الملصق الترويجي لفيلم "حيوات سابقة" (الجزيرة)

الملصق الترويجي لفيلم "حيوات سابقة" (الجزيرة)

فتح فيلم “طفيلي” (Parasite) الكوري الجنوبي الباب أمام الأفلام ذات اللغات غير الإنجليزية للوصول إلى قاعدة أوسع من الجمهور حول العالم، كما أتاح الفرصة للحصول على جوائز بفوزه غير المسبوق بجائزة أوسكار أفضل فيلم في حفل عام 2020، ويأتي فيلم “حيوات سابقة” (Past Lives)، ليدلف من الباب ذاته، برحلته التي بدأها بمهرجان “صندانس” السينمائي، وينهيها بترشحين للأوسكار، بالإضافة إلى إيرادات قاربت 3 أضعاف ميزانيته.

أخرجت “حيوات سابقة” المخرجة سيلين سونغ في أولى تجاربها السينمائية الطويلة، ومن بطولة غريتا لي، وتيو يو، وجون ماغرو، ورشح لأوسكار أفضل فيلم وأفضل سيناريو.

 

رحلة حب عابرة للزمان والمكان

يتنقل فيلم “حيوات سابقة” بسلاسة في الزمان والمكان، فيبدأ في كوريا الجنوبية والبطلة تغادر مرحلة الطفولة، ثم ينتقل في شبابها إلى كندا، ثم يختتم وهي في الثلاثينيات بنيويورك.

خلال هذه الرحلة، نتتبع قصة “نورا” الفتاة الكورية التي يهاجر والداها بحثا عن فرص أفضل في أميركا الشمالية لابنتيهما، فتترك خلفها مجتمعها بثقافته الخاصة واسمها الكوري وصديقها المقرب وحبها الأول، لتبدأ حياة جديدة تتناسب مع ذكائها وقدراتها وصفاتها التنافسية.

تبدأ “نورا” في العشرينيات مرحلة جديدة بانتقالها وحدها إلى الولايات المتحدة، وفي ذلك الوقت تستعيد علاقتها مع هاي سونغ في ظل انتشار الإنترنت، ولكن بشكل جديد، تمثل في صداقة مغلفة بالرومانسية وتعوقها المسافات الطويلة وفروق التوقيت، والأهم طموح كل منهما المختلف، فبينما تتجه “نورا” بعزيمة إلى الغرب سعيا وراء طموحها بوصفها كاتبة، ينظر هاي سونغ إلى الشرق ويطمح لزيارة الصين.

تيو يو وجون ماغارو وجريتا لي في مشهد من الفيلم (آي ام دي بي)
تيو يو (يمين) وجون ماغارو وغريتا لي في مشهد من الفيلم (آي إم دي بي)

تؤسس “نورا” لنفسها حياة ناجحة في الولايات المتحدة، حياة يعتبرها أي مهاجر آخر مثالية، زوج أميركي لطيف ومُحب ومهنة مرموقة، حتى تأتيها رسالة من الماضي تجعلها تستعيد كل ما ظنت أنها نسيته بالفعل، وذلك بزيارة هاي سونغ لنيويورك والتي تمثلت أهم محطاتها في لقائه معها لاستعادة صداقة الطفولة.

يبدو الفيلم لأول وهلة تجربة هوليودية جديدة حول مثلث زوجة تستعيد حب طفولتها وتهرب معه من زيجة فاشلة، ولكنه يكشف عن تعقيد أكبر، فليست لدينا هنا زوجة خائنة، أو حبيب قديم يحاول استمالتها أو زوج معنف يسهل تقبل المتفرج للفرار منه، بل يقدم لنا 3 شخصيات حائرة في لحظة فارقة من حياة كل منها، وتحاول القيام بأفضل رد فعل ممكن في ظل هذا الموقف المعقد.

البطلة الحائرة بين الماضي والحاضر

فيلم “حيوات سابقة” ليس فيلما رومانسيا على الرغم من مركزية قصص الحب به، بل بشكل أساسي هو فيلم حول هوية المهاجرين التي تجعلهم منقسمين على ذواتهم مهما حاولوا الهرب والاندماج في المجتمع الجديد، بطلة الفيلم “نورا” هاجرت وهي طفلة، ولم تترك خلفها صديقا مقربا فقط، بل نسخة أخرى من ذاتها، وعندما قابلت هاي سونغ في نيويورك، المدينة التي تعيش فيها بالوقت الحالي واجهت هذه النسخة مرة أخرى، مما جعلها تطرح كثيرا من الأسئلة عما كان يمكن أن يحدث لو لم يقرر والداها الهجرة بها.

يتمثل أهم مشاهد الفيلم في اللقاء الذي يجمع بين “نورا” وزوجها وهاي سونغ، وبطبيعة الحال لا يعرف كل منهما لغة الآخر، فتأخذ هي دور المترجم في حوار مضطرب متقطع مليء بالقلق، ويكشف هذا المشهد ليس فقط عن الحيرة التي تعانيها البطلة بين زوجها المستقر والحب القديم المستيقظ، بل الحيرة الأهم بين جانبيها من الناحية الثقافية والنفسية.

هاجرت “نورا” وهي في الـ12 من عمرها، وتأتي هذه اللحظة الفاصلة وهي في الثلاثينيات، أي عاشت نصف عمرها كورية ونصفه الآخر وقد أسلمت عقلها ونفسها للثقافة الغربية، وبإحدى اللقطات، تنظر في مرآة المقهى، فترى نسخا مختلفة منها، وتعرف أن الآن عليها اختيار النسخة التي ستبقى معها، وتتحمل نتائج هذا الاختيار أيا كانت.

هرب من هوليود وإليها

حاولت مخرجة “حيوات سابقة” الهرب من التأثيرات الهوليودية في فيلمها، وجعله أقرب إلى فيلم كوري جنوبي بسيط، فكتبت السيناريو بكل من اللغتين الكورية والإنجليزية على التوازي للإفصاح عن الحيرة الثقافية التي تعانيها البطلة، ولم تستخدم مؤثرات بصرية، أو أماكن تصوير مميزة، فأغلب المشاهد مصورة في أماكنها الطبيعية مع الحدود الدنيا من الناحية الفنية، بالطبع للميزانية المحدودة تأثير على هذه الخيارات الفنية، ولكن نهاية الفيلم خير مثال على نجاح المخرجة في الفكاك من الخاتمة الأميركية المتوقعة، فلم تجنح لخاتمة شديدة العاطفية أو الميلودرامية.

على الجانب الآخر، رغم هربها من الصبغة الهوليودية الفنية، فلم تهرب منها أيديولوجيا، خصوصا فكرة الحلم الأميركي المسيطرة على والدي البطلة والبطلة نفسها وحتى هاي سونغ وتتمثل في أن شابة بإمكانيات وقدرات “نورا” لا يليق بها سوى العيش في الولايات المتحدة، لتحقيق أحلامها التي لا يمكن تحقيقها في كوريا الجنوبية.

وبينما تحتار البطلة بين الحنين لحبها القديم، فإنها توقن بأن مستقبلها يتمثل في بقائها بالولايات المتحدة، لتتحول المفاضلة الرومانسية والثقافية إلى منطق براغماتي ونفعي بحت يمثل كل ما تحمله الرأسمالية الأميركية من قيم.

سيلين سونغ وجريتا لي في مشهد فاصل حول الانتماء لثقافتين(آي ام دي بي)
سيلين سونغ (يسار) وغريتا لي في مشهد فاصل حول الانتماء لثقافتين (آي إم دي بي)

تميل المخرجة للثقافة الغربية، وتثبت مقارنة “حيوات سابقة” بفيلم “الباندا الأحمر الكبير” (Turning Red) ذلك، والأخير من إخراج دومي شي الكندية ذات الأصول الآسيوية، ويتناول قصة مراهقة حائرة بين إرثها ثقافي الآسيوي وميولها التحريرية نتيجة للثقافة الغربية التي تربت فيها، وتقرر في النهاية الوصول إلى نقطة توازن بين الجانبين، ويحمل العمل احتفاء بأصول البطلة على الرغم من كونها الجيل الثالث لعائلة من المهاجرين الآسيويين، بينما ينظر فيلم “حيوات سابقة” للولايات المتحدة كأنها الملاذ الوحيد لأي شخص ذي موهبة.

فيلم “حيوات سابقة” عمل أول يستحق الاحتفاء بالتأكيد، تناول برقة الأزمة الثقافية والحياتية التي تعانيها مهاجرة كورية، وما يميزه بالفعل كونه نابعا عن خبرة حقيقية عايشتها المخرجة وطاقم الفيلم، والرقة التي تناول عبرها الشخصيات، ولكن غلبت عليه في النهاية أيديولوجية الحلم الأميركي التي يجب أن تغيب عنها الشمس.

المصدر : الجزيرة

About Post Author