متظاهرون مناهضون للحكومة يسيرون باتجاه وزارة المالية بساحة رياض الصلح في بيروت (الأوروبية)

متظاهرون مناهضون للحكومة يسيرون باتجاه وزارة المالية بساحة رياض الصلح في بيروت (الأوروبية)

بيروت – يعيش لبنان شللا في مرافق الدولة وإداراتها الرسمية، بفعل إضراب مفتوح ينفذه موظفو القطاع العام منذ شهر، على قاعدة “لم يعد لدينا ما نخسره إذا لم تتحقق مطالبنا”.

وهؤلاء الموظفون كانوا يشكلون العمود الفقري للطبقة الوسطى في لبنان، فدفعهم الانهيار التاريخي نحو مصاف الفقراء، وهم يتقاضون أجورهم وفق سعر الصرف الرسمي 1507 ليرات للدولار، في حين ناهز بالسوق السوداء الذي يتحكم بالقيمة الفعلية للعملة نحو 30 ألف ليرة، ومن يبلغ معدل راتبه بالقطاع العام مليونا ونصف مليون ليرة -مثلا- هبطت قيمة أجره من ألف دولار إلى نحو 50 دولارا.

 

خلفيات وأسباب

ويشكو اللبنانيون من تداعيات أحد أطول الإضرابات الشاملة، في حين كان الموظفون ينفذون على مدار 3 سنوات من الأزمة إضرابات متقطعة وغير منسقة، للمطالبة بتصحيح رواتبهم. وبموازاة ذلك، كانت الحكومات المتعاقبة تقدم للموظفين بعض المساعدات المالية غير المنتظمة، كما رفعت تدريجيا بدل النقل من 8 آلاف ليرة إلى نحو 64 ألفا يوميا، وصولا إلى 90 ألفا (3 دولارات)، وخفضت أيام وساعات العمل في الدوائر الرسمية التي يحضر إليها قلّة من الموظفين، لكن الإجراءات الحكومية لم تكف لصمود الموظفين أمام موجة انهيار وتضخم تعصف بلبنان بلا هوادة.

وهكذا، أضحت المرافق العامة خارج الخدمة، ويعجز المواطنون عن إنجاز أبسط معاملة، كما أثر الإضراب في حركة الاستيراد والتصدير وغيرها.

ويوجد في لبنان 93 مؤسسة عامة، من ضمنها المستشفيات الحكومية والجامعة اللبنانية، مع 22 وزارة رئيسة، ويعمل فيها نحو 230 ألف عامل مدني، بين موظف ومتعاقد وأجير.

وكانت رواتب الموظفين تستحوذ على نحو ثلث موازنة المالية، وذلك ما دفع جهات دولية إلى مطالبة لبنان بوقف التوظيفات العامة. وفي موازنة 2022، شكلت هذه الرواتب نسبة عالية أيضا، وحاليا يضع صندوق النقد الدولي بند إعادة هيكلة القطاع العام على لائحة شروطه لنجاح المفاوضات مع لبنان.

وقبل أيام، صعدت روابط القطاع العام موقفها بالإصرار على الإضراب، وذلك احتجاجا على خطوة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بإفساح المجال أمام القضاة لتقاضي رواتبهم وفق سعر صرف 8 آلاف ليرة للدولار بدل 1507 ليرات، وموافقة رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على ذلك. وقبل ذلك، شهدت القضية توترا إضافيا، عقب تعليق وزير العمل مصطفى بيرم دوره كوسيط بين الحكومة والموظفين، واتهام بعض روابط الموظفين له بضرب مصالحهم.

بيرم: الحل وشيك

يؤكد الوزير مصطفى بيرم أنه أبلغ ميقاتي انحيازه التام لمصلحة الموظفين، “لكنني أقارب القضية بواقعية وإدراك لوضعية الدولة، ولأن الإصرار على الإضراب المفتوح يضرّ بمصالح الناس والموظفين معا ويعمّق الانهيار في مختلف المرافق، وتقدر خسائرنا يوميا على خلفيته بنحو 12 مليار ليرة”.

ويكشف وزير العمل -في حديث خاص للجزيرة نت- عن خريطة طريق جديدة سيحملها إلى اجتماع طارئ بالسرايا الحكومي الاثنين المقبل، لبحثها في لجنة وزارية مرتبطة بطوارئ القطاع العام.

وقال بيرم إن أبرز عناوين خريطته “تطوير مرحلي لرواتب الموظفين مع ضمان بدل نقل مريح لهم بمعيار لا يتأثر بصعود وهبوط أسعار المحروقات التي تتحرك بتقلبات سعر صرف الدولار”.  ويضيف “أحمل مشروعا جديدا، أتحفظ عن كامل تفاصيله لأنه قيد التشاور، وقد يكون الحل لوقف الإضراب المفتوح، ريثما تُطبق موازنة الحكومة، والمهم منع انهيار القطاع العام”.

صورة لوزير العمل اللبناني مصطفى بيرم
وزير العمل اللبناني مصطفى بيرم تحدث عن خريطة طريق جديدة تتضمن تطويرا مرحليا لرواتب الموظفين (الجزيرة)

وكانت الحكومة اللبنانية أقرّت في فبراير/شباط الماضي مشروع موازنة 2022، وأحالتها إلى البرلمان لدراستها وإقرارها، قبل دخولها حيز التنفيذ، وهو ما لم يحدث بعد. وبلغ عجز الموازنة 17%، وقد يصل لـ29%، لأنها استثنت وقتئذ سلفة الكهرباء وخطة معالجتها. وسبق ذلك رفع الحكومة الدعم عن استيراد مختلف السلع الأساسية من محروقات وأدوية وأغذية باستثناء القمح، فتعمّق الفقر وأضحى المواطنون أمام موجة واسعة من “دولرة” أسعار مختلف السلع والخدمات.

ويقرّ الوزير بأن تصحيح رواتب القضاة جزئيا شكل استفزازا لبقية الموظفين، “علما أن القضاة بأمس الحاجة لدعمهم ماليا لتحصين استقلال القضاء وحمايته من التدخلات السياسية؛ على أن يكون ضمن خطة مدروسة غير متسرعة”.

لكن، ألا تخشى الحكومة من التضخم إذا أقرّت تحسينات بالرواتب خارج خطة شاملة؟

يجيب بيرم “سنقدم حلا مرحليا لتلافي خطر التضخم، وسنلحظ تحسين وضع الموظفين بمساعدات مالية وليس وفق سلسلة رتب ورواتب”.

ورأى أن لبنان يحتاج لإعادة تنظيم القطاع العام “لأنه مستهدف”، ملخصا جوهر خطته بالآتي: “نحن في مرحلة انتقالية، نحاول فيها مراعاة وضع الموظفين، مقابل تأمين مصالح الناس، واستمرار المرفق العام تحقيقا للمصالح الوطنية، ونسعى لمراعاة مالية الدولة بانتظار إقرار الموازنة، وذلك عبر منح الموظفين تحسينات مالية مرحلية لتحمل مسؤولياتهم في هذا الظرف”.

مظاهرة سابقة للمعلمين أمام وزارة التربية (الجزيرة)

موقف الموظفين

في المقابل، تؤكد رئيسة رابطة موظفي الإدارة العامة نوال نصر أن روابط الموظفين متجاوبة مع أي طرح يلامس حقوقهم وحاجاتهم ويضمن حياة كريمة لهم، وذلك عبر إجراءات عديدة يصرّون على نيلها؛ منها:

  • تصحيح رواتبهم تصحيحا عادلا يعوض قيمتها الشرائية التي تآكلت بنسبة تجاوزت 900% ودعم الصناديق الضامنة.
  • إعطاء قسائم بنزين وليس بدل نقل ماديا، ربطا بالمسافة التي يقطعها الموظف للوصول إلى مكان عمله.
  • تحرير المساعدة الاجتماعية لكل الموظفين والضغط على إدارات المدارس الخاصة لإعفائهم من دفع أقساط أبنائهم بالدولار.

وتشير رئيسة الرابطة إلى أن الحكومة قطعت التواصل مع روابط الموظفين، لأنهم رفضوا طرحها السابق، وتصفه بالهجين، وقالت للجزيرة نت إن الموظفين رفضوا الاكتفاء بمنحهم مساعدة شهرية بقيمة راتب مليوني ليرة (نحو 66 دولارا)، وزيادة بضعة مئات آلاف الليرات على المساعدات المدرسية والطبية، مؤكدة أن الموظفين لم يحصلوا منذ أشهر على بدل النقل.

وتتهم نصر السلطة بالسعي لوضع الموظفين بمواجهة مع الناس، على قاعدة أن إضرابهم يعطل المرفق العام وبتصوير مطالبهم كأنها ستؤدي إلى زيادة الضرائب، وترى أن الدولة غير مفلسة “بل إن أموالها موجودة بمسارب الهدر وفي الأملاك العامة التي وهبتها لأصحاب النفوذ والمتمولين الذين تعفيهم من الضرائب”.

وأكدت أن الإضراب مستمر وأقوى من السابق ما دامت أسبابه موجودة، قائلة “إذا لم تتحقق مطالبنا ونحن على شفير السقوط معيشيا واجتماعيا واقتصاديا، فلن نتردد بالشكوى ضد السلطات لدى هيئات المجتمع الدولي”.  وتوضح أن إصرار الموظفين على الإضراب تضاعف بعد خطوة تصحيح رواتب القضاة بطريقة غير قانونية، وفق قولها.

رجال شرطة لبنانيون يقفون على مدخل مبنى وزارة العمل خلال احتجاج أمام الوزارة في بيروت (الأوروبية)

انهيار المؤسسات

عمليا، يعكس الواقع المأساوي للموظفين أحد أوجه الانهيار داخل المرافق العامة، ومنذ أكثر من عامين تظهر تداعيات الانهيار بسبب انقطاع الكهرباء والشح الكبير بالمستلزمات الأولية ومواد القرطاسية كالأوراق والحبر والطوابع، حتى إن لبنان يشهد سابقة جراء عدم تمكن المواطنين من الحصول على جوازات سفر بلا موعد سابق على منصة استحدثها الأمن العام وقد يستغرق الأمر شهورا.

ويعتقد خبراء أن ما يعيشه المرفق العام نتيجة طبيعية لعقود من الفشل في تحديث أنظمة المؤسسات وعدم مكننتها وهيكلتها لوجستيا وبشريا.

وهنا، يرى زياد عبد الصمد، المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية، أن قضية موظفي القطاع العام تحتاج لمقاربة أوسع، تبدأ بهيكلته، إذ توجد مرافق عامة تعاني من نقص وظيفي وأخرى من تضخم بأعداد الموظفين.

ويذكر عبد الصمد أن لبنان يدفع ثمن فشل القطاع العام بإدارة شؤون مواطنيه، وتحويله إلى مسرح لبعض التوظيفات العشوائية والزبائنية لمصلحة بعض الأحزاب التي لم تراعِ معياري الكفاءة والحاجة لملء الشواغر، مشيرا وفقا لدراسات إلى أن نحو 7% من موظفي الإدارة العامة يستحوذون على نحو 60% من كتلة الأجور، التي تحتاج أيضا لإعادة هيكلة.

ومع ذلك، يقول عبد الصمد -للجزيرة نت- إن الإضراب يأتي في سياق محقّ وإنساني، لكن تصحيح الأجور “يبدأ بتخفيف أعباء تكاليف الصحة والمحروقات والغذاء والتعليم”.

أما طبع العملة لزيادة الأجور “فسيؤدي مجددا إلى تآكل قيمتها وإلى انهيار قيمة الليرة ومن ثم لارتفاع الأسعار وتدمير القدرة الشرائية”، ويدعو الخبير السلطات لضرورة التفكير بطريقة بنيوية، بدل التعاطي باستخفاف مع إضراب الموظفين الذي يمثل عصيانا مدنيا خطيرا غير معلن، على حد تعبيره.

وقال إن تعطيل المرفق العام يحمل أبعادا سياسية عميقة، ويعبّر عن حالة استثنائية بحرمان المواطنين من أبسط حقوقهم الخدماتية، “كأن السلطة تخوض صراع بقاء ضد الشعب، لأن أي إصلاح حقيقي يمسّ حكما بمصالحها ووجودها”.

المصدر : الجزيرة

About Post Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *