بيروت- قُبالة مرفأ بيروت الذي ابتلع الانفجار التاريخي مساحات من محيطه، نهض مركز “مينا للصورة” بعد ترميمه، ويستقبل وافدين إلى معرض “في هذا المكان، شرائط لوسط بيروت” الذي انطلق ضمن فعاليات مهرجان “أيام بيروت السينمائية” من العاشر حتى 19 يونيو/حزيران 2022.
ينسجم المعرض مع المهرجان بما يصبو إليه، في الأرشفة والتوثيق وتفكيك علاقة الأفراد بالأمكنة كفضاء لتشكيل الهويات وحفظ الذاكرة لمواطنين ولاجئين في بلاد تصحو وتنام على الحروب والاضطرابات والأحداث الأمنية.
قصة المهرجان
قبل 22 عاما، انطلقت النسخة الأولى من مهرجان “أيام بيروت السينمائية” على يد مجموعة صغيرة من المخرجين اللبنانيين، وكان بمثابة منصة للسينما اللبنانية والعربية، وهدفه إحياء الدور التاريخي لبيروت كمساحة لإنتاج كل أشكال الفنون والثقافة، عبر خلق مساحة حوار وتفاعل بين المخرجين العرب.
وميزة هذا المهرجان -الذي تقام فعالياته كل عامين- أنه مخصص للأفلام المستقلة غير التجارية، التي تعبر عن مخرجيها وإنتاجها مشترك وتتناول قضائية معينة، ويعنى بالأفلام الروائية والوثائقية الطويلة، وبعض الأفلام القصيرة، وتمكن على مدار السنوات من عرض أكثر من 500 فيلم من المنطقة العربية وخارجها، وشارك الآلاف في مشاهدتها.
وفي لقاء مع المديرة الفنية للمهرجان ريهام عاصي، تحدث للجزيرة نت عن طبيعة المهرجان غير التنافسية، إذ لا توجد لجنة تحكيم وجوائز، بل هدفه عرض الأفلام فقط أمام العامة، “لأن طبيعة هذه الأفلام لا تأخذ حقها في صالات العرض التجارية، وتكون المهرجانات محطة محورية لعرضها وإيصالها لأوسع شريحة ممكنة”.
ونظمت جمعية “بيروت دي سي” فعاليات المهرجان عام 2022 في دورته 11 بعد انقطاع استثنائي 3 سنوات، بسبب الأحداث الكارثية التي شهدها لبنان منذ خريف 2019، إثر الانتفاضة الشعبية والانهيار الاقتصادي المدوي، إلى أن بلغت ذروة جديدة بانفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب 2020.
ويعرض المهرجان أفلاما روائية ووثائقية تتمحور قصصها حول بعض قضايا اللبنانيين، إضافة إلى قضايا السوريين والفلسطينيين في مخيمات اللجوء.
وعلى مدار ليالٍ متواصلة، عرض مهرجان “أيام بيروت السينمائية” أفلاما عربية حصد معظمها الكثير من الجوائز العالمية، ويشترط اختيارها عادة أن تكون منتجة قبل عامين من انطلاق المهرجان.
وعادة، لا يختار المهرجان موضوعا محددا، “لكن هموم وقضايا عالمنا العربي -وتحديدا في بلاد الشام- تحتم وجود مواضيع مشتركة”، أما الجديد في هذه الدورة -حسب ريهام عاصي- فهو وجود 3 فئات للمهرجان: الأولى، فئة “في هذا المكان”، وتتناول علاقة الأفراد بالأمكنة، والتعامل عبرها مع الماضي. وهي فئة واسعة جدا، وتضم استثنائيا أفلاما قديمة، ومنها للمخرجين اللبنانيين برهان العلوي ومارون بغدادي، إضافة إلى أفلام جديدة تعرض لأول مرة، ومنها للمخرج سيمون الهبر “إعادة تدمير”، ومحمد سويد “يوم بلا غد”، وهما وثائقيان يتحدثان عن بيروت.
كما تضم هذه الفئة أفلاما تتحدث عن الفلسطينيين: اثنين منهما للمخرج الفلسطيني مهدي فليفل؛ “عودة رجل” و”ثلاث مخارج منطقية”، وتم تصويرهما في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين (جنوبي لبنان)، وجميعها تعكس “معنى غربة الأفراد داخل البلد الأم وفي مخيمات اللجوء”.
أما الفئة الثانية فهي فئة أفلام مدار “بيروت دي سي”، وتضم فلمين روائيين: واحد من الأردن وهو فيلم “فرحة” للمخرجة الأردنية دارين سلام ويدور حول أحداث عاشها اللاجئون الفلسطينيون، والفيلم الثاني هو “البحر أمامكم” للمخرج اللبناني إيلي داغر، إضافة إلى فيلم وثائقي هو “كباتن الزعتري” للمخرج المصري علي العربي، وتم تصوير أحداثه في مخيم الزعتري للاجئين السوريين في الأردن.
وجاءت الفئة الثالثة تحت عنوان “أنا هويت” وهي أفلام اختارتها أسرة المهرجان وتضم أفلاما روائية ووثائقية.
ومنذ سنوات، يرى كثيرون أن بيروت تواجه تهديدات كبيرة على مستوى هويتها الثقافية والفنية بعد أن عاصرت عقودا كانت فيها حاضنة للمفكرين والكتاب والمخرجين والمبدعين العرب، وهو ما انعكس على إغلاق عددٍ كبير من دور السينما والمسارح ودور النشر.
وتتحدث ريهام عاصي عن تحديات كثيرة تواجههم على مستوى الاستمرارية، في ظل الأزمات التي يغرق فيها لبنان سياسيا واقتصاديا وأمنيا وثقافيا واجتماعيا. وقالت “الوضع الاقتصادي في لبنان وما تلاه من انفجار المرفأ كان سلبيا للغاية علينا، إضافة إلى تضاؤل أعداد الصالات السينمائية في بيروت، لكننا وجدنا حلولا كثيرة أدت إلى أن تكون العروض مجانية، وأن نتجه إلى المناطق الأطراف بقاعا وشمالا وجنوبا، وعرض الأفلام في مساحات غير اعتيادية، ومنها مثلا داخل معمل للحرير في القبيات في عكار شمالا، وفي مخيم الحماصنة-غزة في البقاع”.
شرائط بيروت
وداخل معرض “في هذا المكان شرائط لوسط بيروت”، يأخذنا المخرج اللبناني هادي زكاك عبر الصور واللوحات الدعائية ومشاهد من أفلام عربية إلى بيروت في حقبة الخمسينيات والستينيات وبداية السبعينيات، وتبدو كوثائق أرشيفية لتلك الحقبة، في 4 محطات للعاصمة: منطقة المرفأ، والفنادق والحياة الليلية التي كانت تشتهر بها بيروت، مع صور من أرشيف المؤسسة العربية للصورة. ويستعيد مقاطع فيديوهات لنحو 50 فيلما روائيا طويلا، لبنانية وعربية وأجنبية، تم إنتاجها وتصويرها في بيروت قبل الحرب الأهلية اللبنانية، في الفترة الممتدة بين 1935 و1975.
ويشير زكاك للجزيرة نت إلى أن المعرض أشبه بعملية وصل بين الماضي والحاضر والبحث والتنقيب أكثر عن الخطابات التقليدية التي تقتصر على شعارات “الماضي الجميل والحاضر القبيح”.
ويقول إن “مشكلة لبنان تكثفت في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية ومشروع إعادة الإعمار الذي كرس النسيان وسعى لتدمير الذاكرة المكانية بسلوك ممنهج. في حين تحولت الصور والسينما والأفلام الروائية والوثائقية لمادة أرشيفية غنية حتى بمعزل عن جودة وقيمة مضمونها”، وفق تعبيره.
آراء المخرجين
وتحدثت الجزيرة نت مع مخرجيْن شاركا عبر أفلامهما في المهرجان، وهما اللبناني سيمون الهبر، والفلسطيني السوري عبد الله الخطيب.
وكتعبير مضاد لمفهوم “إعادة الإعمار”، شارك الهبر بفيلمه “إعادة تدمير”، ويصف فعاليات المهرجان بمحاولة -وإن كانت محدودة- لإعادة نبض الحياة الفنية والثقافية لبيروت، ويتحدث فيلمه الوثائقي -الذي استند إلى شهادات أهالي بيروت وتم إنتاجه في 2021- بأسلوب ناقد ومغاير عن سياسات إعادة الإعمار بالمدينة بعد الحرب، التي أدت -حسب رأيه- إلى تهجير شرائح واسعة من أهلها، وفقا للهبر.
من جانبه، يشرح عبد الله الخطيب مشاركته في المهرجان عبر فيلمه الأول “فلسطين الصغرى” الذي عرض في 2021، وحصد أكثر من 20 جائزة حول العالم وشارك في كبرى المهرجانات العربية والغربية.
ولعل ميزة الخطيب -وهو ابن مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين (جنوب العاصمة دمشق)- أنه كان الشاهد والكاتب والمصور والمؤلف لهذا الفيلم التوثيقي الذي تدور أحداثه في اليرموك خلال فترة الثورة السورية بين 2013 و2015. وهي الفترة “التي حاصر فيها النظام السوري مخيم اليرموك ومنع دخول كافة المواد التموينية والأدوية إلى المخيم وقيد حركة أهله، وكان موجودا داخله، ووثق كثيرا من القصص والأحداث، إلى أن جاء قرار صناعة الفيلم عام 2019 بعد هجرته من سوريا نحو ألمانيا.
والعرض الأول لـ”فلسطين الصغرى” كان في سويسرا ثم في مهرجان كان، وجال في عدد كبير من صالات أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية واليابان والصين، وكذلك في مهرجان قرطاج وفي دول عربية مثل قطر في مهرجان أجيال، ونال جوائز بوصفه أحد أفضل الأفلام الوثائقية عن اللاجئين الفلسطينيين”، ويستعد بعد “أيام بيروت السينمائية” للمشاركة في مهرجان “عمان السينمائي” في يوليو/تموز المقبل.