقع قريب توقظانها يوميا عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل. أخبرته عن الانطباع الناجم عن أصوات نجهل مصدرها، وفي رسائل أخرى أخبرته عن حجم زنزانتها الذي لا يتعدى الـ11 مترا مكعبا، الخالية من الإنارة وما كانت تفعله في تلك اللحظات سوى ترديد بعض الأشعار.
وكانت تخبره في بداية كل رسالة أنها مرت بلحظات تعيسة، لكنها أحسن الآن ما دامت تثرثر له وتستعيد معه ذكريات جميلة على الرغم من الحزن العميق الذي يحيط بها.