نتذكر الأحداث الصعبة والمؤلمة في حياتنا بتفاصيلها، ويسهل إعادة تذكرها إذا مررنا بشيء يتعلق بها، ونسترجع المشاعر السلبية التي ارتبطت بهذه الأحداث رغم محاولاتنا نسيان هذا الألم.
وفي المقابل، لا تثبت باقي ذكرياتنا بهذه الطريقة، سواء أحداث محايدة: فقد تحتاج بعض الوقت لتذكر ما تناولته في وجبة الإفطار اليوم، أو أحداث سعيدة عشناها ونرغب بشدة في حفرها في ذاكرتنا.
فإذا لاحظت ذلك في نفسك، فلا تقلق، أنت لست شخصا سلبيا أو محبا للألم، إذ يرجع ثبات الذكريات السلبية لعدة أسباب توصلت إليها الدراسات وفسرها الاختصاصيون النفسيون، وننقلها لك:
نشاط دماغي
في دراسة حديثة قام بها الباحثون في جامعة الرور الألمانية ونشرتها مجلة “كارنت بيولوجي” (Current Biology) العلمية، شارك بها 64 شخصا، وطُلب منهم المشاركة في مقابلة عمل وهمية أمام مديري التوظيف.
وقُسم المشاركون على مجموعتين: مجموعة كانت مقابلتهم ضاغطة حيث تعامل معهم المحاورون بشكل صارم، والمجموعة الأخرى كانت مقابلتهم ودية. وخلال المقابلات، استخدم المحاورون بعض الأشياء العشوائية، منها عبوة قطرات السعال، إبريق شاي، دباسة.
واليوم التالي، خضع المشاركون لفحوصات واختبارات لمدى تذكرهم للأشياء العشوائية التي استخدمها المحاورون، وأظهرت النتائج أن من شاركوا في المقابلة الضاغطة لديهم ذاكرة أقوى وتذكروا الأشياء أكثر من الآخرين في مجموعة المقابلة الودية.
وتفسر المعالجة النفسية جوني سويت، المتخصصة في علاج القلق والصدمات، نتائج الدراسة، قائلة إن الذكريات السيئة تثبت بشكل أقوى حيث تنشط خلال المواقف الضاغطة مناطق أكثر من الدماغ، وأظهرت الفحوصات أن استدعاء الموقف الضاغط بعد انتهائه أدى إلى تنشيط منطقتي “الحصين” (Hippocampus) و”اللوزة” (Amygdala)” وهما في الدماغ تتحكمان في الوصول إلى الذكريات وتعديل المشاعر.
غريزة البقاء
وبجانب الدراسة، أشارت لورا كارستنسن أستاذة علم النفس في جامعة ستانفورد -لصحيفة “واشنطن بوست” (The Washington Post) الأميركية- إلى أننا نميل إلى ملاحظة السلبيات أكثر من الإيجابيات بشكل عام.
وفسرت أستاذة علم النفس أن هذا له جذور تطورية لبقاء الإنسان على قيد الحياة “فمن المهم أن تلاحظ الأسد الذي يمكن أن يهاجمك، أكثر من أهمية أن تلاحظ الزهرة الجميلة التي تنمو على الجانب الآخر من الطريق”.
وعي زائد
أحد التفسيرات المحتملة أيضا يتعلق بالاستجابات الأولية للدماغ عند التعرض لحدث مخيف أو صعب، حيث تُفرز هرمونات مختلفة في الجسم للاستجابة للمواقف الصعبة، ومنها الأدرينالين الذي يزيد مستوى وعينا.
ومع زيادة الوعي، يزيد انتباهنا وتثبت الذكريات بشكل أقوى ونتذكر التفاصيل بشكل أوضح ويصعب نسيانها بسهولة.
تفكير أعمق
يقول كليفورد ناس، أستاذ الاتصال بجامعة ستانفورد لصحيفة “نيويورك تايمز” (nytimes) الأميركية “بشكل عام تستحوذ المشاعر السلبية على مساحة أكبر من تفكيرنا، وتتم معالجة المعلومات الناتجة عنها بشكل أكثر عمقا من المشاعر الإيجابية. وبالتالي، يسهل اجترار الأحداث غير السارة، ونستخدم كلمات أقوى لوصفها أكثر من الأحداث السعيدة”.
تأثير أكبر
روي بوميستر، أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة ولاية فلوريدا، يذكر -في مقال له نقلته “نيويورك تايمز“- أنه بجانب ثبات الذكريات المؤلمة بشكل أقوى، لدى السلبيات تأثير أكبر بكثير من الإيجابيات.
ويشير إلى تجربة ربح جزء من المشاركين فيها مبلغا من المال وخسر الجزء الآخر مبلغا مماثلا، وقد عبَّر المشاركون الذين خسروا المال عن ضيقهم بشكل أكبر من تعبير الذين ربحوا عن سعادتهم.
ولفهم ذلك، تخيل أنك خسرت 100 دولار مرة، وربحت نفس المبلغ مرة أخرى، وفكر كيف ستكون استجابتك في الحالتين.
مشاعر مخزنة
عندما تبقى بعض الذكريات المتعلقة بأحداث صعبة، دون التعامل مع المشاعر السلبية الناتجة عنها، يسهل إثارة هذه الذكريات واسترجاعها مع مشاعرها المؤلمة، لأن الخبرة ومشاعرها تركت معلقة دون أن تحل.
خبرات تعليمية
تثبت الذكريات المتعلقة بالمواقف المؤلمة حتى نكون أكثر يقظة عند التعرض لمواقف مشابهة، ونتمكن من تجنبها وحماية أنفسنا من اختبار هذه المشاعر السلبية مرة أخرى.
وتعود كارستنسن لتقول “إحدى المدارس الفكرية تعتقد أن اهتمامنا بالأحداث السلبية له دور كبير في مساعدتنا على التكيف، فهناك الكثير من المعلومات التي يجب أن نتعلمها في المواقف الصعبة أو الخطيرة، حتى نستخدم هذه المعلومات عندما تظهر حالة مماثلة في المستقبل”.
المرحلة العمرية
وهناك أيضا عامل العمر، وترى كارستنسن أن “أصعب وقت في حياة الفرد من الناحية العاطفية هو فترة العشرينيات والثلاثينيات، إذ يكون الانتباه إلى الذكريات السلبية أكثر وضوحا بين الشباب”.
وفسرت أستاذة علم النفس السبب المحتمل وراء ذلك بأن “الشباب لديهم مستقبل طويل وغامض أمامهم، فهم في حاجة أكبر إلى جمع الكثير من المعلومات وحفظها حتى تساعدهم في التعامل مع هذا المستقبل، وكلما تقدم الناس في السن زادت قدرتهم على العيش في الحاضر، والتركيز على الجوانب الإيجابية به”.
فإذا كنت تبلغ من العمر 20 أو 30 عاما، فلا داعي للذعر، فذكرياتنا تتغير وتتطور باستمرار، وكلما تقدمنا في السن نصبح بطبيعة الحال أكثر تركيزا على الإيجابيات.
أخرج مشاعرك المكبوتة
ينصح المختصون بطلب المساعدة والاستعانة بالعلاج النفسي الذي يمكن أن يساعد في إخراج المشاعر المخزنة والتعامل معها، ويكون لذلك تأثير طويل الأمد على الاستجابة العاطفية التي تنتج عند استرجاع هذه الذكريات.
ويمكنك أيضا التعامل مع الذكريات الضاغطة وتنظيم مشاعرك بنفسك، وتقترح ديسرين دادلي، أخصائية علم النفس الإكلينيكي، تدوين مشاعرك في يومياتك، وهو ما يساعد على إخراج المشاعر المخزنة، وإعادة النظر إلى أفكارك المتعلقة بالذكرى وإعادة صياغتها والنظر إلى ما بها من إيجابيات، ووضع خطة للتعامل مع نفسك عند التعرض للأشياء التي تستفز هذه الذكريات.