بعيدا عن القاعات المغلقة وبيروقراطية المتاحف وجشع بعض المؤسسات الفنية وقيودها الخانقة، يحوّل فن الشارع الفضاءات والميادين العامة إلى منصات يعبر فيها كثيرون عن أنفسهم بشكل إبداعي، وينقلون رسائل قد تؤثر في الرأي العام.
على عكس تلك المؤسسات، يوفر فن الشارع مساحة لإنتاج عمل فني في الأماكن العامة، مثل المباني والجدران والأرصفة، بقصد إبلاغ رسائل أو عرض قضية ووجهة نظر من دون قيود المؤسسات الكبرى وقواعدها.
ويتخذ فن الشارع شكل الكتابة على الجدران أو رسوم الجداريات أو الملصقات وغيرها من الوسائط التي تُحوّل الفضاء العام لمعرض فني.
يعود انتشار فن الشارع في العالم الحديث إلى إمكانية الوصول إليه من المبدعين والجماهير على حد سواء، فلا الفنان يحتاج لإذن بالعرض ولا الجمهور يحتاج لتذاكر وتصاريح دخول.
إنه شكل يخرج فيه الفن من قلب الفنان إلى الشوارع، فيصل إلى الجماهير ويتواصل معها، وقد عملت منظمة “أمهات ميدان مايو” (Asociación Madres de Plaza de Mayo) الأرجنتينية على سبيل المثال وفق تلك الآلية.
إذ جعلت المنظمة الفضاء العام مقرًا لها والجدران معارض فنية، لتوصل أصوات أولئك الأمهات اللواتي اختفى أبناؤهن خلال فترة حكم الدكتاتورية العسكرية للبلاد. فانهمكن في إنشاء جداريات وأعمال عدة تخلد ذكرى المختفين وتطالب بالعدالة والمساءلة، من دون الحاجة لمؤسسة أو وسيط حكومي لتوصيل رسالتهن.
وبالفعل، انتشرت تلك الرسالة انتشار النار في الهشيم، وساعد في ذلك صدقها، إذ إن المحرك الأساسي لهذا النوع من الفن هو كونه رد فعل يتحدى الوضع الراهن وتحول المجال العام لمنصة للأصوات المكبوتة.
يسمح فن الشارع للأفراد الذين تم تهميشهم وظلمهم بالتعبير عن أنفسهم بشكل احتجاجي ينبش في الوعي العام ويتحدى الأيديولوجية السائدة، وهو بذلك ينسج أفقا جديدا يمكن من خلاله “للشعوب أن تبدع أشكالا من الذكاء اليومي، كي تواصل الحياة بما أمكن من هشاشة الكينونة ومن فقر الوجود”، على حد تعبير الباحثة التونسية أم الزين بن شيخة المسكيني.
وعلى سبيل المثال، غالبًا ما استخدم فنان الغرافيتي الإنجليزي بانكسي -أحد أكثر فناني الشوارع إنتاجا- أعماله لانتقاد الحكومة والشرطة والمؤسسات الاجتماعية والسياسية الأخرى.
وتناولت أعمال بانكسي قضايا العدالة الاجتماعية والهيمنة الإمبريالية وحتى التغيرات المناخية، وغالبا ما يُنظر إلى فنه على أنه شكل من أشكال المقاومة للأفكار السائدة ونوع من أنواع النشاط السياسي، وربما لم يكن فن بانكسي لينتشر هذا الانتشار الواسع لولا الشوارع التي احتضنته.
تطفو عديد من الهويات الثقافية المختلفة إلى السطح بفضل فن الشارع أيضًا. فقد كان وسيلة مضمونة للتعبير عن المفاهيم الشخصية والهوية الثقافية منذ سبعينيات القرن الماضي. هذا التعبير الثقافي وتشكيل الهوية من خلال الشارع سائد في حركة الهيب هوب، التي غالبا ما ترتبط بالكتابة على الجدران قبل أن تصبح مدرسة موسيقية غنائية.
فقد ظهرت الكتابة على الجدران، وهي شكل من أشكال فن الشارع، كجزء أساسي من ثقافة الهيب هوب في السبعينيات، عندما استخدمها الشباب الأميركيون من أصل أفريقي أو لاتيني في المناطق الحضرية كشكل من أشكال التعبير ضد العنصرية النظامية والتمييز والفقر والظلم الذي يتعرضون له على يد مواطنيهم البيض.
كان هذا التعبير الثقافي الفني شاملا وبلغ ذروته الإبداعية عقب مقتل المواطن الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد، الذي خنقه شرطيان أميركيان، وحركت الطريقة الوحشية التي خُنق بها عديدا من المظاهرات الاحتجاجية حول العالم، وتصدر وسما “لا أستطيع التنفس” (“#ICantBreathe”) و”حياة السود مهمة” (#BlackLivesMatte) منصات التواصل الاجتماعي، وصاحبت ذلك كله عشرات الأعمال الفنية التي انتصرت لضحايا القتل العنصري.
يكسر فن الشارع حدود الفن التقليدي وأشكاله، ويجلب التعبير الفني إلى الشوارع ويجعله في متناول الجميع بغض النظر عن المهارة الفنية أو القدرات المالية المتاحة. ورغم بساطته، فإنه سيظل ذا قدرة عالية على تغيير الرأي العام والبحث عن معنى في عالم مثخن بالمظالم والدماء.