من أجل ثورة الانتقال الطاقي، جردت الدول أراضيها بحثا عن المعادن الضرورية لصناعة كل شيء من السيارات الكهربائية إلى توربينات الرياح، لكن عمليات البحث عن الكوبالت خلفت سلسلة من التلوث وانتهاكات حقوق الإنسان في جمهورية الكونغو الديمقراطية، بينما سممت صناعة تعدين النحاس في زامبيا الأنهار القريبة، وفي إندونيسيا الغنية بالنيكل تسبّبت أنشطة التعدين في كميات كبيرة من الجريان السطحي مما نجم عنه صبغ مياه البلاد باللون الأحمر.
واليوم، توجه بلدان عديدة أنظارها نحو مصدر جديد للمعادن وهو قاع المحيط العميق الذي يحتمل أنه يزخر باحتياطات غير مستغلة من المعادن مثل النيكل والكوبالت والنحاس والمنغنيز مخفية داخل عقيدات متعددة المعادن، وهي رواسب على شكل كريات تعود إلى ملايين السنين.
وفي تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” (foreignpolicy)، قالت الكاتبة “كريستينا لو” إن احتياطات المعادن غير المستغلة القابعة في قاع المحيط قد تكون عاملا حاسما لمستقبل أكثر اخضرارا أو كارثة بيئية محتملة.
وفي يونيو/حزيران الماضي، طبقت ناورو وهي دولة صغيرة في المحيط الهادي لها تاريخ حافل بكوارث التعدين، بندا قانونيا غير معروف حيث بدأت عدها التنازلي لمدة عامين لبدء التعدين في أعماق البحار في المياه الدولية.
وما زال أمام السلطة الدولية لقاع البحار وهي الهيئة المسؤولة عن تنظيم الصناعة، ما يزيد قليلا على العام لوضع اللمسات الأخيرة على المبادئ التوجيهية لما يمكن أن يتحوّل إلى أكبر فرصة تعدين في العالم.
وأشارت الكاتبة إلى أن المشكلة تتمثل في حقيقة أنه لا أحد يعرف على وجه اليقين ما ستكون عليه تكاليف مثل هذا المشروع، ولا يقتصر ذلك على الجانب الاقتصادي فقط، إذ يحذر خبراء من أن الاندفاع نحو التعدين في أعماق البحار قد يطلق العنان لصناعة من شأنها أن تتسبب في أضرار بيئية لا رجعة فيها تهدد البيئات الهشة وتقضي على الأنواع التي لم يتم اكتشافها بعد. ولهذا، تستوجب هذه المرحلة المزيد من الوقت لفهم مخاطر التعدين وما قد يترتب عنه من خسائر.
عملية التعدين
تشير التقديرات إلى أن أعماق المحيطات تحتوي على مليارات الأطنان الجافة من العقيدات متعددة المعادن المليئة بالكوبالت والمنغنيز والنحاس والنيكل وفقا للمسح الجيولوجي الأميركي، وتعتبر هذه المعادن ضرورية في صناعة بطاريات أيونات الليثيوم التي تشغل كل شيء من السيارات الكهربائية إلى أجهزة الآيفون، لذلك هي مطلوبة بشدة، ويمكن أن يحتوي جزء واحد فقط من قاع البحر على كميات أكثر بكثير مما يمكن العثور عليه على سطح الأرض.
ويقول مؤيدو التعدين إن هذه الرواسب تحتوي على أنواع مهمة من المعادن وبكميات كبيرة، وتدعي شركة “ميتال كومباني” (Metal Company)، وهي من الأطراف الرئيسية التي تتسابق نحو أعماق البحار، أن مناطق تعاقدها يمكن أن تحتوي على ما يكفي من المعادن لتزويد 280 مليون سيارة كهربائية.
في المقابل، لا تزال الجدوى الاقتصادية لعمليات التعدين المحتملة غير واضحة، خاصة أن التكنولوجيا المطلوبة لإنجازها لا تزال قيد الاختبار.
وحتى لو بدت العملية شاقة من الناحية الاقتصادية، فإن المكافأة المحتملة قد أسرت دول العالم منذ فترة طويلة، وضُمنت أحكام التعدين بأعماق البحار في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 وتم تقنينها عام 1994 مع إنشاء السلطة الدولية لقاع البحار، التي تهدف إلى وضع لوائح التعدين الخاصة بأعالي البحار.
وصادقت 167 دولة على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، مقابل رفض الولايات المتحدة في البداية قيود قواعد التعدين في أعماق البحار التابعة للسلطة الدولية لقاع البحار، ومنذ ذلك الحين تعثر تنفيذها بسبب النقاشات المحلية حول السيادة.
ويحظر قانون “السلطة الدولية لقاع البحار” حاليا على الدول التعدين، لذلك تقتصر مهامها فقط على تراخيص الاستكشاف.
ومع تفويض للعمل “لصالح البشرية”، فإن “السلطة الدولية لقاع البحار” صممت مخططا يتضمن تشارك المنافع ويدعم البلدان النامية وتعويض البلدان التي تعتمد اقتصاديا على التعدين فوق سطح الأرض، والتي شجب العديد منها العد التنازلي لبدء التعدين البحري.
وتقول كريستينا جيردي كبيرة مستشاري أعالي البحار للاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة، إنه “حلمنا التمتع بمجال جديد نظيف بالفعل حيث يتم تشارك الفوائد المالية ومزايا قدرات الإنتاج والمعرفة مع جميع الدول في العالم النامي” لكن الواقع -على حد تعبيرها- كان أقبح من ذلك لأنه “على أرض الواقع القذر، تعمل بعض الشركات من البلدان المتقدمة تحت عباءة البلدان النامية لأنه يجب أن يكون لديها راعٍ حكومي للوصول إلى قاع البحر”.
ثروات معدنية
وذكرت الكاتبة أن السباق للاستفادة من ثروات قاع البحر يعكس التناقض الأساسي للنمو العالمي، ويقول البعض إنه لمحاربة المشاكل البيئية مثل تسارع تغير المناخ الناجم عن النمو غير المنضبط والنزعة الاستهلاكية، وقد لا يكون هناك بديل سوى محاولة إحداث فوضى بيئية جديدة.
ونقلت الكاتبة عن أندرو سويتمان أستاذ علم البيئة في أعماق البحار بجامعة “هيريوت وات” أنه “لا يمكن للعالم أن يستمر في دعم هذا المستوى من الاستهلاك دون عواقب، والنتيجة التي نراها الآن هي التدهور البيئي، ما يعني أننا بحاجة إلى إيجاد مصدر آخر لتوفير المعادن من أجل إيقاف التدهور البيئي”.
وأضاف أن الدول والشركات التي وجّهت بالفعل عشرات الملايين من الدولارات نحو تقييمات الأثر البيئي، تجادل بأن استخراج هذه المعادن أمر بالغ الأهمية للانتقال الطاقي.
وأشار جيرارد بارون الرئيس التنفيذي لشركة “تي إم سي”، إلى أن “هناك حاجة عالمية للمعادن، فإزالة الكربون تنطوي على تكثيف التنقيب عن المعادن، وما ركزنا عليه هو: أين يمكننا العثور على إمدادات لهذه المعادن المهمة بأخف تأثير على كوكب الأرض والبشر؟”.
لكن مئات العلماء يقولون إن ذلك يقلل من المخاطر التي تنطوي عليها هذه العملية، وذكرت جيردي أنهم “نوعا ما يتجنبون الإشارة إلى التأثيرات البيئية الخطيرة في البيئة الجديدة التي يحاولون السعي للحصول عليها من المعادن”.
ونبّهت الكاتبة إلى أن التعدين في أعماق البحار يمكن أن يكون له تأثير واسع النطاق بل وكارثي، ويطلق العنان للتلوث والرواسب التي من شأنها الإضرار ببيئة هشة تعج بالحياة. ونظرًا لوجود أعماق بحار لا تزال غير مستكشفة، قد يفقد العالم أنواعا لم تكتشف بعد.
وأكدت السلطة الدولية لقاع البحار أنها ستمارس رقابة صارمة على عمليات التعدين، ومع بقاء عام واحد فقط للتفاوض بشأن تفاصيل الشكل الذي سيبدو عليه تنظيم عمليات التعدين في قاع البحار، لا تزال هناك مجموعة من الأسئلة الشائكة دون إجابة حول اقتصاديات هذا المجال الجديد وتأثيره البيئي وآلية عمل نظام تشارك المنافع الجديد الذي تم تصوره من قِبَل السلطة الدولية لقاع البحار.