ماكرون يدعو إلى استقلال أوروبا.. هل تتمرد القارة العجوز على الرعاية الأميركية؟
لندن- دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته للصين، إلى “الاستقلال الأوروبي” مما أثار جدلا حول دلالات تصريحاته التي دعا فيها إلى خروج القارة العجوز من التبعية الأميركية، خصوصا فيما يتعلق بملف تايوان.
هذا الحديث يراه البعض مثيرا بالنظر إلى الظروف التي يمر بها العالم بسبب الحرب في أوكرانيا واشتداد الصراع بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة من جهة ومعسكر روسيا والصين من جهة ثانية، لكنه في الوقت نفسه ليس جديدا، فقد كان الرئيس الفرنسي -قبل اندلاع حرب أوكرانيا- من أشد المتحمسين لفكرة إنشاء الجيش الأوروبي لتحقيق الاستقلالية العسكرية عن واشنطن.
كما حاول ماكرون بداية الحرب الأوكرانية أن تتخذ أوروبا موقفا مغايرا للموقف الأميركي في التعامل مع روسيا، وهو ما جر عليه انتقادات واسعة قبل أن يتراجع ويتماهى تماما مع الموقف الأميركي.
هذا التماهي أو التبعية الأوروبية للولايات المتحدة في المواقف السياسية والعسكرية والاقتصادية ليست من فراغ، بل نتيجة تراكم سياسات بدأت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وجعلت أوروبا تحت الحماية الأميركية عسكريا.
الحماية الأميركية
بلغ عدد الجنود الأميركيين الموجودين بأوروبا قبل اندلاع حرب أوكرانيا 65 ألف جندي، وكان توجه واشنطن هو تقليص هذا الرقم، إلا أن الحرب الأوكرانية دفعتها لعكس سياستها والرفع من أعداد جنودها في القارة العجوز ليصل عددهم حسب البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) إلى 100 ألف جندي منتشرين في مختلف الدول الأوروبية.
وحسب البنتاغون، فإن هؤلاء الجنود ترافقهم الكثير من المعدات العسكرية، منها 150 طائرة حربية على أهبة الاستعداد، و140 سفينة حربية قرب السواحل الأوروبية إضافة لعدد من أنظمة الدفاع الجوي.
المثير أن رقم الجنود الأميركيين في أوروبا، حاليا، يفوق أعداد الجنود الموجودين في جيوش أوروبية بأكملها، ففي بريطانيا مثلا تعداد الجنود لا يتعدى 75 ألف جندي.
وتعتبر القواعد العسكرية الأميركية بأوروبا من بين الأكبر في العالم، حيث توجد في كل من ألمانيا والمملكة المتحدة وإسبانيا وإيطاليا ورومانيا وبولندا والنرويج وهنغاريا، وتعتبر ألمانيا أكبر دولة أوروبية من حيث عدد القواعد الأميركية (موطن 5 من الحاميات العسكرية السبع للجيش الأميركي في أوروبا).
وتعد الأسلحة النووية من أهم مظاهر النفوذ العسكري الأميركي بأوروبا، ذلك أن الولايات المتحددة تمتلك 3 قواعد لتخزين الأسلحة النووية بألمانيا وموقعين بإيطاليا، إضافة لموقع واحد بتركيا، وحسب المركز البحثي الأميركي “مجلس العلاقات الخارجية” (CFR) فإن عدد الصواريخ النووية الأميركية المنتشرة في أوروبا حاليا 100 صاروخ نووي، وهو ما يعادل نصف الترسانة النووية البريطانية تقريبا، البالغ عددها 225 رأسا نوويا.
وتعد الولايات المتحدة أكبر ممول لحلف شمال الأطلسي “الناتو” ذلك أنها توفر 16% من ميزانية الحلف، تليها ألمانيا بحوالي 15%، بينما تبقى مساهمات دول أوروبية مثل فرنسا وبريطانيا ما بين 10 و11%، وحتى الآن ما زالت الدول الأوروبية عاجزة عن تحقيق الهدف الذي تطالب به واشنطن منذ سنوات وهو تخصيص 2.5% أو أكثر من الناتج الداخلي الخام للإنفاق العسكري، علما بأن الولايات المتحدة تنفق سنويا ما يفوق 3% من ناتجها الخام على ميزانية الدفاع.
الشريك الاقتصادي الأول
تظهر الأرقام الصادرة عن المفوضية الأوروبية أن التعاون الاقتصادي والتجاري بين الولايات المتحدة وأوروبا يساهم في توفير الملايين من فرص العمل، ذلك أن التجارة بين الطرفين والاستثمارات توفر 9.4 ملايين فرصة عمل بشكل مباشر، إضافة إلى 16 مليونا بشكل غير مباشر.
وبلغت المبادلات التجارية بين الطرفين أعلى مستوى لها على الإطلاق سنة 2021 لتحقق أكثر من 1.2 تريليون دولار، بزيادة نسبتها 10% مقارنة مع فترة ما بعد جائحة كورونا.
وتعتبر الولايات المتحدة الشريك الأول للاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالخدمات، وبلغة المبادلات بينهما في مجال الخدمات 500 مليار دولار، وتعد المبادلات بين الاتحاد وأميركا في البضائع والخدمات الأكبر عالميا، كما أن حجم الاستثمارات الأميركية بأوروبا 4 أضعاف الاستثمارات الأميركية بالقارة الآسيوية.
في المقابل، فإن الاستثمارات الأوروبية المباشرة بالولايات المتحدة هي 10 أضعاف الاستثمارات الأوروبية بالصين والهند معا، وتبلغ الاستثمارات الأميركية سواء المالية أو المشاريع في أوروبا حوالي 2.3 تريليون دولار.
الحاجة للغاز الأميركي
استفادت الولايات المتحدة من القرار الأوروبي بالاستغناء التدريجي عن الغاز الروسي، ذلك أنها سنة 2022 قامت بتصدير 3 أرباع الغاز الطبيعي المسار الموجه نحو التصدير إلى أوروبا، وذلك بعد أن كانت أوروبا تحصل فقط على ثلث الغاز الطبيعي المسال الأميركي.
وبلغ حجم الواردات الأوروبية من الغاز الطبيعي المسال الأميركي 35 مليار دولار حتى سبتمبر/أيلول الماضي، ويتوقع أن تستمر الولايات المتحدة في احتلال صدارة موردي أوروبا بالغاز الطبيعي المسال سنة 2023، بنسبة قد تصل إلى 50%، علما بأنها كانت سنة 2022 حوالي 44%.