لكل عمل فني مستويات للقراءة، فيمكن للمشاهد أن يتابع قصة المسلسل أو الفيلم، ليستمتع بالجمال والخيال، والموسيقى، ويمكنه أيضا أن يربط تلك القصة وطريقة سرد صانع العمل لها بواقعه الاجتماعي وما يحويه من جمال أو قبح أو صراعات، ولكنّ ثمة أعمالا تدفع مشاهدها إلى مستوى أعمق يتعلق بالتأمل والتفكير في حكمة الحياة وما بعدها.
ويأتي مسلسل “1899”، للمبدعين باران بو أودار وجانتغي فريزيه، ليمثل واحدا من تلك الأعمال التي جمعت بين أجواء الرعب والقصة المسلية ورصدت صراع الطبقات، وأيضا ذلك التأمل الذي يحيل المشاهد إلى عالم من الأسئلة بلا نهاية.
تدور أحداث “1899” حول باخرة مهاجرة تتجه غربا نحو أميركا، لتغادر القارة العجوز. الركاب عبارة عن خليط من البشر ذوي الأصول الأوروبية، يتحدثون لغات أوروبية مختلفة هي الإنجليزية والألمانية والدانماركية والإسبانية والفرنسية والكانتونية، وتجمعهم آمالهم وأحلامهم بالقرن الجديد ومستقبلهم في الخارج.
تتخذ رحلتهم منعطفا غير متوقع عندما يكتشفون سفينة مهاجرين أخرى تطفو على غير هدى في عرض البحر؛ فما يجدونه على متن السفينة يحول طريقهم إلى الأرض الموعودة إلى كابوس مرعب.
قسمت القصة إلى 8 فصول في 8 حلقات، ورصد كل فصل جانبا من الرحلة ذا علاقة بعنوانه. جاءت الحلقة الأولى تحت عنوان “السفينة”، ويرتكز الحدث الرئيسي فيها حول البطلة “مورا فرانكلين” (الممثلة إميلي بيتشام) التي تساعد حاملا، وتنقذ جنينها من الموت، بينما يتخذ القبطان “إيك لارسن” (الممثل أندرياس بيتشمان) قرارا شجاعا بمساعدة سفينة مفقودة رغم تلقيه أمرا من الشركة المالكة بإغراقها، ليكتشف أشياء غريبة.
وجاءت الحلقة الثانية تحت عنوان “الصبي”، لتحكي حادثة اكتشاف وجود صبي وحيد على قيد الحياة في السفينة، ويتبع رجل غريب مورا، وتبدأ مع الحلقة الثالثة التي جاءت باسم “الضباب” سلسلة من أحداث الموت المأساوي إلى أن تستعيد مورا ذاكرتها لتوقف الصوت الذي يقود الركاب إلى الانتحار، وتكشف عن حقيقة كارثية ملخصها أنه لا توجد سفينة ولا يوجد محيط أصلا.
غموض
من الصعب العثور على منطق في العلاقات بين “الأشياء” في الحلقات السبع الأولى على الأقل من مسلسل “1899”، وعلى الرغم من ذلك فإن المشاهد لا يستطيع أن يتوقف عن التساؤل والسعي لفك الطلاسم التي تتراكم عبر 8 حلقات، ولا يستطيع أن يتحرر من الرموز المرعبة حتى يصل إلى الحلقة الثامنة والأخيرة، ليكتشف أن العمل لم يكن إلا حالة من الواقع الافتراضي تشبه ما قدم من قبل في فيلم “ترومان شو” للنجم الهوليودي جيم كاري مع فارق تكنولوجي هائل.
فالعمل بكامله عبارة عن برنامج محاكاة، وبينما ينتهي المشهد الأخير يطرح السؤال نفسه: هل كان المسلسل نفسه حقيقة أم محاكاة لواحد من أكثر المسلسلات إثارة وحشدا للرموز في لعبة ألغاز وأحجيات (بازل) لا تنتهي؟
اختار صناع العمل أن يجعلوا الوضع معكوسا في سرد قصتهم، وبدلا من محاولة الوصول إلى المشاهد وتبسيط طريقة سرد الحكاية له، صنعوا الألغاز والأحجيات ووضعوا أدلة قليلة جدا تقود المشاهد إلى حلول أكثر غموضا من المشكلات التي يدور حولها العمل، وعلى المشاهد أن يعيد تأليف القصة في كل مرة، ليجد مسارا منطقيا أو مناسبا لها.
مستويات القراءة
تشير الأجواء إلى مسلسل رعب ذي قصة معقدة إلى حد ما في الظاهر، لكن تفكيك شكل السرد يعيدها إلى أصلها باعتبارها تدور حول عالم نفس يجري تجارب لاستكشاف السلوك الإنساني تحت مختلف الضغوط، ويستخدم ابنته وزوجها وابنها في هذه التجارب، ويبدو الأخ متورطا بشكل غامض مع والده.
يسعى زوج الابنة إلى تحرير الابنة والطفل من سيطرة الأب، فيفسد برنامج المحاكاة الذي صنعه الأب لدفع مجموعة من البشر إلى العيش معا في ظروف معينة واكتشاف ردود أفعالهم، لكن الأخطاء نفسها ترتكب في كل تجربة، وتنتهي بموت المجموعة، ويعيد الأب التجربة مع حذف ذاكرة المشاركين.
جاء التصوير في ممرات السفينة الضيقة، ليصنع حالة من التوتر أسهمت فيها الإضاءة الضعيفة للمشاهد، فضلا عن الانعطافات الدرامية الحادة. الإحساس بضيق المكان لا يفارق المشاهد مع خروج الكاميرا إلى سطح السفينة إذ يسيطر مشهد الضباب وسط المحيط المظلم على الحالة، فيخلق وحشة وخوفا من المجهول.
يرى ركاب كل سفينة في القائد (القبطان) منقذا وحاميا من تقلبات المحيط وأعطال السفينة، لكن قبطان بروميثيوس لا يقل حيرة عن الركاب، ويتعرض للانقلاب عليه وحبسه، ومن ثم تصبح السفينة بلا قائد، ليتهاوى الوضع نحو حافة الانفجار.
ظلال تايتانيك
تحمل الكثير من مسلسلات نتفليكس ظلالا من أعمال شهيرة سابقة، وهو تعبير عن ذلك التأثير العميق لتلك الأعمال، وقد ظهر ذلك التمييز الطبقي بين الركاب الأغنياء الذين يتمتعون بامتيازات كاملة على سطح السفينة وبين أولئك الفقراء الذي يحبسون في قاعها ويتعرضون لمختلف المآزق، ويشي منظرهم بالفقر والحرمان.
وقد نقل صناع “1899” مشهدا كاملا من فيلم تايتانيك 1997 (Titanic) للمخرج جيمس كاميرون، حيث يجلس ركاب الدرجة الأولى حول مائدة الطعام الفاخرة ويبدؤون في الثرثرة واستعراض ملامح ثرائهم، وهو يحيل إلى المشهد نفسه الذي جمع الممثل ليوناردو دي كابريو في دور الشاب الصعلوك “جاك” مع ركاب تايتانيك وبينهم الفتاة “روز” (الممثلة الإنجليزية كيت وينسلت) وأسرتها.
عبر المشهد الأصلي والمشهد المنقول منه عن ملامح الطبقة الغنية وانشغالاتها التافهة والتعالي والاحتقار الذي تمارسه على الآخرين في مقابل بساطة الفقراء. وتظهر بقية مشاهد “1899” تأثرا شديدا بفيلم كاميرون، وخاصة التصوير بين ردهات السفينتين اللتين كانتا محور الأحداث.
جاء نداء الانتحار الذي دفع بعدد كبير من ركاب السفينة إلى القفز من الحافة نحو الموت ليشكل ذروة مأساة أخرى، ولكن قراءته تشير إلى كونه مجازيا للتعبير عن نهاية كل حي.
يبحث صناع العمل عن إجابات لأسئلة طالما أرّقت الفلاسفة والمفكرين حول الكون والخلق والخالق، ويرون العالم بمنظار شديد السواد يمزج بين تاريخية الهجرة إلى العالم الجديد مع نهاية القرن الـ19، وبين المصائر المأساوية لمن حاولوا الهجرة، ويمزج بين أولئك الذين اهتدوا إلى طرقهم المقدرة سلفا، وهؤلاء الذين ضلّوا الطريق، فاندفعوا نحو متاهة بلا نهاية.