إن أحد الدروس العظيمة لفلسفات التعليم يقول إن ممارسة التفكير ليس الهدف منها بالضرورة إيجاد الحلول بقدر ما هو التفكير الجماعي في المشكلات، ومن ثم لا يوجد شيء أكثر نجاعة من الدخول في المشكلة من أجل تكوين قدرة على ابتكار حلولنا الخاصة، بدلا من تكرار الحلول التي يفرضها الآخرون، أيا كانوا “سادة” أو “خبراء” أو غيرهم.
بهذه الجمل لخصت صحيفة “ليبراسيون” (Liberation) الفرنسية مقالا للفيلسوف الفرنسي سيباستيان شاربونييه، تساءل في بدايته عن سرّ الجبن السياسي الذي يمنع البالغين من التفكير معا في المستقبل، وعن الشيء الذي يوجه انتباه الإنسان منذ الطفولة نحو الحلول على حساب المشاكل، مما يخلق نوعا من اللامبالاة بالمشاكل الحقيقية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
وتأتي ملاحظات شاربونييه هذه في إطار اجتماعات موناكو الفلسفية التي تعقد حتى يوم العاشر من يونيو/حزيران الحالي لمناقشة عدد من الأمور، مثل المساواة والبيئة والمرأة والتعليم والرعاية، وذلك مع مجموعة من المفكرين من أمثال الكاتب والمحاضر فريديريك لينوار والفلاسفة ساندرا لوجيه وميشيل فوسيل وسينثيا فلوري، والسياسية نجاة فالو بلقاسم.
وينبه شاربونييه إلى أن حب الإجابات فخ عاطفي حقيقي يمنع ممارسة التفكير، ويُعلّم الأطفال حب الإجابة بدلا من المشكلة، ليصبح في نظرهم من العار عدم المعرفة، ومن ثم طرح الأسئلة، وبذلك فإنهم ينشؤون على متعة امتلاك الحلول من دون أي ارتباط بالتفكير كنشاط بهيج وتحرري، لأن الرغبة في التفكير ليست هي الرغبة في المعرفة، بل هي الرغبة في التعلم وفي الشك والتساؤل والحوار.
وهذا درس كبير من فلسفات التعليم التي تعلّمنا أن ممارسة التفكير ليست في امتلاك المعرفة بل في النظر في المشاكل، لأنه لا شيء أكثر نجاعة من الغوص في المشكلات من أجل أن نكون قادرين على ابتكار حلولنا الخاصة بدلا من تكرار الحلول التي يفرضها الآخرون.
التعليم يأخذنا بعيدا عن أنفسنا
والمأساة هي أن المرء يصل من خلال تعليم ما إلى نقطة لا يعود فيها راغبا في المشاكل، ومن ثم يجد نفسه محروما من مصدر الفكر ذاته، وهكذا فإن عمل الفلسفة هو إصلاح هذا الخلل، أي “كيف نتعلم من جديد الرغبة في مصلحتنا العامة؟”، بخاصة أن المشكلة في مجتمع أناني ونرجسي تكمن في نسيانه حقيقة نفسه، والنتيجة هي عدم المبالاة بالمشاكل الحقيقية، والانسياق بسهولة وراء المشكلات الخاطئة التي يفرضها يوميا تجار التنويم وأصحاب الإعلانات ووسائل الإعلام.
وبطريقة ما -يقول الفيلسوف- تتولى مؤسسات المنع مسؤولية التعليم القائم على الحلول فقط، سواء جاء هذا التعليم من الوالدين أو المدرسة أو وسائل الإعلام أو أي سلطة، في كل مرحلة من مراحل الحياة، فهو يبعدنا عن أنفسنا ويحرمنا من حريتنا في التفكير بالقدر الذي يجعلنا غير راغبين في التفكير بالمشاكل، وعليه: كيف يمكن تشكيل هيئة سياسية من أولئك الذين لا يرغبون في طرح الأسئلة؟
غالبًا ما نعتقد أن التفكير يؤكد شيئًا ما عن العالم: “أعتقد أن الله موجود”، “أعتقد أننا بحاجة إلى مزيد من المساواة”. لكن هذه الجمل لا يُفكّر فيها، فهي تكرار لكلمات شاهدة تُسمع في أفواه الناس الذين نقدرهم، والخلط بين الفكر والحلول من أعراض الانقياد، وهو نتاج تربية تقوم على الطاعة.
الفلسفة هدامة
والحل -حسب شاربونييه- يكون دائما ثانويا، بعد المشكلة، لأنه لا يمكن التفكير بالوكالة، ولذلك لا يمكن أن يولد الفكر إلا من خلال مشكلة بعد اختبارها، ثم حل يصدر عن تجربة الفرد، وهذا هو معنى الصيغة التي قدمها ستانلي كافيل، قائلا إن “الفلسفة عبارة عن إعادة تعليم للبالغين”، فهي تعلمنا إعادة التفكير في كل ما أُملي علينا وقبلناه من دون أن نمنح أنفسنا الوقت لتجاوز المشاكل التي نتجت عنها.
ومن وجهة النظر هذه، تكون الفلسفة بالضرورة بادرة تخريبية، ويتضح ذلك إذا أخذنا القضية البيئية، إذ قامت الأجيال السابقة بطرح المشكلة طرحا سيئا جدا، “كيف يمكن أن يكون لدينا جميعا أسلوب حياة استهلاكي متساو؟”، و”كيف نستغل الطبيعة من أجل عدم استغلال البشر؟”، ومن ثم جاءت الحلول البيئية سيئة لأن المشاكل مطروحة على نحو سيئ.
الجرأة في طرح الأسئلة
يرى شاربونييه أن هذه اللفتة الفلسفية لإزاحة المشاكل هي المقاومة الحقيقية بامتياز، والدليل أن السلطة لا ترغب باستجوابها بحرية، وأنها تسخر من السذّج الذين لديهم جرأة في طرح الأسئلة الغريبة التي ترغب الفطرة السليمة في تجاهلها، فمثلا “ألا ينبغي منع جميع أشكال الاستغلال في الطبيعة؟ فالمرأة والعمال مجرد أوجه مختلفة من ميزان القوى الرأسمالي نفسه”، “ألا يجب أن ندافع عن التحرر السياسي من خلال إعادة تعريف العمل من قبل العمال أنفسهم بدلا من زيادة القوة الشرائية لدى المستهلكين؟”.
وختم الكاتب بأن هذه المشاكل تُمنع وتُحجب، وأن الطيّعين والمتعبين يخافون منها ويريدون إسكات أولئك الذين يعدّونها ملحّة وضرورية، لأنهم يعرفون أن الحيوية الديمقراطية ستجد فيها مادة ربما لتغيير عالمنا.