كيف تجد روسيا وأوكرانيا طرقا جديدة لاستخدام التكنولوجيا في المعركة وخارجها؟
على مر التاريخ، كان للتقنيات الجديدة المستخدمة في المعارك والحروب دور محوري في حسم النتائج على أرض الميدان.
مثلا كان لاستخدام الهكسوس العربات التي تجرها الخيول دور أساسي في هزيمتهم للجيش المصري والاستيلاء على البلاد، كما كان لاستخدام السلطان محمد الفاتح المدافع وبالذات مدافع الهاون الضخمة التي استخدمت لأول مرة في التاريخ دور حاسم في معركة القسطنطينية، وسقوط المدينة بيد العثمانيين ونهاية الإمبراطورية البيزنطية.
وجاء انتصار الملك الإنجليزي هنري الخامس على الفرنسيين في “معركة أجينكور” (Battle of Agincourt ) عام 1415 بفضل رماة الأسهم وأقواسهم الطويلة المدى التي تم تطويرها حديثا، حيث أمطروا الفرنسيين بوابل من الأسهم من مدى بعيد لم يستطع الفرنسيون مجاراتها لينكفئوا مهزومين.
تكنولوجيا متطورة داخل ميدان المعركة
وفي الحقيقة فإن الأمثلة كثيرة جدا في التاريخ حول تطويع التكنولوجيا وتطويرها لاستخدامها في ميدان المعركة، والحرب الروسية الأوكرانية ليست استثناء من هذه القاعدة، حيث يستخدم الطرفان المتصارعان آخر وأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا في هذه الحرب الدموية.
فمن طائرات الدرون الموجهة إلى صائدات الدبابات التي تستخدم خوارزميات متطورة لملاحقة وتدمير أهدافها، إلى الصواريخ عالية الدقة التي تطلق من مسافات طويلة وتستخدمها القوات الروسية لتدمير خطوط إمداد العدو، إلى الطابعات ثلاثية الأبعاد التي تستخدمها القوات الأوكرانية لإضافة زعانف الذيل للقنابل اليدوية المضادة للدبابات التي تعود إلى الحقبة السوفياتية. ونتيجة لذلك، يمكن لقنبلة يدوية بقيمة 100 دولار تدمير المركبات الروسية التي تكلف ملايين الدولارات.
كل هذا وأكثر من التقنيات الحديثة والمتطورة يستخدمها الجيشان المتحاربان في أرض المعركة، ولا يتوقف الأمر على الميدان بل يتعداه إلى خارج ساحة الوغى، حيث يتم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والأقمار والذكاء الاصطناعي بكثافة في هذه الحرب من قبل كلا الطرفين.
تقنيات متطورة خارج الميدان
وفي الحقيقة، كانت إحدى المفاجآت التي حظيت بالترحيب في غزو بوتين أوكرانيا هي السرعة والفعالية الظاهرة لفرض الحكومات الغربية للعقوبات على روسيا. فخلال وقت قصير، تم تجميد نصف الاحتياطيات الأجنبية لموسكو البالغة 600 مليار دولار والمحتفظ بها في المؤسسات المالية الغربية، وتم طرد الدولة من شبكة “سويفت” (Swift ) وهي تقنية الرسائل الواسعة التي تستخدمها البنوك لتحويل الأموال في جميع أنحاء العالم.
كما توقفت الخدمات التي تقدمها شركات “بي بال” (PayPal) و”فيزا” (Visa) و”ماستر كارد” (Mastercard) فجأة عن العمل في روسيا، وكان هناك حظر فوري على نقل التكنولوجيا من الغرب، إضافة إلى عقوبات مفاجئة على الأوليغارشية الصديقة لبوتين وأولئك الذين يخدمونهم في العواصم الغربية، وذلك وفق ما ذكر البروفيسور جون نوتن أستاذ علوم التكنولوجيا وصاحب كتاب “من غوتنبيرغ إلى زوكربيرغ: ما تحتاج لمعرفته حول الإنترنت” في مقالة له نشرتها صحيفة غارديان البريطانية مؤخرا، تناول فيها بعض التقنيات المستخدمة في هذه الحرب خارج ميدان المعركة.
ويؤكد الكاتب أنه ونتيجة لهذه العقوبات أخذت روسيا تواجه المشاكل في كل مكان، صحيح أنها استطاعت تحقيق بعض النجاحات هنا أو هناك، ولكنها كانت نجاحات ناقصة بل وحتى سامة في كثير من الأحيان. مثلا، نجحت القوات الروسية في الاستيلاء على جرارات “جون ديري” (John Deere) المتطورة في أوكرانيا، وأخذت بشحنها إلى موسكو، ولكن عندما حاول المستفيدون المحظوظون تشغيل هذه الآلات الرائعة اكتشفوا المفاجأة وهي أن الشركة الصانعة قامت بتعطيلها عن بعد، وحولتها إلى مجرد أطنان من الحديد لا فائدة منها.
وربما كان هذا هو سبب كره العديد من المزارعين الغربيين جرارات جون ديري، وذلك لأنهم بعد أن دفعوا ثروة من أجل جراراتهم الجديدة، وجدوا أنه لا يُسمح لهم بإصلاحها بأنفسهم إذا ما أصابها خلل ما، وأي محاولة لتنزيل برنامج “بوتليغ” (bootleg) المخصص لتشخيص الأعطال بهذه الآلات سيقعون في مشاكل قانونية على أسس حماية حقوق الملكية الفكرية، واتفاقية المستخدم المبرمة مع الشركة الصانعة التي يجب أن تتم الصيانة والتصليح عن طريقها فقط.
ويشير الكاتب إلى أن أوكرانيا استخدمت تقنية سامة أخرى، وهي “التعرف على الوجه” لتحديد هوية الجنود الروس القتلى، وينقل عن “مجلة فوربس” قولها في مارس/آذار الماضي إن ميخايلو فيدوروف، نائب رئيس الوزراء الأوكراني ووزير التحول الرقمي، أكد على قناته على منصة “تليغرام” (Telegram) أن بلاده كانت تستخدم هذه التكنولوجيا للعثور على حسابات وسائل التواصل للجنود الروس المتوفين، مما يسمح للسلطات الأوكرانية بالاتصال بعائلاتهم وأصدقائهم، وإخبارهم عن موتهم في ساحة المعركة.
وقال هذا المسؤول الأوكراني إن الهدف هو تبديد المعلومات المضللة المحيطة بالحرب في البلاد، وتحديدا المزاعم الروسية بأنها مجرد عملية خاصة مع خسائر قليلة، ولم يحدد أي تقنية معينة تم استخدامها، لكن وزارته أكدت لاحقا أنها كانت تستخدم الذكاء الاصطناعي وتحديدا تقنية تنتجها شركة “كليرفيو إيه إل” (Clearview AI) الأميركية التي قدمتها إلى الحكومة الأوكرانية مجانا.
وفي الحقيقة فإن هذه التكنولوجيا المتطورة التي تنتجها “كليرفيو إيه إل” والتي يدعمها “بيتر ثيل” المؤسس المشارك بشركة “بي بال” أثارت الكثير من الجدل بالولايات المتحدة، وأصدرت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ في فبراير/شباط الماضي دعوة إلى الوكالات الفدرالية لتجنب استخدام تقنيتها “الخطيرة بشكل خاص” والتي “تشكل تهديدات فريدة للمجتمعات السوداء والمجتمعات الأخرى الملونة ومجتمعات المهاجرين”.
“بلوك تشين” التقنية الأكثر أهمية ووسيلة روسيا للتهرب من العقوبات
هذه بعض التقنيات المستخدمة خارج الميدان، ولكن ربما كانت التقنية الأهم، وقد أصبحت في أذهان الجميع مؤخرا فيما يتعلق بالعقوبات على روسيا، كما يشير الكاتب لتقنية “بلوك تشين” (blockchain) وهي التكنولوجيا التي تدعم العملات المشفرة مثل البيتكوين والإيثيريوم، حيث كانت هذه العملات تتكاثر كالنار في الهشيم خلال السنوات الماضية، ووصل عددها إلى أكثر من 11 ألف عملة رقمية.
وهي جميعا تشترك في جوهرها بشيء واحد وهو أنها أنظمة دفع لامركزية يستطيع أي شخص في العالم من خلالها تحويل الأموال إلى أي شخص في أي مكان آخر، ونظرا لأن كل جزء من العملية مشفر بشكل كبير وغير خاضع للإشراف من قبل أي مؤسسة موثوقة مثل البنك المركزي، فمن الواضح أن العملات المشفرة مفيدة جدا لغسل الأموال وللتهرب من العقوبات.
ويبدو أن روسيا بلد خبير بالتشفير حيث يقدر تقرير حكومي رسمي الحيازات من العملات المشفرة بـ 200 مليار دولار، وهو ما يمثل، حوالي 12% من الإجمالي العالمي لهذه العملات.
وخلص تقرير آخر، أجرته بوابة تشفير مقرها سنغافورة، إلى أن 17 مليون روسي يمتلكون عملات مشفرة، وأن أكثر من نصف مليون مبرمج حاسوب روسي يعملون بهذه الصناعة، وتحتل روسيا حاليا المرتبة الثالثة من حيث نشاط تعدين عملة البيتكوين، ويتم هذا بدعم من الحكومة حيث كان الرئيس فلاديمير بوتين نفسه قد دعا إلى استخدام فائض الطاقة في تعدين العملات المشفرة، كما ذكر الكاتب في مقالته.
ويبدو واضحا أن للنظام الروسي إستراتيجية خاصة لاستخدام العملات المشفرة كوسيلة للتهرب من العقوبات أو تقويضها أو على الأقل الحد من تأثيرها، كما أن هذه العملات ستكون خيارا عمليا أيضا للأفراد الروس الذين يسعون إلى حماية مدخراتهم أو التجارة مع الآخرين خارج البلاد.
وبالنسبة لاقتصاد ضخم بحجم الاقتصاد الروسي، فإن المعاملات المشفرة بالحجم المطلوب لتعويض تأثير العقوبات ستكون أكبر من أن تكون خافية على الحكومات الغربية، ولهذا السبب، وربما لأول مرة في التاريخ، لا يوجد حل تقني للمشكلة التي خلفها بوتين لبلاده وللعالم.
وأخيرا، وكما عودنا التاريخ دائما، فإن من يستخدم تقنيات وتكنولوجيا أكثر تطورا هو الذي سيحسم الحرب وينتصر. ولكن، وفي ظل التطور التقني الهائل والإمكانيات التكنولوجية المتطورة التي يملكها الطرفان فإن النصر سيكون بطعم الخسارة المُرّة هذه المَرّة، وكما قال أبراهام لينكولن “ليست هناك طريقة مشرفة للقتل، ولا طرق لطيفة للتدمير، ولا يوجد خير في الحروب إلا نهايتها”.