كتّاب “إلبوم”.. كيف أعاد روائيو أميركا الجنوبية الكبار تشكيل سوق الأدب الروائي العالمي؟
في ستينيات وسبعينيات القرن الـ20 شكل مجموعة من أدباء أميركا اللاتينية نقلة نوعية في الإبداع الروائي عندما أطلقوا العنان للجنون والخيال الأدبي ليكتبوا روائع “الواقعية السحرية” التي تحدت قواعد الكتابة التقليدية وحازت شهرة عالمية بفضل الترجمة والرحلات والمنافي.
من كولومبيا غابرييل غارسيا ماركيز إلى بيرو حيث ماريو فارغاس يوسا، والأرجنتين جوليو كورتازار، والمكسيك كارلوس فوينتيس، والبرازيل خورخي أمادو، وتشيلي خوسيه دونوسو كان للحركة تأثير عميق وبعيد المدى، خلقت تاريخا وهوية قارية (لاتينية) مشتركة، ولفتت الانتباه العالمي إلى الموضوعات العاجلة التي تؤثر على شعوب القارة، بما في ذلك القمع العسكري والقهر الاجتماعي واليأس الاقتصادي.
ألهمت تلك “الطفرة الأدبية” -التي عرفت باسم “إلبوم” (El boom)- حالة ثقافية جارفة وأثرت على الأفلام والمسرح والموسيقى والفولكلور، باختصار جعلت من أدب أميركا اللاتينية منتجا حيا وقابلا للتسويق في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأفريقيا والولايات المتحدة، مما جعل شعوب القارة اللاتينية مرئية للعالم بفضل أدب لم يكن معروفا خارج حدود بلدانه، قبل أن يتحول إلى أهم الصادرات الثقافية.
ولفهم تلك الطفرة كتب إيلان ستافانز أستاذ العلوم الإنسانية وثقافة أميركا اللاتينية واللاتينية بكلية أمهرست بولاية ماساشوستس الأميركية، معتبرا أنه لفهم هذا التحول الجذري من الضروري أن تكون لديك صورة لثقافة أميركا اللاتينية قبل الستينيات.
ويعتبر ستافانز -في مقاله بمنصة لوس أنجلوس لعرض الكتب (lareviewofbooks)- أنه بعد حروب الاستقلال التي تفشت في القرن الـ19 سعت البلدان المستقلة حديثا -من الأرجنتين إلى المكسيك- إلى تحديد هوياتها الوطنية من خلال التأكيد على أساطير السكان الأصليين، ولكن من الواضح أن ما فهموه من قبل (السكان الأصليون) كان مفتوحا للنقاش.
تحولات ما بعد الحربين
في الخمسينيات من القرن الماضي حدث شيء مثير على المسرح العالمي، وسمح للكتاب من مختلف أنحاء أميركا اللاتينية بتحويل أنفسهم إلى مشاهير عالميين.
بعد الحرب العالمية الثانية بدا أن الرواية الأوروبية وصلت إلى طريق مسدود استنزفت فظائع ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي القارة العجوز، وفجأة بدا أن الخيال السائد لم يعد يدعو الجمهور إلى الفرار من الواقع أو الحلم بالعوالم الأخرى، بل يشعر قارئه بالاختناق والحصار.
عندها ظهر ما يسمى العالم الثالث كبديل خصب، من أفريقيا إلى منطقة البحر الكاريبي، ومن آسيا إلى أميركا اللاتينية، وقدمت الروايات الجديدة آفاقا مختلفة.
هذه هي الدوامة التي خرج منها طفرة أدباء أميركا اللاتينية، ولا يمكن وصفها حقا بأنها جيل معين، فقد ولد أعضاؤها على مدى أكثر من عقدين، بين عامي 1914 و1936، وإلى حد ما لا ينبغي وصفها بأنها ظاهرة لاتينية أصلية تماما أيضا، لأنها تبلورت أيضا في برشلونة بمكاتب الوكيلة الأدبية كارمن بالثيس التي كانت وكيلة نشر للعديد من الأدباء، بينهم 6 من الفائزين بجائزة نوبل للآداب.
أدركت بالثيس ذكاء الموهبة الفنية للكتاب اللامعين، ونسقت إصدار كتبهم من خلال ناشرين إسبان حريصين على إيجاد جماهير جديدة على جوانب المحيط الأطلسي، مما طرح سؤالا مثيرا حول ماهية ثقافة أميركا اللاتينية بالضبط، وهل يمكن أن تكون طفرة “إلبوم” هي المظهر الأدبي للحلم السياسي المدهش للمناضل التحرري اللاتيني سيمون بوليفار بقارة أميركية جنوبية موحدة.
تأثير السياسة
كان كتّاب “إلبوم” -ومعظمهم من الطبقتين المتوسطة والعليا- في ذلك الوقت يميلون إلى اليسار في رؤاهم السياسية.
قبل جيلين من الزمن تم دفع المثقفين في أميركا اللاتينية لإبداء وجهات نظرهم كرد فعل على الحرب الإسبانية الأميركية عام 1898 وظهور الولايات المتحدة كقوة عالمية انتقدت شخصيات مثل شاعر نيكاراغوا و”أمير الأدب الإسباني” داريو، والشاعر المناضل خوسيه مارتي علانية “الإمبراطورية” واستهدفوا أولا إسبانيا ثم الولايات المتحدة.
وإلى حد كبير اتخذ خلفاؤهم الموقف نفسه، قاتلوا من أجل تقرير المصير لشعوبهم وضد التدخل الأجنبي، وعبروا عن آرائهم في عدد لا يحصى من البيانات والمقابلات والحضور الإعلامي.
في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كانت معظم دول المنطقة تخضع لأنظمة دكتاتورية، وهو نموذج بقي إلى حد كبير كما هو حتى الثمانينيات، وغالبا ما فرضت هذه الأنظمة آليات رقابة صارمة، وكانت الرقابة بالطبع دعاية جيدة أيضا، فما كان ممنوعا أصبح مغريا على الفور، ومن المفارقات أن التوجهات اليسارية للمؤلفين ساهمت في نجاحهم في السوق الرأسمالية خارج أميركا اللاتينية.
وحكمت الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وباراغواي وبيرو بأنظمة عسكرية في الستينيات والسبعينيات، لكن الأدب ازدهر رغم ذلك.
نجحت 100 عام من العزلة (1967) لغابرييل غارسيا ماركيز في تناول تاريخ أميركا اللاتينية بأكمله كموضوع لرواية، لتتحول بطريقة تشبه الحلم إلى قصة عائلة واحدة.
كان غارسيا ماركيز صحفيا غير معروف نسبيا في المنفى في أوروبا بسبب مواجهته مع النظام الدكتاتوري في كولومبيا، وأصبح كتابه -الذي نُشر أيضا في بوينس آيرس- من أكثر الكتب مبيعا، وظهر وجه المؤلف على أغلفة المجلات في جميع أنحاء القارة.
ظهر مصطلح “الواقعية السحرية” في ذلك الوقت، حيث كانت السريالية هي الأسلوب الأدبي المألوف في الدوائر الفرنسية، وقد جعلت “غرابة” جغرافيا أميركا اللاتينية وخطورة تجارب شعبها من المستحيل تقريبا على أي مراقب فصل الخيال عن الواقع، وتجاور الخيال الفانتازي والأساطير مع الأنشطة اليومية والعادية، وبعد نجاح 100 عام من العزلة أصبحت الواقعية السحرية في رأي النقاد في أوروبا والولايات المتحدة مكونا أساسيا لا غنى عنه لثقافة أميركا اللاتينية.
الترجمة
العامل الحاسم الآخر الذي مكّن “إلبوم” كان الترجمة، وغالبا ما قال غارسيا ماركيز إنه لكي تتم الإشادة بالكاتب الكولومبي في بوغوتا (عاصمة كولومبيا) يجب قراءته أولا في نيويورك.
في الواقع، بفضل الترجمة -كما قال الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث ذات مرة- “تمت دعوة الأميركيين اللاتينيين إلى مأدبة الحضارة الغربية”.
كان حامل الشعلة من بين المترجمين إلى اللغة الإنجليزية هو غريغوري راباسا، وهو أميركي من أصل برتغالي، وسرعان ما انضم إليه فريق من المترجمين جمعه ناشرون أميركيون تواقون للاستفادة من طفرة الأدباء اللاتينيين.
وكان لا بد لنجاح الترجمة أن يؤثر على عمل المؤلفين، فعندما يعرف الكاتب أن أعماله ستترجم تلقائيا إلى لغات أخرى -وربما تظهر بإحدى تلك اللغات الأخرى قبل نشر النص الأصلي- لا يعود القارئ المستهدف مواطنا أرجنتينيا أو كولومبيا، بل مواطنا عالميا.
دفعت الترجمة أبناء عصر الازدهار إلى التفكير في أنفسهم بمصطلحات أقل ضيقا وطموحا، وأثر كذلك على الإخراج الفني للكتب وصناعة النشر.