في الذكرى الـ44 لإنشاء الحزب الوطني.. الأحزاب المصرية بين التأثير والتهميش
القاهرة- “هل ما زالت هناك أحزاب في مصر؟”، بدهشة ممزوجة بالسخرية؛ تساءل الشاب العشريني، بعدما شاهد لافتات للتهنئة بعيد الأضحى المبارك تحمل اسم أحد الأحزاب المصرية في أحد الشوارع الكبرى بمحافظة الجيزة (غرب القاهرة).
شارك الشاب ركاب الحافلة العامة التي يستقلّها التندّر على هذه الأحزاب التي لم يعد لها وجود على أرض الواقع إلا من خلال لافتات التهنئة الدعائية، أو البيانات الصحفية.
حاول الركاب اختبار معلوماتهم حول الأحزاب المصرية الحالية التي تتجاوز 100 حزب وفق تصريحات رسمية، فلم يفلحوا إلا في تذكر أسماء عدد محدود جدا من الأحزاب، أغلبها من الأحزاب القديمة مثل الوفد والغد والناصري.
في حين ذكر بعضهم ضمن الأحزاب الحالية “الحزب الوطني الديمقراطي” المنحل الذي أسسه الرئيس الراحل أنور السادات عام 1978 وظل الحزب الحاكم أكثر من 3 عقود، قبل أن تسقطه ثورة يناير/كانون الثاني 2011.
الحديث العفوي الذي تجاذبه ركاب الحافلة كشف عن واقع الحياة الحزبية التي تعيشها مصر في السنوات الأخيرة، وعاشته عقودا في السابق، حيث تغيب فاعلية الأحزاب وتأثيرها، حتى إن أغلبها لا يعرف المصريون أسماءها.
وفي الذكرى الـ44 لتأسيس الحزب الوطني المنحل الذي يتهمه سياسيون ومعارضون بأنه أفسد الحياة السياسية والحزبية في مصر، نلقي نظرة سريعة على واقع الحياة الحزبية المصرية، مع الرجوع إلى جذورها التاريخية حين وُجدت أحزاب سياسية قوية وفاعلة في الحياة المصرية.
البداية التاريخية
شهدت مصر في الربع الأخير من القرن الـ19 تجربة حزبية قصيرة غير مكتملة بظهور تنظيمات سياسية متعددة، هدفها مقاومة التدخل الأجنبي المتزايد في شؤون البلاد، ولكنها انتهت بعد الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882.
ويرى المؤرخون أن عام 1907 هو عام الميلاد الحقيقي للأحزاب السياسية في مصر، إذ شهد تأسيس الأحزاب الثلاثة التي أسهمت بأدوار مهمة على مسرح السياسة المصرية حتى ثورة 1919.
الأحزاب الثلاثة هي: “الحزب الوطني” الذي أسسه الزعيم الشاب مصطفى كامل لمناهضة الاحتلال البريطاني، و”حزب الأمة” ذو التوجهات القومية، و”حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية” الذي أسسه الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد.
وفي العام نفسه أُسّس حزبان مواليان للاحتلال البريطاني، هما: “الحزب الوطني الحر” الذي أسسه محمد وحيد بك الأيوبي، و”الحزب الوطني” الذي أسسه الصحفي حافظ أفندي عوض، وكلاهما لم يستمر طويلا.
ثم توالى تأسيس الأحزاب السياسية مثل الحزب المصري، وحزب العمال، وحزب النبلاء، والحزب الاشتراكي المبارك، بالإضافة إلى الحزب الدستوري.
الحقبة الذهبية للأحزاب
يرى كثير من المؤرخين والخبراء السياسيين أن المرحلة ما بين عام 1919 إلى عام 1952 هي مرحلة ازدهار الحياة الحزبية في مصر، إذ شهدت تعددية حزبية وتنافسا سياسيا واسعا، وتمكنت الأحزاب ذات الشعبية وعلى رأسها حزب الوفد من تولي السلطة عبر الانتخابات لبعض الفترات.
ويصنف بعض المؤرخين الأحزاب السياسية التي نشأت في تلك الحقبة إلى 5 مجموعات رئيسة، هي:
الأحزاب الليبرالية وعلى رأسها حزب الوفد، والأحزاب والجماعات الدينية وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، والأحزاب الاشتراكية وعلى رأسها حزب مصر الفتاة (الحزب الاشتراكي لاحقا)، وأحزاب السراي (الأحزاب الموالية للملك)، والأحزاب النسائية مثل حزب بنت النيل السياسي.
نهاية الأحزاب
بعد الإطاحة بالملك في عام 1952 وتولي ضباط الجيش حكم البلاد، انتقلت مصر من التعددية الحزبية إلى التنظيم السياسي الواحد الذي دشّنه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، واحتكر المشهد السياسي نحو ربع قرن.
وكانت البداية في يناير/كانون الثاني 1953، إذ قررت السلطة الحاكمة حلّ الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها وحظر أعضائها من ممارسة أي نشاط حزبي، وحظر تكوين أي حزب سياسي جديد، في حين أُسّس تنظيم “هيئة التحرير” ليكون التنظيم السياسي الوحيد.
لاحقا، ألغيت هيئة التحرير، وأُسّس بديلا لها تنظيم “الاتحاد القومي” عام 1956، قبل أن يحل محله “الاتحاد الاشتراكي العربي” عام 1964.
عودة مقيدة
ظل التنظيم السياسي الواحد يحكم قبضته على الحياة السياسية حتى عام 1976، حين قرر السادات قيام 3 منابر حزبية داخل الاتحاد الاشتراكي، تحولت لاحقا إلى أحزاب سياسية؛ كان من بينها الحزب الوطني الديمقراطي الذي ترأسه السادات ومن بعده مبارك حتى عام 2011.
ورغم تأسيس أحزاب عدة في هذه المرحلة، فإن الحزب الوطني كان المهيمن الأساسي على المشهد السياسي والحزبي وعلى مقاليد الحكم في مصر، ووصفت هذه المرحلة بأنها عصر الأحزاب الكرتونية أو المستأنسة.
وواجه الحزب اتهامات واسعة بإفساد الحياة السياسية، وإضعاف الأحزاب المنافسة بوسائل غير قانونية، والسيطرة على المؤسسة التشريعية من خلال تزوير الانتخابات والتلاعب بأصوات الناخبين، وكانت انتخابات عام 2010 التي حصد فيها أغلبية ساحقة وسط اتهامات بالتزوير أبلغ مثال على ذلك.
ظلت ممارسات الحزب الوطني تزيد من الاحتقان السياسي في مصر الذي بلغ ذروته بعد انتخابات عام 2010 لتنطلق ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، ويعبّر المتظاهرون عن غضبهم من سياسات الحزب الحاكم بحرق العديد من مقارّه إيذانا بانتهاء عصره الذي امتد أكثر من 3 عقود.
وجاءت نهاية الحزب الرسمية في 16 أبريل/نيسان 2011 بصدور قرار من محكمة القضاء الإداري (أعلى جهة قضائية بمجلس الدولة) بحلّ الحزب الوطني الديمقراطي وتصفية جميع أمواله.
صحوة وتراجع وحراك
عقب ثورة 2011 شهدت الحياة الحزبية في مصر انفتاحا كبيرا وأُسّست عشرات الأحزاب المختلفة الاتجاهات، وتنافست في تقديم برامج سياسية متنوعة للنهوض بالبلاد، وبدا أن مصر مقبلة على تجربة ديمقراطية وحزبية مهمة، ولكنها لم تستمر طويلا.
فمع النجاح الكبير الذي حققته الأحزاب ذات الاتجاه الإسلامي في الانتخابات البرلمانية وفوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي برئاسة الجمهورية، أيّد كثير من أحزاب المعارضة قرار المجلس العسكري حلّ البرلمان، ولاحقا دعمت وأيدت تدخل الجيش للإطاحة بالرئيس المنتخب في منتصف عام 2013.
بعد الإطاحة بمرسي تراجعت الحياة الحزبية مجددا، ورغم وجود أكثر من 100 حزب مسجل ومعترف به رسميا، صارت الأغلبية الساحقة من هذه الأحزاب بلا تأثير حقيقي.
وفي نهاية عام 2018 أعلن عدد من الأحزاب المصرية تدشين تجمع سياسي تحت اسم “تحالف الأحزاب المصرية”، كان هدفه المعلن -وفق مؤسسيه- الوقوف خلف الدولة، وتأييد ومساندة “كل” قرارات الرئيس عبد الفتاح السيسي. ويعدّ التحالف الذي يضم الآن نحو 42 حزبا سياسيا نفسه “المعارضة الوطنية الحقيقية”، على حد وصف قياداته.
في المقابل، شهد عام 2017 تدشين “الحركة المدنية الديمقراطية” التي تضم أحزابا وشخصيات عامة، مثل أحزاب الكرامة، والتحالف الشعبي الاشتراكي، والمحافظين، والدستور، والوفاق القومي، والاشتراكي المصري، فضلا عن حزب العيش والحرية، وتعدّ الحركة أكبر تجمع لأحزاب المعارضة المصرية.
وقبل شهرين، دعا رئيس حزب “المحافظين”، أكمل قرطام، رموزا من الشخصيات الليبرالية لمناقشة الإعلان النهائي “للتيار الحر”. ومن أبرز من وُجّهت إليهم الدعوة وزير الخارجية الأسبق والأمين العام الأسبق للجامعة العربية عمرو موسى، ورئيس النادي الأهلي السابق محمود طاهر، ورئيس حزب الوفد السابق سيد البدوي، فضلا عن رئيس حزب الإصلاح والتنمية محمد أنور السادات، وغيرهم.
يأتي ذلك إثر الحياة النسبية التي دبّت في الأحزاب والحراك في المجال السياسي بمصر، وذلك بعد دعوة للحوار الوطني أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي في نهاية رمضان الماضي، للحوار بين السلطات وعدد من الأحزاب.
ديكور ومصالح
ويجمع مراقبون وخبراء وسياسيون على تردّي واقع الأحزاب السياسية، حتى إن بعضهم يصفها بالظاهرة الورقية المصطنعة، لكون بعضها لا يكاد يمتلك مقرا له على الإطلاق، ولا يتجاوز وجودها الترخيص القانوني الذي حصلت عليه عند التأسيس.
ووفق تعبير الكاتب الصحفي عماد الدين حسين رئيس تحرير صحيفة الشروق، فإن التربة الحزبية في مصر شديدة الهشاشة، وذلك ما أدى إلى تحوّل أحزاب كثيرة لتصبح مجرد لافتات ومقارّ مهجورة، إلا من رئيس الحزب ومساعديه وبعض عائلته، معتبرا أن حزب المعارضة الحقيقي الآن هو مواقع التواصل الاجتماعي.
بدروه، يرى أستاذ العلوم السياسية نصر عارف أن تحليل الظاهرة الحزبية في مصر ينتهي بنا إلى أنها “ظاهرة كاريكاتيرية عبثية”، معتبرا أن أغلب الأحزاب الموجودة ليست سوى مشاريع شخصية، أو “دكاكين سياسية” تسعى لتحقيق مكاسب لأشخاص بعينهم، أو لتأمين أوضاع رجال أعمال يحتاجون إلى قوة سياسية تؤمن مصالحهم، وذلك في مقال بصحيفة الأهرام الحكومية.
في المقابل، اتهم رئيس حزب الكرامة أحمد الطنطاوي -الذي تقدم باستقالته من رئاسة الحزب قبل أيام- السلطة بعدم امتلاكها رغبة حقيقية لوجود عمل سياسي حقيقي، مشيرا إلى أن هناك مجموعة من الأحزاب ترعاها السلطة وتسمح بانتشارها وتوفر لها الحماية، مثل حزب “مستقبل وطن”، وهو حزب الأغلبية البرلمانية المؤيد للرئيس، حسب تعبيره.
وأضاف الطنطاوي –في تصريحات صحفية– أن هناك مجموعة أخرى من الأحزاب تبقيها السلطة على قيد الحياة بإرادتها، في حين تعاني مجموعة ثالثة من التضييق والحصار ولا توجد رغبة في وجودها من الأساس.