لماذا لم تنجح برامج صندوق النقد في انتشال اقتصادات الدول العربية من أزماتها؟
انتظمت الدول العربية -على مدار العقدين الماضيين- في علاقاتها مع صندوق النقد الدولي، وحتى تلك الدول التي كانت تمنعها حالة النزاع المسلح من استقبال بعثة صندوق النقد، استطاعت مؤخرا تدبير هذه الاجتماعات في بلدان مجاورة كما حدث مع ليبيا واليمن، وتختلف طبيعة علاقة الدول العربية مع هذا الصندوق الدولي من بلد إلى آخر.
ففي بلدان الخليج والدول النفطية العربية الأخرى، اقتصرت العلاقة على الدعم الفني، وما يعرف بمشاورات المادة الرابعة من لائحة العمل بصندوق النقد، حيث يتم استعراض الأوضاع الاقتصادية ومناقشتها، وبذل النصائح والتوصيات، بينما هناك فريق آخر من الدول العربية، التي تنخرط في برامج تسهيلات مالية، والحصول على قروض، مثل مصر وتونس والمغرب والأردن واليمن وموريتانيا، وغيرها.
وعادة ما تركز برامج صندوق النقد الدولي على معالجة مشكلات تخص الميزانية العامة للدول وما يرتبط بها من قضايا الدعم والديون والعجز، وكذلك ميزان المدفوعات وما يعتريه من عجز مؤثر على العلاقات الاقتصادية الدولية للبلدان، وتأثير هذا العجز على سعر الصرف، واحتياطي النقد الأجنبي.
وبغض النظر عن وجهة نظر الصندوق، وما تجلبه من تداعيات سلبية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، فإنها تفترض أن معالجة الجوانب الخاصة بالسياسات النقدية والمالية من شأنها أن تعيد للاقتصاد حيويته، وتخلصه من مشكلاته.
ولكن للأسف الشديد، فإن تجربة الدول العربية وغيرها من البلدان النامية، لها جوانب كثيرة، يلمح لها صندوق النقد الدولي عبر بياناته، لكنه لا يتشدد فيها مع تلك الدول مثل الفساد والبيروقراطية. وفي الوقت الذي يطالب فيه صندوق النقد بتقليل العمالة بالحكومة والقطاع العام، لا يقترب من مساحات هدر الموارد القليلة، وسوء توظيفها في مشروعات لا تناسب أوضاع الاقتصادات المختلفة.
وثمة ملاحظة مهمة تتعلق بحديث صندوق النقد على قضية استدامة الديون بالدول التي تتعامل معه، وقد نبهت مديرة الصندوق كريستالينا جورجيفا مؤخرا إلى خطوة قضية الدين العام ببعض دول المنطقة العربية، حيث مثلت أكثر من 90% من الناتج المحلي الإجمالي.
ولكن الحديث عن استدامة الديون، بمعنى قدرة الدول على الوفاء بالتزاماتها تجاه ديونها -من أقساط وفوائد- كافٍ لأن تتوسع تلك الدول في الاقتراض، وهو ما يشجع الحكومات غير الرشيدة في التوسع بالمديونية العامة، وحري بصندوق النقد أن يشجع على مساءلة الدول عن تلك الديون وكيفية التصرف فيها، ومدى الشفافية في الحصول على القروض والتصرف فيها.
برامج ممتدة
تجربة الدول العربية مع صندوق النقد الدولي جديرة بالنظر، كون هذه البرامج لا تؤدي إلى انتشال الاقتصادات العربية من مشكلاتها، فمثلا تجارب (الأردن والمغرب وموريتانيا واليمن) هي مجرد برنامج ينتهي يعقبه الدخول في برنامج جديد للحصول على قروض، ولم يمثل هذا مخرجا لهذه الدول من مشكلاتها الاقتصادية.
والمغرب لديه 4 اتفاقيات متعاقبة مع صندوق النقد في إطار ما يعرف بـ “خط الوقاية والسيولة”. وخلال الفترة الماضية تقدمت هذه المملكة بطلب لصندوق النقد الدولي للدخول في برنامج تمويلي آخر تصل قيمته إلى 5 مليارات دولار.
وكذلك الأردن وموريتانيا، فكلا البلدين حصلا على تمويل لسنوات، فلدى الأخيرة برنامج حصلت بموجبه من صندوق النقد على قرابة 85 مليون دولار، كما أن الأردن لديه برنامج يغطي الفترة من 2020-2024، حصل في إطاره على تسهيلات ائتمانية بنحو ملياري دولار.
ويعد ما حدث لمصر وتونس مع صندوق النقد من الحالات المزمنة، حيث تعانيان من أزمات تمويلية عميقة، لم تفلح معهما قروض هذا الصندوق التي حصلا عليها. كما أن الملاحظة الجديرة بالانتباه أن برامج “النقد الدولي” لم تغير إيجابيا من التصنيف التنموي لأي دولة عربية. ويكفي مثلا أن مصر أصبحت ثاني مقترض من هذا الصندوق على مستوى العالم، على الرغم من انتظامها في برامج للإصلاح الاقتصادي منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أي على مدار 6 سنوات.
صناعة السياسات
يلاحظ أن الدول النفطية العربية ترتبط ببرامج تعاون مع صندوق النقد، وقد نشطت هذه العلاقات بشكل كبير بعد أزمة انهيار أسعار النفط منتصف 2014، وكذلك بعد أزمة حرب الأسعار بسوق النفط في مارس/آذار 2020، وهو ما أدى إلى اختلالات مالية كبيرة لدى الدول النفطية العربية.
وقد أدى هذا التعاون لتنفيذ جل دول الخليج ضريبة القيمة المضافة، والضرائب الانتقائية، كما أعيد النظر في برامج دعم السلع والخدمات، كالماء والغاز والكهرباء، وتحركت أسعار البنزين وإن كانت بنسب بسيطة، وفي بعض البلدان أصبحت تلك الأسعار وفق العرض والطلب بالسوق الدولية، كما هو حال الإمارات.
كما شجعت توصيات صندوق النقد، بلدان الخليج والدول العربية النفطية الأخرى، على تقليص العمالة بالحكومة والقطاع العام، وكذلك التوسع في المديونية العامة، وقد رأينا دول الخليج والعراق يتسابقون في إصدار السندات الدولية.
وفي مصر وتونس، هناك ضغوط حقيقية من قبل صندوق النقد الذي حرص على تقليص العمالة بالقطاع العام والحكومة، وكذلك تخفيض مخصصات الدعم بشكل كبير، وأيضا الدخول في برامج الخصخصة.
وقد انعكست سياسات صندوق النقد سلبيا بشكل كبير على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في كل من مصر وتونس، مما جعل البعض يعبر عن مخاوف من أن تؤدي هذه التداعيات لقلاقل سياسية.
لماذا لم تنجح برامج الصندوق الدولي عربيا؟
هناك عدة أسباب منها ما يتعلق بالأوضاع السياسية، ومنها ما يتصل بالأوضاع الاقتصادية، وسوف نركز بهذه السطور على الأسباب الاقتصادية:
- غالبية الدول العربية، التي اعتادت على الحصول على قروض ومساعدات من صندوق النقد، جعلت منها أصلا لعلاج مشكلاتها، وفي الحقيقة هي مجرد مسكنات، وقد ظهر خطأ هذا السلوك بشكل كبير في حالتي مصر وتونس، حيث كشفت أزمتاهما عن مشكلات جذرية، وأن الحلول الحقيقية لم يتطرق إليها بعد.
- استمرار نهج الاقتصادات الريعية بالدول العربية جميعا، النفطية منها، وغير النفطية التي اعتمدت على السياحة وتحويلات العاملين بالخارج، وتصدير المواد الأولية. بينما معادلة النشاط الإنتاجي، والدخول في مراحل القيمة المضافة بقطاعي الصناعة والزراعة لا يتم الاقتراب منها.
- غياب المساءلة والرقابة على النشاط الاقتصادي بنسب متفاوتة في كل الدول العربية، لذلك لا يتم التصرف في الموارد الاقتصادية المتاحة بطريقة سليمة، ولعل وضع هذه الدول المتراجع على مؤشر مدركات الفساد، أو الحرية الاقتصادية، أو عدالة القضاء، يوضح لنا حقيقة الأمر.
- لم تؤد برامج “النقد الدولي” إلى تحسين أوضاع الاقتصادات العربية الموقعة لاتفاقيات مع هذا الصندوق إلى صلابة أوضاعها في مواجهة التقلبات الاقتصادية الدولية، كما حدث بأزمتي كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا، بل أظهرت الأزمات المزيد من تبعية هذه الاقتصادات للخارج، وتعرض مواطنيها لأوضاع تعرض أمنها الغذائي للخطر، وزيادة معدلات الفقر.
ختاما، فالإصلاح بالدول العربية ليس مستحيلا ولا صعبا، فهناك دول كانت لها نفس الظروف استطاعت أن تنتقل إلى مصاف الدول الصاعدة. والأمر يحتاج إلى: حسن توجيه بوصلة الإصلاح الاقتصادي للقطاعات الإنتاجية، توظيف أفضل للموارد البشرية، تقليص الإنفاق على التسليح والبنية الأساسية غير الضرورية، إطلاق العنان للقطاع الخاص للعمل في إطار أجندة تنموية، تقوية دور القطاع العام بعيدا عن البيروقراطية والفساد، الاهتمام بأوضاع التعليم والرعاية الصحية للمواطنين.