ضحايا من نوع آخر.. غزيون خرجوا من الحروب الإسرائيلية مثقلين بصدمات حادة
غزة- هل سمعت يوما بـ”الضحايا المخفيين”؟ هم ضحايا لا ترد أسماؤهم في الإحصاءات الرسمية التي ترصد ضحايا الحروب الإسرائيلية المتكررة على غزة من شهداء وجرحى، إنهم ضحايا من نوع خاص، يخرجون من الحروب مثقلين بصدمات حادة “تجرح” صحتهم النفسية.
يدرك بعض هؤلاء الضحايا ما لحق بهم من آثار “ما بعد الصدمة” ولا يترددون في طلب المساعدة والعلاج في مراكز متخصصة تقدم “خدمات تدخلات نفسية”، وكثيرون يتعايشون مع أمراضهم لشعورهم بالخجل، أو ربما يذهبون بأنفسهم وأسرهم “خفية” إلى هذه المراكز بعيدا عن “أعين المجتمع”.
وحصلت “الجزيرة نت” على أرقام صادمة لضحايا الصدمات النفسية في “برنامج غزة للصحة النفسية”. ووفق تأكيد رئيس البرنامج الدكتور ياسر أبو جامع للجزيرة نت، فإن أعداد طالبي مساعدة “التدخلات النفسية” تزداد على نحو ملحوظ بعد الحروب والأحداث العنيفة في غزة.
“أمواج” من الصدمات
لم يكن الغزيون قد تعافوا بعد من آثار 11 يوما من القتل والتدمير والتشريد في الحرب الإسرائيلية الرابعة على غزة في مايو/أيار من العام الماضي، حتى باغتتهم إسرائيل بـ3 أيام دامية، كانت الأعنف من بين موجات تصعيد وعدوان متكررة ومتلاحقة على مدار 15 عاما.
واجه نحو مليوني فلسطيني في غزة الصغيرة والمحاصرة الموت في كل لحظة من هذه الأيام الثلاثة التي “نثرت” فيها طائرات حربية القتل والخراب في كل مكان.
وكانت لعائلة أبو قايدة في عزبة بيت حانون المتاخمة لمعبر بيت حانون (إيرز)، في شمال قطاع غزة، “حكاية مأساوية” من الحكايات الحزينة الدامية للعدوان، ستترك أثرها في أفراد العائلة طويلا.
في غزة لا يوجد مكان آمن، وعزبة بيت حانون واحدة من بين “المناطق الأكثر خطرا”، التي يدفع سكانها في كل حرب من أرواحهم وممتلكاتهم “فاتورة” قربهم من السياج الأمني الإسرائيلي.
وقال سيد أبو قايدة (28 عاما) للجزيرة نت “الصدمة كانت شديدة، وما زلنا غير مصدقين كيف تحوّل الفرح إلى مأتم بلمح البصر”.
بفعل تداعيات العدوان الإسرائيلي، ألغت عائلة أبو قايدة مراسم زفاف “العريس أكرم”، وقررت -حسب وصف سيد- إتمام الزواج “على السكت”، بجلب العروس إلى بيت زوجها من دون أي احتفالات.
كانت والدة العريس الستينية نعامة أبو قايدة ترافقه وعروسه في سيارة، توقفت لحظات أمام بيت أسرتها لوداعها قبل الانتقال إلى “بيت الزوجية”، وقال سيد “لحظات بعد نزول أكرم وعروسه من السيارة التي كانت والدته تنتظرهما بداخلها، حتى أصابها صاروخ لتفارق الحياة على الفور”.
استشهدت نعامة، وأصيب آخرون بينهم أطفال من عائلتي “العروسين” والجيران، وبقي من خلفها يعتصرون آلاما وأحزانا قد تطول. ووفقا لسيد، فإنها ليست المرة الأولى التي يقع “ضحايا” من أقربائه في الحروب الإسرائيلية على غزة.
في الحرب الماضية -والحديث لسيد- “أصيب عدد من أفراد العائلة بجروح، واضطررنا إلى النزوح عن منازلنا، بسبب كثافة الغارات الجوية والقصف المدفعي على المنطقة”.
سيد الذي تعود جذور عائلته لبلدة “يبنا” المهجرة إبان النكبة عام 1948، لم يتلق تعليما عاليا، وقال بلهجة عامية “الذاكرة مليانة (ممتلئة) مرار وقهر وما ظل فيها حاجة حلوة”.
ضحايا مخفيون
مصيبة هذه العائلة ليست في استشهاد “أم العريس”، ويقول الدكتور أبو جامع إن للحروب ضحايا من الأحياء، هؤلاء الذين تترك الحرب آثارها الثقيلة في صحتهم النفسية، ويعانون من هذه الآثار لفترات متفاوتة حتى بعد انقشاع غبار الانفجارات.
ويرصد أبو جامع أبرز آثار ما بعد الصدمة، فيذكر منها:
- الشعور العميق باليأس وفقدان الأمل.
- الإحباط وانعدام النظر الإيجابي إلى المستقبل.
- الاكتئاب الشديد.
- الوسواس واضطرابات الهلع.
- ازدياد معدلات العنف الأسري والمجتمعي.
هذه آثار عامة تصيب البالغين -حسب أبو جامع- وهناك آثار تصيب غالبا الأطفال كالتبول اللاإرادي والفزع وتراجع التحصيل الدراسي، وقال إن “لبرنامج غزة للصحة النفسية تدخلات نفسية مع الأسر والمدارس ورياض الأطفال”، إضافة إلى زيارات يقوم بها مختصون ويقدمون خدمات علاجية وإرشادية “للفئات الأشد تأثرا بالصدمات”.
وتزيد الأحداث الصادمة المرتبطة بالحروب التي تتعرض لها غزة من الضغوط التي أدت في الأيام الأخيرة إلى ازدياد ملحوظ في حوادث العنف المجتمعي، فضلا عما يعانيه السكان من واقع مأساوي جراء معدلات الفقر والبطالة العالية.
ووفقا لأبو جامع، فإن “هذه الضغوط تؤدي إلى ردّات فعل سلبية للتعامل مع الأحداث الضاغطة”، كاستخدام السلاح ووقوع ضحايا في الخلافات المجتمعية.
ويدلل أبو جامع بالأرقام على أثر تداعيات الحروب على الصحة النفسية المجتمعية، وقال إن البرنامج تعامل مع 3920 حالة بعد الحرب الإسرائيلية الرابعة في مايو/أيار العام الماضي، التي تزامنت مع انتشار جائحة كورونا، وهو أعلى رقم في تاريخ عمل البرنامج، أما المعدل السنوي المعتاد فيقدّر بنحو 2200 حالة.
وعقب الحرب الثالثة على غزة عام 2014، تعامل البرنامج مع 3700 حالة، ويقول أبو جامع إن “ثلثي المراجعين للبرنامج بعد الحروب من البالغين رجالا ونساء، وثلثًا من الأطفال”، متوقعا ضغطا على الخدمات التي يقدمها البرنامج عبر مراكزه الثلاثة المنتشرة في قطاع غزة، في المرحلة المقبلة، إثر هدوء ما بعد موجة العنف الأخيرة.
الحالات أكثر من ذلك بكثير، وهذه الأرقام -وفقا لأبو جامع- ليست لكل ضحايا ما بعد الصدمة، الذين “يتكتم” كثير منهم على ما أصابهم أو يطلبون المساعدة بـ”سرّية تامة”.