في “اليوم العالمي للمرأة” الموافق للثامن من مارس/آذار من كل عام؛ يستعيد كثيرون في العالم لحظة يؤرَّخ بها لبداية الاحتفاء بهذا اليوم، عندما خرجت 15 ألف امرأة عام 1908م إلى شوارع مدينة نيويورك الأميركية للمطالبة بتقليل عدد ساعات العمل وزيادة الأجور ونيل حق التصويت في الانتخابات.
وفي مقابل نظر العالم إلى ما قبل قرن واحد فقط متأملا مظاهرة تنشد عدالة العمل؛ هناك من قد يحلو له أن يتجه بذاكرته إلى قرون خلت ليرى أن المرأة -في ظل الحضارة الإسلامية وعلى الصعيد الواقعي- تخطت أحيانا كثيرة ما هو أهم وأعظم من عدالة الوقت أمام آلة، رغم كل ما يمكن تسجيله من سلبيات تاريخية طبعت أوضاعها في العموم.
إن إلقاء نظرة فاحصة على ذلك التاريخ سيستعيد -بلا ريب- شهادات موثقة لعدد وافر من علماء الإسلام وهم يشيدون بالمهارات السياسية والإدارية لنساء انخرطن في إدارة الدول مشاركة أو انفرادا، فحقق نجاحات ارتقى بعضها إلى مستوى تغير معه تاريخ دول وأقاليم وتبدلت مصائر أمم وشعوب، على نحو ما يرويه هذا المقال.
إن عبارات من قبيل “ساست السيدة المُلك ودبّرت الأمور أعظم من الرجال” إنما تستمد قيمتها من كونها جاءت من أئمة في علوم الشريعة حديثا وفقها وقضاءً، لا من مجرد رأي أو تحليل لمؤرخ عادي؛ إنها من فقيه يعلم ما هو مستقر نظريا في المذاهب الفقهية بشأن إسناد “الولايات العامة” إلى المرأة، ويعلم حجم الحساسية الفقهية بل والاجتماعية من الزعامة النسوية.
لكن كل ذلك لم يمنع هؤلاء الأئمة الثقات الأثبات -وإن كانت انطباعاتهم الخاصة ليست حجة شرعية- من أن يسجلوا تلك الإشادات بالكفاءة السياسية لدى طيف واسع من النساء المسلمات، ارتقيْنَ العروش أو كنّ -لأسباب عديدة- وصيّاتٍ على من ارتقاها من الذكور، حتى إن إحداهن “دبرت الأمور أعظم من الرجال”!!
إن مناقشتنا -في هذه المقالة- لموضوع تاريخ تولي المرأة السلطة في الدول الإسلامية -في شتى الأقاليم ومن كل العرقيات وطوال ألف سنة- لا يقترب من الجدل الفقهي المعروف بشأن “ولاية المرأة”، وإنما يبحث هذه الظاهرة في بُعدها التاريخي العملي، وما “جرى به العمل” أحيانا كثيرة في حياة الناس داخل الحضارة الإسلامية، ونقله المؤرخون -ومعظمهم من المحدّثين والفقهاء- بأمانة وحياد، ودون نكير أو استغراب في أغلب الحالات.
والواقع أن ما يوصل إليه الرصد التاريخي في هذه القضية -متمثلا في عينات هذه الدراسة التي استعرضت 20 نموذجا نسائيا سياسيا في شتى الأقاليم ومن كل العرقيات وطوال ألف سنة- يؤكد أن باب القيادة السياسية ظل مفتوحا عمليا أمام النساء من كل الفئات في المجتمع الإسلامي، سواء من خلال القيادة المباشرة أو من خلف الحُجُب بمختلف أنواعها، بل ووصل الأمر بهن إلى قيادة مراكز حضارية في العراق ومصر وفارس والهند.
ولا يأتي هذا الأمر من فراغ؛ فحضور المرأة تاريخيا في المجال العام الإسلامي يعدّ مقدمة طبيعية لتلك الظواهر التي نناقشها في هذا المقال، فقد حضرن في حلقات العلم ودوائر الإفتاء، ومجالس الأدب والشعر، ومناشط البِرّ والإحسان. وذلك من اللحظات الأولى لإسنادهن رسالة الإسلام وهي تلامس الأرض أول مرة بمكة، وحتى تدبيرهن مملكة بهوبال الإسلامية وسط شبه القارة الهندية.
سوابق هادية
فتح الإسلام -منذ انبلاج أنواره وحيا سماويا وهديا نبويا- للنساء أبواب المشاركة في الشأن العام تعلما وسياسة وجهادا ومساءلةً عن الحقوق ودفعا للمظالم؛ فقد جاء في ’صحيح البخاري’ أن النساء قلن للنبي ﷺ ذات يوم “غلبنا عليك الرجال! فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه، فوعظهن وأمرهن”. وقد أثنى ﷺ على نساء الأنصار خيرا وشجعهن على روح الاقتحام لطلب العلم والسؤال عما يعرض لهن من قضايا.
وبلغت المساءلة النسائية والحضور الأنثوي ذروتهما في المدينة النبوية يوم تكلمت واحدة منهن أمام الرسول الكريم ﷺ باسم نساء الدنيا كلها بصفتها مندوبتهن إليه؛ إذ أتت أسماء بنت يزيد الأنصارية (ت 69هـ/689م) النبي ﷺ وهو بين أصحابه، فقالت: بأبي أنت وأمي، إني وافدة النساء إليك، واعلم -نفسي لك الفداء- أما إنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا أو لم تسمع إلا وهي على مثل رأيي”!!
وبعد تثبيت دورها مندوبة عن نساء عصرها؛ قدمت أسماء عريضتها المطلبية فقالت: “إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء فآمنا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم..، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات..، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا أخرج حاجا أو معتمرا ومرابطا حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابا، وربينا لكم أولادكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟!”.
وقد قابل النبي ﷺ هذه المرافعة القوية بالإعجاب “فالتفت إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: «هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟!»، فقالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا، فالتفت النبي ﷺ إليها، ثم قال لها: «انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعُّل إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته تعدل ذلك كله». قال: فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا”؛ كما في رواية الإمام المحدِّث أحمد بن الحسين البيهقي (458هـ/1067م) في ’شُعَب الإيمان’.
وفي العهد الراشدي؛ واصلت المرأة المسلمة حضورها في الشأن العام استشارة وتنفيذا، لا سيما في عهد عمر الفاروق (ت 23هـ/645م) الذي عرف استقرارا داخليا كبيرا فكان للنساء حضورهن المعتبر في المجال العام.
فقد تصدت له إحدى الصحابيات -بعد أن صار خليفة للمسلمين- أثناء خطبة له فوق منبر رسول الله ﷺ حين أمر بتقليل مهر النساء؛ “فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتَحرمنا [أنت]! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)؟ فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر..، وترك الإنكار” في شأن المهور؛ كما في ’الجامع لأحكام القرآن’ للإمام أبي عبد الله القرطبي (ت 671هـ/1272م).
وما كان الفاروق عمر ضد النساء؛ فقد حفظ لنا التاريخ أنه كان يقدم الصحابية الشفاء بنت عبد الله القرشية (ت 20هـ/642م) “في الرأي ويرضاها ويفضلها، وربما ولاها شيئا من أمر السوق”، لأنها “كانت من عقلاء النساء وفضلائهن، وكان رسول الله ﷺ يأتيها ويقيل عندها في بيتها”؛ حسب رواية الإمام ابن عبد البر (ت 463هـ/1071م) في كتابه ’الاستيعاب’.
لقد شهدت سفارة المرأة لقومها ونذارتها للحُكّام تحوّلا هائلا فيما بعد الخلافة الراشدة انتبه لقيمته الأدبية والفكرية والسياسية الأقدمون، فضمنوه ثنايا الموسوعات أو أفردوه بالتأليف مثل كتاب ’أخبار الوافدات من النساء على معاوية بن أبي سفيان’ للعباس بن بكار الضبّي (ت 222هـ/837م)، فهذا السِّفْر الصغير يعرض لنا صورا حية من تاريخ المشاركة القوية للمرأة سياسيا وفي الحروب التي قامت حفاظا على الخلافة الراشدة ومناوأةً لتحوّل الحكم الإسلامي إلى ملك جبري عضوض.
تعزُّز ورسوخ
ويتقدم الزمان فتتعزز أكثر مشاركة النساء في السلطة وتدبير الشأن العام، حتى إنه لم تخلُ أغلبية الدول الإسلامية في المشرق والمغرب من وجود امرأة تشارك في الحكم بأحد مستويات ثلاثة: أن تنتزع من رجال الدولة الاحترام لآرائها فتكون مستشارة مؤتمنة، أو تزاحمهم في تصريف الشؤون العامة تخطيطا وتنفيذا، أو تغالبهم على العروش فتتولى بنفسها زمام القيادة والتفرد بالسيادة.
ففي صدر الدولة العباسية؛ كانت فاطمة بنت علي بن عبد الله بن عباس (توفيت بعد 136هـ/754م) عمة الخليفتين السفاح (ت 136هـ/754م) والمنصور (ت 157هـ/775م) “امرأة حازمة.. وكان إخوتها وبنو إخوتها -أبو العباس أمير المؤمنين وأبو جعفر المنصور أمير المؤمنين- وغيرهم يكرمونها، ويعظمونها ويبجلونها لحزمها وعقلها ورأيها”؛ كما يخبرنا ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ’تاريخ دمشق’.
وحين تولى هارون الرشيد (ت 193هـ/809م) الخلافة؛ فوّض تدبير شؤونها تفويضا مطلقا إلى وزيره يحيى بن خالد البَرْمَكي (ت 190هـ/806م)، وقال له: “ولَّيتُك أمرَ الرعية، وخلعتُ ذلك من عنقي وجعلته في عنقك، فولِّ مَنْ رأيتَ، واعزل من رأيتَ”!!
ومع هذه السلطة التفويضية المطلقة للوزير البرمكي؛ فإن أمه الخَيْزران (ت 173هـ/789م) كانت حاضرة في تدبير خلافته الممتدة من الجزائر غربا إلى الصين شرقا، فقد كانت “هي المشاوَرةَ في الأمور كلها، لا يقطع يحيى بن خالد أمرا حتى يشاورها فيما يُبْرِمه ويحلّه ويمضيه ويُحْكِمه”؛ وفقا للإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) في ’البداية والنهاية’.
كما أن الرشيد نفسه كان يشاور أمه من الرضاعة أم جعفر بن يحيى البَرْمَكي (توفيت بعد 193هـ/809م) “مظهرا لإكرامها والتبرّك برأيها، وكان آلَى (= أقسَم) وهو في كفالتها أن لا يحجبها، ولا استشفعته لأحد إلا شفّعها، وآلت (= أقسَمت) عليه أم جعفر أن لا دخلت عليه إلا مأذونا لها، ولا شفعت لأحد لغرض دنيا. قال سهل: فكم أسير فكّت، ومبهَم عنده فتحت، ومستغلق منه فرّجت”؛ كما في ’العقد الفريد’ لابن عبد ربه الأندلسي (ت 328هـ/940م).
وقد كان نفوذ الخيزران العظيم -في دولة ابنها الرشيد- فاتحةً لمسار طويل من التحكم النسوي في دوائر السلطة، وصلت فيه الجواري الإماء إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه المرأة العربية أو المسلمة الحُرَّة، وهو أن تحظى بأن تكون أمًّا للسلاطين الحكّام وصانعة للوزراء العظام، حتى إنه من أصل 37 رجلا عباسيا تولوا منصب الخلافة ببغداد لا نجد إلا ثلاثة كانت أمهاتهم من “الحرائر”، وهم: السفاح (ت 136هـ/754م)، والمهدي بن المنصور (ت 169هـ/786م)، والأمين بن الرشيد (ت 198هـ/813م).
وفي أقصى الغرب الإسلامي تبرز ظاهرة حضور النساء في الحكم عبر المشورة والرأي؛ فنجد زينب بنت إسحق النفزاوية (ت 464هـ/1072م) زوجة المؤسس الفعلي لدولة المرابطين الأمير يوسف بن تاشفين (ت 500هـ/1106م)، والتي كانت سببا في استفراده بالجناح الشمالي من الدولة.
فقد وصف المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1232م) -في ’الكامل’- زينب هذه بأنها كانت “من أحسن النساء، ولها الحكم في بلاده”. وعند ابن خلدون أنها “من إحدى نساء العالم المشهورات بالجمال والرئاسة”، “وأنها كان لها رياسة أمره وسلطانه”.
ثم يذكر واقعة إقناعها زوجها بالانقلاب على أمير دولته الشرعي أبي بكر بن عامر اللمتوني (ت 480هـ/1087م)، وكيف خططت له لينفرد دونه بحكم المغرب ويترك له صحراء الغرب الأفريقي؛ فيقول إنها “أشارت إليه عند مرجع أبي بكر من الصحراء [إلى المغرب].. [بـ]ـإظهار الاستبداد حتى تجافى [أبو بكر] عن منازعته [في الحكم]، وخلُص ليوسف بن تاشفين ملكه” العريض بالمغرب، والذي ظل يتوسع حتى شمل الأندلس بفضل تخطيط زوجته الداهية.
وربما بالغت كتب التاريخ المتأخرة في وصف مهارات زينب النفزاوية السياسية؛ فيقول مثلا المؤرخ المغربي الناصري السلاوي (ت 1315هـ/1898م) -في ’الاستقصا‘- إن زينب كانت لزوجها السلطان يوسف “عنوانَ سعْدِه، والقائمة بملكه والمدبرة لأمره، والفاتحة عليه بحسن سياستها لأكثر بلاد المغرب”، وإنها سُميت “الساحرة” لما كانت عليه من “عقل رصين ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور”!!
ريادة يمنية
تضرب علاقة النساء اليمنيات بالحكم والسلطان بجذور راسخة في التاريخ البشري، وحسبنا في ذلك ما أنبأنا به القرآن الكريم عن ملكة سبأ التي تسميها المصادر الإسلامية بلقيس بنت شراحيل (القرن 10ق.م)، وأنها حكمت اليمنيين “وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍۢ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ” (النمل/ الآية: 23). أي أنها “أوتِيتْ من كلّ شيء يؤتاه الملوك في عاجل الدنيا مما يكون عندهم من العتاد والآلة”؛ وفقا للإمام الطبري (ت 310هـ/922م) في تفسيره ’جامع البيان‘.
ويتضح من القصة القرآنية أن تقاليد الحكم الرشيد القائم على الشورى ومجانبة الاستبداد كانت مرعية في دولة ملكة سبأ هذه؛ فحين جاءها كتاب النبي سليمان بن داود -عليه السلام- جمعت أعضاء مجلسها الاستشاري -الذي سمّاه القرآن “المَلَأ”- وخاطبتهم قائلة: “مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ” (النمل/ الآية: 32)؛ أي: “أشيروا عليّ في أمري الذي قد حضرني من أمر صاحب هذا الكتاب الذي ألْقِي إليّ، فجعلت المشورةَ فُتْيَا”؛ طبقا للطبري.
خلّد القرآن الكريم إذن قصة ملكة سبأ التي أسلمت وانضوت تحت لواء مملكة سليمان الواسعة، فكان ذلك تأسيسا لسابقة يمنية بالغة الدلالة تلهم -على مَرّ القرون- نساء اليمن وغيرهن من الطامحات للمشاركة في الشأن العام وتصريف شؤون الدول تدبيرا وإصلاحا.
ولذا حين جاء الإسلام ودخلت فيه قبائل اليمن أفواجا؛ سرعان ما ادّعى الأسود العنسي (ت 11هـ/633م) النبوة بإحدى قرى نجران شمالي البلاد فاجتاح العاصمة صنعاء “واستوثقت اليمن بكمالها” لسيطرته، “وجعل أمره يستطير استطارة الشرارة…، وارتدّ خلق من أهل اليمن [عن الإسلام]، وعامله المسلمون الذين هناك بالتَّقيّة” دفعا لشرّه؛ حسب ابن كثير في ’البداية والنهاية’.
وأمام هذا الحدث الخطير الذي مثّل الشرارة التي ألهمت لاحقا -بُعيد وفاة النبي ﷺ- قادة حركة الردة عن الإسلام في أنحاء عدة من جزيرة العرب؛ ما كان من رسول الإسلام ﷺ إلا أن أرسل مبعوثا له إلى اليمن “يأمر المسلمين الذين هناك بمقاتلة الأسود العنسي ومصاولته…؛ [فـ]ـتوافق المسلمون على ذلك وتعاقدوا عليه”.
وتنفيذا للأمر النبوي الجازم؛ لم يَجد رجال اليمن -بقيادة والي البلاد الصحابي الجليل معاذ بن جبل (ت 18هـ/640م)- حرجا في الاستعانة بامرأة للانقلاب على العنسي المتمرد، وهي زوجته التي تسمى “آزاذ”؛ فقد “كانت امرأة حسناء جميلة، وهي مع ذلك مؤمنة بالله ورسوله محمد ﷺ، ومن الصالحات”؛ وفقا لوصف ابن كثير.
كانت الجاهزية لدى السيدة “آزاذ” كبيرة للانقلاب على زوجها المتنبي استجابة لأوامر نبي الإسلام بشأنه، كما أن الرجل الذي كلمها في خطة الانقلاب كان ابن عمها، وقد استثار حماسها بتذكيره إياها بما اشتهر به الأسود العنسي من إذلال لقومها و”فضح النساء” في مجتمعها، فما كان منها إلا أن وافقت على الإطاحة به، بل واقترحت اغتياله قائلة طبقا لابن كثير: “والله ما خلَقَ الله شخصا هو أبغض إلي منه، فما يقوم لله على حق ولا ينتهي له عن حرمة، فإذا عزمتم [فـ]ـأخبروني أعلمكم بما في هذا الأمر”.
ولما عزموا على تنفيذ الأمر “اجتمع رأيهم على أن عاودوا المرأة في أمره”، وكان المخطط الانقلابي لديها جاهزا فدخل أحد قادتهم إليها فقالت: “إنه ليس من الدار بيت إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت، فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا من الطريق، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه من دون الحرس، وليس من دون قتله شيء، وإني سأضع في البيت سراجا وسلاحا” ليُستعان بهما على قتله.
نجحت عملية الاغتيال التي رسمتها السيدة “آزاذ” بتخطيط مُحْكَم، وقادتْ تنفيذها برابطة جأش أدهشت رجالها. ثم إنها استمرت عقب قتله تعمل مع رجالها للتعمية على ما حدث لصرف أنصار الأسود العنسي عن المبادرة بثورة مضادة.
فأثناء تنفيذ الاغتيال تعالت أصوات منكَرة من العنسي وهو يصارع الموت، وحينها “ابتدر الحرسُ إلى المقصورة (= غرفته خاصة)، فقالوا: ما هذا ما هذا؟!”، فـ”قالت المرأة: النبيُّ يوحَى إليه! فرجعوا”!! وكان لعملها هذا دور مركزي تاريخي في ترسيخ الإسلام في البلاد اليمنية إلى الأبد.
نفوذ واسع
وفي الدولة العباسية الثانية؛ بلغت الجارية شَغَب (ت 321هـ/933م) -وكانت أم الخليفة العباسي المقتدر بالله (ت 320هـ/932م)- من النفوذ والتحكم ما جعلها في سنة 306هـ/918م تأمر “قهرمانة (= مديرة أعمال/كاتبة خاصة) لها تُعرَف بـ«ثَمَل» أن تجلس بالتربة التي بنتها بالرصافة في كل يوم جمعة، وأن تنظر في المظالم التي تُرفع إليها في القصص (= الشكايات)، ويحضر في مجلسها القضاة والفقهاء”؛ كما في ’البداية والنهاية’ لا بن كثير.
وفي ’المنتظم’ لابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) أنها “كانت لها أموال عظيمة تفوق الإحصاء، كَانَ يرتفع (= يدخل) لها من ضِياعها في كل عام ألف ألف دينار (= اليوم 200 مليون دولار أميركي تقريبا)، وكانت تتصدق بأكثر ذلك، وكانت تواظب على مصالح الحاج (= الحُجّاج)، وتبعث خزانة الشراب (= الأدوية) والأطباء معهم، وتأمر بإصلاح الحِياض” التي يستقي منها الناس في طريق الحج بين بغداد ومكة.
وقد دفعت ضريبةَ نفوذها محنةً دامية قام بها القاهر بالله (ت 339هـ/950م) الذي أعقب ولدها في الخلافة، كما ترددت أصداء سيطرتها على عاصمة الخلافة العباسية بغداد في الغرب الإسلامي وتحديدا الأندلس الأموية.
فكانت هيمنتها على صناعة القرار سببا في إعلان أمير الأندلس القوي عبد الرحمن الناصر (ت 350هـ/961م) نفسه خليفة للمسلمين أجمعين أواخر سنة 316هـ/928م. يقول الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘: “فلما بلغه ضعف الخلافة بالعراق وظهور الشيعة العُبَيْدية (= الفاطميون) بالقيروان؛ رأى أنه أحق بإمرة المؤمنين”.
وتتواصل الأدوار الخطيرة التي أسهمت بها النساء في أروقة الخلافة العباسية حتى تصل إلى حد الانقلاب على خلفاء وتنصيب آخرين. ومن ذلك الخطة الماكرة للانقلاب على الخليفة العباسي المتقي لله (ت 357هـ/968م)، وتنصيب المستكفي بالله (ت 338هـ/949م) مكانه.
فقد رسمت خطة ذلك الانقلاب وأشرفت على تنفيذها بنجاح إحدى نساء بغداد كانت “تتكلم بالعربية والفارسية من أهل شيراز جزلة شهمة فهِمَة..، فلمّا تمت للمستكفي الخلافة غيّرت اسمها وجعلته «عَلَم»، وصارت قهرمانة المستكفي واستولت على أمره كلّه”؛ طبقا للمؤرخ ابن مسكويه (ت 421هـ/1030م) في ‘تجارب الأمم‘.
وفي أقصى الشرق الإسلامي أيام الدولة السامانية؛ يخبرنا ابن الأثير -في ’الكامل’- أن والدة الأمير نوح بن منصور الساماني (ت 387هـ/998م) “كانت تحكم في دولة ولدها، وكانوا يصدرون عن رأيها” في تدبيرهم لشؤون المملكة.
وقريبا من الدولة السامانية مكانا وزمانا؛ كانت السيدة والدة مجد الدولة البويهي (ت 419هـ/1029م) في عاصمة البويهيين بالرّيّ (طهران اليوم) “تدبر المملكة وترتب الأمور”، وإليها يرجع رجال الدولة من الوزراء والكتّاب “في تدبير المُلك وعن رأيها يصدرون.. في مباشرة الأعمال”؛ كما في ’الكامل’ لابن الأثير.
وحين شبّ ابنها مجد الدولة عن الطوق وأفسدته حاشيته عليها فأراد أن ينقلب عليها؛ خاضت ملحمة بطولية حتى أقصته عن الحكم سنة 397هـ/1008م، وأجلست ابنها الثاني الملقب “شمس الدولة” مكانَه، ولما تغير هو الآخر عليها لمرض أصابه أبعدته عن السلطة، ثم “عزمت على قبض شمس الدولة فهرب” إلى خارج البلاد؛ طبقا للمؤرخ الإمام سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في ’مرآة الزمان‘.
ويصف سبط ابن الجوزي كفاءة أسلوب هذه المرأة في إدارة الحكم؛ فيقول إنها “ساست السيدة المُلك ودبّرت الأمور أعظم من الرجال، وكانت تجلس من وراء ستر خفيف والعارض (= قائد الجيش) والوزير جالسان بين يديها يخاطبانها وتخاطبهما، وهما ينفذان الأمور”.
تقليد مستجدّ
وعلى غرار مناطق عديدة من المشرق الإسلامي؛ عرفت بلاد المغرب مشاركة نسوية لافتة في شؤون الحكم إدارة ونفوذا، ولعل مما شجع على ذلك ما عُرف به الملوك الفاطميون من انتهاج سياسة عملية نفعية (براغماتية)، كان من ملامحها الانفتاح على حكم النساء في أطراف دولتهم، والسماح به ما دام يمنحهم التبعية والسيطرة على البلاد، ولا سيما في الغرب الإسلامي والجنوب باليمن.
ومن النماذج المبكرة لذلك في بلاد المغرب، وتحديدا في دولة بني زيري الصنهاجية بتونس أيام كانت إمارة تابعة للدولة الفاطمية بمصر؛ ما امتلكته من نفوذ سياسي قوي الأميرةُ أم ملّال بنت المنصور بن بُلُقِّين ابن زِيري الصنهاجي (ت 414هـ/1023م).
فهذه السيدة لم تكتف بأن تكون شريكة في الحكم لأخيها أبي مَنّاد باديس نصير الدولة (ت 406هـ/1016م)، بل سعت أيضا لبناء ما تتطلبه تقوية نفوذها داخليا من روابط سياسية خارجية، أي أنها كانت تحتفظ بعلاقات دبلوماسية موازية ومكافئة -إن لم تكن أقوى- لتلك التي يحوزها أخوها الأمير!!
فالمؤرخ ابن عذاري المراكشي (ت 695هـ/1297م) يخبرنا -في ’البيان المُغْرِب’- أنه حين “أخرج نصير الدولة هدية جليلة إلى الحاكم” بأمر الله (ت 411هـ/1021م) خليفة الفاطميين بمصر، وقد كان يدين له بالتبعية السياسية؛ وجهتْ أخته السيدة أم ملّال “إلى السيدة أخت الحاكم (= ست المُلك/سيدة المُلك بنت العزيز بالله الفاطمي توفيت 415هـ/1025م) هدية أيضا” لما كان لها هذه المرأة من حضور قوي في تدبير الدولة الفاطمية؛ كما سنرى.
وحين توفي أخوها الأمير نصير الدولة “خرج إليها المنصور بن رشيق (والي القيروان ت بعد 407هـ/1017م)، وقاضي القيروان والمنصورية وشيوخها، ومن كان بها من الصنهاجيين، فعزَّوْها في أخيها”. وبعد تولي ابن أخيها الصنهاجي (ت 454هـ/1065م) “دخل الناس يهنئون السيدة بولايته”.
واستمر احترام رجال الدولة الصنهاجية في تونس للسيدة أم ملال حتى لحظة تشييعها إلى قبرها؛ فحين مرضت مرض موتها كان “شرف الدولة يصل إليها في كل يوم عائدا ومتفقدا، فيجلس عندها ويأذن لرجاله وعبيده يدخلون إليها ثم ينصرفون”، وعندما توفيت “صُلِّي على جنازتها بالبنود (= الرايات/الأعلام) والطبول والعماريات (= هوادج النساء).. [والجميع] بحال من التشريف لهذه الجنازة لم يُرَ لمَلِكٍ ولا لسُوقةٍ (= عامة الناس) مثلُها”؛ طبقا لابن عذاري المراكشي.
وتقودنا العلاقة السياسية التي أنشأتها هذه الأميرة الصنهاجية مع السيدة إلى الكشف عما كان لهذه السيدة من نفوذ وهيمنة بالغة في أروقة صنع القرار في عاصمة الدولة الفاطمة القاهرة، حتى إنها أنشأت لها إدارة موازية لإدارات الدولة الرسمية كانت تُعرف بـ”دواوين السيدة ست الملك”؛ كما يخبرنا المؤرخ الدولة الفاطمية المقريزي (ت 845هـ/1441م) في كتابه ‘اتِّعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء‘.
تدخّل حاسم
وحين تغيرت أحوال أخيها الحاكم بأمر الله وزاد ظلمه وإرهابه للناس شكَوْا أمرَه إليها لما يعلمونه من نفوذ كلمتها عنده، فما كان منها إلا أن “وعدتهم إحسان التدبير في كفّ شره، وإجمال النظر في أموره وأمره، ولم تجد فيه حيلة يُحسم بها داؤه إلا العمل على إهلاكه..، وأعملت الرأي في ذلك وأسرّته في النفس إلى أن وجدت الفرصة متسهّلة فابتدرتها..، ورتبت له مَنْ اغتاله”؛ حسب رواية ابن القلانسي التميمي (ت 555هـ/1160م) في ’تاريخ دمشق’.
ويفيدنا المقريزي بأن ست المُلك بعد اغتيالها لأخيها الحاكم قررت تنصيب أحد أبنائه الصغار مكانه، فأمرت رجال الدولة بـ”أخذ البيعة للظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم (ت 427هـ/1037م)” الذي كان عمره آنذاك 16 سنة. وبعد أن استقر لها الأمر بما أرادته “قتلت جميع من اطّلع على سرها” ممن أشركتهم معها في التخلص من أخيها!!
وحسب ابن عذاري المراكشي؛ فإن ست المُلك بعد ذلك “ضبطت المملكة وقوّمت الأمور بحسن رأي وتدبير. وكان الوزير عمار (بن محمد الملقّب بخطير المُلك ت 412هـ/1022م) فُوِّض إليه الأمر في النظر في الدواوين والأموال والكتابة وغير ذلك من خدمة الخلافة، فأمرت بقتله فقُتل. وباشرت تدبير المملكة، فلا ينفذ أمرٌ -جَلَّ أو قَلَّ- إلا بتوقيع يخرج عنها بخط أبي البيان الصقلي (ت بعد 411هـ/1021م)”، وكان كبير مماليكها.
ويقدم لنا المقريزي -في ‘اتعاظ الحنفا‘- خلاصة رؤيته للحقبة التي استقلت بها ست الملك بتصريف شؤون الحكم؛ فيقول إنها “دبرت أمور الدولة بعد فقد أخيها الحاكم بأمر الله خمس سنين وثمانية أشهر، أعادت فيها للمُلك غضارته، واستردّت بهجته، وملأت الخزائن بأصناف الأموال، وقلدت الأكفاء جلائل الأعمال، واصطنعت (= استقطبت) الرجال”!!
ثم استمر النفوذ النسوي في دولة الفاطميين مع السيدة رَصَد النوبية (ت بعد 480هـ/1086م) والدة الخليفة الفاطمي المستنصر بالله بن الظاهر (ت 487هـ/1094م)، الذي ارتقى عرش السلطة وهو في السابعة من عمره سنة 427هـ/1037م، فكانت والدته “متغلّبة على دولته، وكانت تصطنع الوزراء وتولّيهم، وكانوا يتخذون الموالي (= الجنود المماليك) من الأتراك للتغلّب على الدولة، فمَنْ استوحشت منه أغْرَتْ به المستنصرَ فقتله”؛ وفقا لابن خلدون (ت 808هـ/1406م) في تاريخه.
وعلى عكس ما اتسم به عهد تحكم ست الملك من استقرار وازدهار في الدولة؛ فإن تجربة السيدة رَصَد في السلطة لم يكتب لها التوفيق إذا ما استثنينا السنوات التسع الأولى، التي استعانت فيها بوزير ست المُلك القوي أبي القاسم علي بن أحمد الجَرْجَرَائي (ت 436هـ/1045م).
حصيلة كارثية
وقد دفعت الحصيلةُ السيئة لتدبير المستنصر وأمه للحكم مؤرخا حصيفا عاش قريبا من ذلك العصر مثل ابن القلانسي إلى أن يرسم صورة بالغة القتامة للعهد المستنصري؛ فنجده يقول في ‘تاريخ دمشق‘: “وفي أيامه ثارت الفتن.. وغَلَت الأسعار وقَلّتْ الأقوات، واضطربت الأحوال واختلت الأعمال، وحُصِر في قصره وطُمع في خلعه لضعف أمره، ولم يزل الأمر على هذه الحال إلى أن استدعَى أمير الجيوش بدر الجَمَالي (ت 487هـ/1096م) من عكا إلى مصر سنة 465 (هجرية/1073م)، فاستولى على الوزارة والتدبير بمصر”.
لقد كان عهد حكم ابنها المستنصر -الذي تواصل ستة عقود معظمها تحت نفوذ أمه- مثالا في اعتلال الدولة واختلال نظامها، ويكفي ما عانته مصر في زمنه من “الشدة المستنصرية” (457-464هـ/1066-1073م) التي كانت السبب البعيد في تدهور الدولة جراء ضعف مكانة “الخلفاء” الفاطميين، وما تبع ذلك من استفتاح لحقبة حكم “الوزراء الأقوياء” بتولية بدر الجَمَالي، وهي الحقبة التي تواصلت حتى نهاية الدولة الفاطمية على أيدي الزنكيين بواسطة أعوانهم الأيوبيين سنة 567هـ/1174م.
وإذا كان الأيوبيون قد أنهوا حكم الفاطميين؛ فإنهم ورثوا كثيرا من تقاليدهم في الحكم كان منها -على ما يبدو- ظاهرة نفوذ النساء في السلطنة ومشاركتهن في الحكم، وإن كان ذلك إنما حصل في أواخر دولتهم وتحديدا في إحدى بقايا ممالكهم في الشام.
فهذا الإمام الذهبي يحدثنا -في ’تاريخ الإسلام’- عن الصاحبة ضيفة خاتون (ت 640هـ/1242م) مبينا المكانة العالية التي تتبوّؤها داخل الأسرة الأيوبية الحاكمة، باعتبارها ابنةً للسلطان العادل أبي بكر (ت 615هـ/1218م)، وزوجةً للظاهر غازي (ت 613هـ/1216م) ملك حلب، ووالدةً لابنه وخليفته العزيز محمد (ت 631هـ/1234م)، وجدةً لابنه الناصر صلاح الدين الثاني (ت 659هـ/1261م) ملك دمشق!!
ويصفها الذهبي بأنها “كانت ملكة جليلة عاقلة”، ويقول إنها لما “مات ولدها العزيز تصرفت تصرف السلاطين ونهضت بالملك أتم نهوض بعدل وشفقة وبذل وصدقة وعقل وحذلقة (= التصرف بحذاقة)”، فقد “أزالت المظالم والمكوس (= الضرائب)..، وكانت تؤثر الفقراء والعلماء، وتحمل إليهم الصدقات الكثيرة، وما قصدها أحد إلا رجع بخير مَحْبُورا (= مسروا)، ولما توفيت غُلِّقتْ أبوابُ حلب ثلاثة أيام”!!
كما نجد قبل التاريخ أعلاه في الشام السيدة صفوة الملك زمرد خاتون بنت الأمير جاولي (توفيت 557هـ/1162م) وأم شمس الملوك (ت 557هـ/1162م) الذي بالغ “في الظلم والمصادرة..، فعاقب الناس بفنون قبيحة اخترعها”، ثم هدد بتسليم دمشق إلى الإفرنج “فظهر أمره للناس فأشفقوا من الهلاك خاصتهم وعامتهم، وأنهوا الأمر إلى زمرد.. فحملها دينها وعقلها على النظر بما يحسم الداء فلم تجد بدا من هلاكه، وأُشير عليها بذلك لما آيسوا من خيره، فسُرّ الأمراء والخاصة بمصرعه، وكثر الدعاء لها” بسبب قتلها لولدها الذي أهلك الحرث والنسل.
ويضيف الذهبي -في ’التاريخ’- أنها بعد هذه الواقعة عظم شأنها “وخضعت لها النفوس، ثم رتبت أخاه محمود بن بوري (ت 533هـ/1139م) في السلطنة، وكانت تدبّر ملكه إلى أن تزوج بها قسيم الدولة” عماد الدين زنكي (ت 541هـ/1146م) مؤسس الدولة الزنكية ووالد نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1173م).
خبرة ملهِمة
شكّلت سابقةُ ملكة سبأ -كما سبق ذكره- ذاكرةً سياسية قوية للمرأة اليمنية ظلت تشدها وتغذي طموحها إلى عرش السلطة وتولي تدبير الممالك؛ فكانت بلقيس نموذجا يمنيا حيا للاقتداء والمقارنة بدليل قول الشاعر اليمني عمرو بن يحيى الهيثمي (ت بعد 460هـ/1068م): قلتُ إذ عَظّموا لبلقيسَ عرشاً: ** دَسْتُ أسماءَ من ذُرى النَّجْم أسْمَى!!
وأسماء المقصودة هنا هي أسماء بنت شهاب الصُّلَيْحي (ت 479هـ/1086م) زوجة علي بن محمد الصليحي (ت 460هـ/1068م) مؤسس الدولة الصليحية باليمن، وقد “كَانَت من أعيان النِّسَاء وحرائرهن وكرائمهن، بِحَيْثُ تُقْصَد وتمدح..، وَكَانَ الصليحي لما تحقق كمالها وكل إليها التَّدْبِير وَلم يكن يُخَالِفهَا فِي غَالب أمرهَا، وَكَانَ يُجلها إجلالا عَظِيما، حَتَّى كَانَت مَتى حضرت مَجْلِسا لَا تستر وَجههَا بِشَيْء عَن الْحَاضِرين..، وفيهَا من الحزم وَالتَّدْبِير مَا لم يكن فِي نساء زمانها”؛ حسبما في ’السلوك في طبقات العلماء والملوك’ لمحمد بن يوسف الجندي اليمني (ت 732هـ/1332م).
وقد وقعت الملكة أسماء في الأسر لما قَتَل أمراءُ زَبيد بنو نجاح الحبشي زوجَها وأخاه وهم في طريقهم قادمين من الحج سنة 460هـ/1068م واحتزّوا رأسيهما، وذهبوا بأسماء إلى عاصمتهم زَبِيد.
في زبيد أخضعت أسماء للإقامة الجبرية “ووُكِّل بهَا مَنْ يحرسها..، فاحتالت وكتبت إلى ابْنهَا المكرّم تحضه على قتالـ[ـهم]..، ثمَّ جعلت الْكتاب فِي رغيف ودسته إلى فَقير وأمرته بإيصاله إلى وَلَدها المكرّم (أحمد بن علي ت 484هـ/1091م)، فَحَمله فحين وصل الْكتاب إلى المكرم.. خرج من فوره من صنعاء فِي ثَلَاثَة آلَاف فَارس”، ثم دخل زبيد وحرر والدته من أسر النجاحيين؛ طبقا للجندي في ’السلوك’.
وترسيخا للريادة اليمنية في حكم النساء؛ كان علي بن محمد الصليحي “يجل” زوجة ابنه أحمد المكرّم السيدة الحرة بنت أحمد الصليحية (ت 532هـ/1138م)، المشهورة بـ”أروى” أو “بلقيس الصُّغْرَى لرجاحة عقلهَا وَحسن تدبيرها للْملك وَغَيره”؛ وفقا للجندي الذي يصف ثقافتها فيقول إنها “كانت قارئة لكتاب الله تعالى، حافظة لكثير من أشعار العرب، عارفة بالتاريخ، تُفضّل بالمعرفة على كثير من الملوك”!!
تجربة متوارثة
وهكذا خطت المرأة الصليحية خطوة أوسع في ممارسة السلطة؛ إذْ لم تكتف أروى بالمشاركة في القرار السياسي كما فعلت أسماء مع زوجها، بل تولت -في سابقة على مستوى التاريخ الإسلامي- السلطة بنفسها حين مات زوجها أحمد المكرّم الصليحي.
وكان الصليحي الوالد “يأمر أَسمَاء بإكرامها وَيَقُول هِيَ وَالله كافلة ذرارينا وحافظة هَذَا الْأَمر على من بَقِي منا”، وقد تحققت فراسته فأوكل إليها المكرم “تَدْبِير ملكه.. فاستعفته.. فَلم يفعل”، وسبب استعفائها ما تعرفه في أحوال اليمن أيامها من اضطرابات.
ولم تهدأ نفس الحرة أروى حتى ثأرت لأصهارها فقتلت قاتل والد زوجها وآسر حماتها، وكانت تقيم مُلكَها “بِرَجُل يذبُّ عَنْهَا”؛ طبقا للجندي في ’السلوك’. وبذلك استمر حكمها زهاء خمسين سنة (484-532هـ/1091-1138م) ظلت فيها تتبع -سياسيا ومذهبيا- لمركز الدولة الفاطمية الشيعية في مصر.
استمرت التجربة اليمنية النسائية في الحكم بعد الدولة الصليحية، لكنها انتقلت هذه المرة إلى بلاطات أسَر الحُكم السُّنية الانتماء في عهود متعددة من التاريخ السياسي لليمن؛ ففي عصر التوسع الأيوبي إلى اليمن كانت والدة الملك الناصر أيوب ابن سيف الإسلام طُغْتِكِين (ت 611هـ/1214م) ملك اليمن قد “تغلبت على زبيد وضبطت الأموال، وبقيت متلفتة إلى مجيء رجل من بني أيوب ليقوم في المُلك وتنقاد له الأمراء، وذلك في حدود نيف وستمئة” أي نحو 1209م.
“فبعثت إلى مكة من يكشف لها الأمور، فوقع مملوكها بسليمان شاه (= المظفَّر سليمان شاه بن شاهنشاه الأيوبي المتوفى 649هـ/1251م)، فسأله عن اسمه ونسبه فأخبره، فكتب إليها، فطلبته فسار إلى اليمن، وقدم على أم الناصر فتزوجته وملّكته، وعظُم شأنه إلا أنه ملأ البلاد ظلما وجورا، واطّرح زوجته وأعرض عنها وتزوج عليها”؛ كما في ’تاريخ الإسلام’ للذهبي.
كما لم تخلُ الدولة الرسولية في اليمن من سيدة ذات علاقة بالحكم والشأن العام؛ فهذه الأميرة الدار الشمسي (ت 695هـ/1296م) ابنة السلطان الملك المنصور عمر بن علي بن رسول (ت 648هـ/1250م)، وكانت “امرأَة عاقلة عفيفة حازمة لبيبة، وكانت تحب أخاها المظفر (ت 694هـ/1295م) حبّاً شديداً”؛ طبقا للمؤرخ موفق الدين الخزرجي الزَّبيدي (ت 812هـ/1409م) في ’العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية’.
ومما يدل على دهاء هذه الأميرة أنها أدارت أزمة شغور منصب رأس السلطة الناجمة عن وفاة والدها في غياب ولي عهده أخيها المظفر، “فشمّرت وبذلت الأموال للرجال وحفظت المدينة حتى وصل أخوها من المهجم (= منطقة الحُدَيْدَة) إلى زبيد ملكها فهي أول مدينة ظهر فيها ملكه، ثم كانت هي السبب في أخذ الدملؤة (= قلعة على جبل)..، ولذلك كان يبرّها ولا يخالف لها رأْياً”.
محطة فارقة
بوفاة آخر سلاطين الدولة الأيوبية بمصر الصالح نجم الدين أيوب (ت 647هـ/1249م)، ومقتل ولي عهده وابنه الوحيد تُورانْشاه (ت 648هـ/1250م) على أيدي المماليك الذين أدركوا خطره على نفوذهم؛ سرعان ما “اتفق أهل الدولة على إقامة شجرة الدر بنت عبد الله (أرملة السلطان أيوب المتوفاة 655هـ/1257م).. في مملكة مصر”؛ حسبما يفيدنا به القاضي المؤرخ تقي الدين المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘.
ومن لحظة ارتقاء “عصمة الدين شجرة الدر” إلى سدّة العرش بالقاهرة؛ بدأت بالفعل دولة سلاطين المماليك طبقا لرأي المقريزي الذي يقول في تاريخه ‘السلوك‘: “وهذه المرأة -شجرة الدر- هي أول من ملك مصر من ملوك الترك المماليك”!!
ويحدثنا مؤرخ الدولة الأيوبية ابن واصل الحموي (ت 697هـ/1298م) -في ‘مفرج الكروب بأخبار بني أيوب‘- بأن شجرة الدر “دُعي لها باسم السلطنة بديار مصر، وخُطب لها على المنابر مدة ثلاثة أشهر، ولم يَجْرِ هذا في الإسلام”!!
ويؤكد الإمام الذهبي حيازة شجرة الدر لـ”شرعية المنابر” موردا صيغة الخطبة لها ولقبها الرسمي فيها، ومثنيا على سيرتها؛ فيقول في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘: “خُطِب لها ثلاثة أشهر…، وكانت حسنة السيرة…، وكان الخطباء يقولون: «واحفظ اللهم الحرمة الصالحة ملكة المسلمين عصمة الدنيا والدين: أم خليل المستعصمية صاحبة السلطان الملك الصالح [أيوب]»!!
وهكذا أصبحت شجرة الدر أول امرأة تتولى سدة الحكم منفردةً -ودون وجود أي حاكم صوري يخطب باسمه- في دولة سنية مركزية مثل مصر، والثانية التي تفعل ذلك على مستوى العالم الإسلامي بعد سابقتها الملكة اليمنية أرْوَى الصُّلَيْحِية التي مرّ ذكرها. وبذلك ندرك عدم دقة التعميم الذي أطلقه ابن واصل الحموي بقوله إن حدث تولية شجرة الدر “لم يَجْرِ.. في الإسلام”!!
ورغم أن حكم شجرة الدر المنفرد لم يكن يشكّل سابقة تاريخية من نوعه في العالم الإسلامي؛ فإنها أُجبِرت جرّاء ضغط الرأي العام الرافض لتوليها قيادة البلاد، ومناهضة أمراء الأيوبيين في الشام لحكمها، على التنازل لزوجها الجديد عز الدين أيْبَكْ التركماني (ت 655هـ/1257م) ليكون أول سلطان مملوكي في دولة المماليك الناشئة.
وفي ذلك يقول ابن خلدون في تاريخه: “استقلت الدولة بمصر للتُّرك، وانقرضت منها دولة بني أيوب بقتل المعظّم [تورانشاه] وولاية المرأة وما اكتنف ذلك؛ فامتعضوا (= الأمراء الأيوبيين) له..، واتصل الخبر بمصر وعلموا (= قادة المماليك) أن الناس قد نقموا عليهم ولاية المرأة (= شجرة الدر)، فاتفقوا على ولاية زعيمهم أيْبَكْ.. فبايعوا له -وخلعوا أم خليل- ولقّبوه بالمُعِزّ، فقام بالأمر وانفرد بمُلك مصر”.
وبذلك انتهت تجربة سلطنة شجرة الدر التي لم تعمّر إلا أشهرا، وإن كانت نجحت -قُبيلها وأثناءها- في قيادة البلاد وسط ظروف عاصفة، طبعتها أجواء الوفاة المفاجئة لزوجها السلطان القوي وهو ينازل الحملة الصليبية السابعة في شمالي مصر سنة 647هـ/1249م، والتي تمكنت هي من إدارة وقائعها بحكمة وإحكام، فقد “أبلى أمراء الترك.. بلاءً حسنا، ووقفوا مع شجرة الدر زوج السلطان تحت الرايات ينوّهون بمكانها، فكانت لهم الكَرّة وهزم الله العدو”؛ حسب ابن خلدون.
نموذج نادر
توصلت شجرة الدر إلى تسوية مع الصليبيين تقوم على مقايضة تسليمهم دمياط والجلاء عن مصر بالإفراج عن قائد حملتهم ملك فرنسا لويس التاسع (ت 669هـ/1270م). وعن هذا الإنجاز العسكري التاريخي -الذي شكل نهاية الحملات الصليبية على منطقة مصر والشام حتى عصر الاستعمار الأوروبي الحديث- وربطه بتولية شجرة الدر السلطة؛ يقول ملك حماة الأيوبي المؤرخ أبو الفداء عماد الدين (ت 732هـ/1332م) في كتابه ‘المختصر في أخبار البشر‘:
“خُطِب لشجرة الدر على المنابر، وضُرِبت السكة (= نقود العُمْلة) باسمها، وكان نقش السكة: «المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة المنصور خليل». ولما استقر ذلك (= توليها الحكم)؛ وقع الحديث مع ريد إفرنس (= ملك فرنسا) في تسليم دمياط بالإفراج عنه… فسلموها… وأطلق ريد إفرنس، فركب في البحر بمن سَلِمَ معه..، ووردت البشرى بهذا الفتح العظيم إلى سائر الأقطار”!!
كما كانت مدة حكم شجرة الدر فاتحة لحقبة تاريخية مركزية في تاريخ الإسلام، أعقبت ضياع عاصمة الخلافة بغداد تحت سنابك خيل المغول سنة 656هـ/1258م؛ إذْ تسلّم فيها سلاطين طبقة المماليك (49 سلطانا) مقاليدَ السلطة في قلب العالم الإسلامي، مؤسسين بذلك دولتهم التي أخذت على عاتقها مهمةَ قيادة هذا العالم بأضلاعه المركزية الثلاثة (الحجاز ومصر والشام)، وحماية الحرميْن الشريفين والمسجد الأقصى المبارك طوال نحو ثلاثة قرون (648-923هـ/1250-1517م).
وفي مطالع القرن التاسع الهجري/الـ15م؛ نلاقي مثالا فريدا من نوعه لتولي النساء السلطة استقلالا في العراق، فيما يبدو أنه استنساخ للتجارب اليمنية والمصرية المملوكية، خاصة أن صاحبتها السلطانة المغولية تندو (ت 822هـ/1419م) ابنة السلطان حسين بن أويس (ت 784هـ/1382م) كانت “قدمت مع عمها أحمد بن أويس (سلطان العراق ت 813هـ/1410م) إلى مصر فتزوجها الظاهر برقوق (السلطان المملوكي ت 801هـ/1398م) ثم فارقها”؛ وفقا للإمام السخاوي (ت 902هـ/1497م) في ‘الضوء اللامع‘.
ويضيف السخاوي أن تندو هذه “كانت بارعة الجمال.. فتزوجها ابن عمها شاه ولد.. (ت 814هـ/1411م)، فلما رجعوا إلى بغداد ومات [عمها] أحمد أقيم شاه ولد في السلطنة، فدبّرت (= تآمرت) عليه زوجته هذه حتى قُتل وأقيمت في السلطنة.. واستقلت بالمملكة مدة، وذلك في سنة تسع عشر (819هـ/1416م)”.
ثم يكشف لنا هذا الإمام عن توسع ملك السيدة تندو جنوبي العراق وشماليه، ونيلها كل مظاهر الشرعية التي تعطى للملوك والسلاطين من الرجال؛ فقد “صار في مملكتها الجزيرةٌ [الفراتية] وواسط، يُدعَى لها على منابرها وتُضرَب السكة باسمها إلى أن ماتت”، وكانت مدة حكمها منفردة في السلطة ثلاث سنوات.
نماذج متأخرة
تواصلت ظاهرة السلطنة النسائية في العالم الإسلامي حتى العصر الحديث؛ فكان من نماذجه المعبّرة زمانا ومكانا الأميرة العربية غالية البقمية (ت بعد 1230هـ/1815م)، التي تنتمي إلى قبيلة البقوم المتوطنة في الحجاز بالقرب من الطائف مما يلي منطقة نجد.
ولعل أول من كتب -في المصادر العربية- عن هذه الأميرة الحجازية -ذات الدور المثير للعجب- هو مؤرخ قبائل الجزيرة العربية المعاصرة محمد بن حمد البسام التميمي النجدي العراقي الأصل (ت 1246هـ/1830م).
فقد سجّل -في كتابه ‘الدرر المفاخر في أخبار العرب الأواخر‘- معلومات قيمة -وهو معاصر لأحداثها- عن هذه السيدة وزعامتها لقومها، والدور التاريخي الذي أسهمت به في لحظة تاريخية مفصلية، طبعها الصراع الدامي بين جيوش الأمير السعودي ووالي مصر العثمانية محمد علي باشا (ت 1265هـ/1848م) وقادته العسكريين في الحجاز.
فأثناء حديث البسام عن قبائل الحجاز؛ قال: “ومنهم ‘البُقُوم‘، ولكن الحاكمة عليهم امرأة اسمها ‘غالية‘، ذات رأي وتدبير وحزم وشجاعة لم يُدركها أشدُّ الرجال، وهذه المرأة المذكورة في القلعة المسماة: ‘تُرَبَة‘. وأما بلدها فبلد واسعة أرزاقها تأتيها من الطائف ومن مكة المشرفة”.
كما ترجم لها المؤرخ خير الدين الزِّرِكْلي (ت 1396هـ/1976م) -في كتابه ‘الأعلام‘- فوصفها بأنها “اشتهرت بالشجاعة ونُعتت بالأميرة. كانت أرملة رجل من أغنياء البُقُوم من سكان تُرَبَة على مقربة من الطائف من جهة نجد”.
ثم يوضح حساسية موقع هذه القبيلة في الجغرافيا السياسية لممالك تلك الأيام، فيقول: “وكان أهل تُرَبَة أسبق أهل الحجاز إلى موالاة نجد، واتبعوا مذهب ‘الحنابلة‘ الذين سماهم الترك -ثم الإفرنج- بالوهابية. ولأهل تُرَبَة مواقف معروفة فيما كان من الحروب بين النجديين والتُّرك والهاشميين”.
ويقدم لنا الزركلي وصفا لإسهام الأميرة غالية البقمية في تلك الحروب التي تواصلت ثلاث سنوات ما بين 1227هـ/1812م-1230هـ/1815م، وصدت فيها غالية بدهائها وثباتها ثلاث حملات مصرية عثمانية على منطقتها التي كانت تشكل بوابة إستراتيجية إلى بلاد نجد.
يقول الزركلي ناقلا عن أحد مصادره: “لم يحصل من قبائل العرب القاطنين بقرب مكة مقاومة أشد مما أجراه عرب البُقُوم في تُرَبَة..، وقائد العربان في ذلك الوقت امرأة أرملة اسمها غالية كان زوجها أشهر رجال هذه الجهة، وكانت هي على غاية من الغنى، ففرقت جميع أموالها على فقراء العشائر الذين يرغبون في محاربة التُّرك، واعتقد المصريون أنها ساحرة!! وأن لها قدرة على إخفاء رؤساء الوهابيين عن أعين المصريين!!..، وكان العرب محافظين على أسوار المدينة بشجاعة، ومستبشرين بوجود غالية معهم، وهي المقدمة عليهم”!!
محطة مفصلية
وبأسف بالغ؛ رصد المؤرخ المصري الذي كان شاهدا على ذلك العصر عبد الرحمن الجَبَرتي (ت 1237هـ/1825م) -في تاريخه ‘عجائب الآثار‘- هزائم الجيش المصري العثماني أمام هذه السيدة العربية؛ فقال إن قواته بقيادة مصطفى بك (ت بعد 1229هـ/1814م) توجهت في 2 صفر 1229هـ/1814م “من الطائف إلى ناحية تُرَبَة والمتأمّر عليها امرأة، فحاربتهم وانهزم منها شر هزيمة، فحنق عليه الباش” محمد علي والي مصر.
ويضيف الجبرتي أنه في جمادى الأولى من السنة نفسها أعادت القوات المصرية -تحت قيادة جديدة تولاها القائد طوسون باشا (ت 1231هـ/1816م)- الهجوم على “ناحية تُرَبَة التي بها المرأة التي يقال لها ‘غالية‘، فوقعت بينهم حروب ثمانية أيام، ثم رجعوا منهزمين ولم يظفروا بطائل”!!
وأمام تلك الهزائم المتتالية؛ قرر والي مصر القوي محمد علي باشا قيادة جيشه بنفسه لمنازلة الإمارة البقمية الصغيرة، كما يقول حمد البسام النجدي الذي دوّن ملابسات هذه المعركة الأخيرة الفاصلة؛ كاشفا عن سعي هذه الأميرة البدوية لحماية إمارتها الصغيرة بمحاولتها الذكية استثمار الصراع بين أكبر قوتين إقليميتين في الجزيرة العربية آنذاك.
فقد ذكر أنه لما وصل والي مصر إلى منطقة الأميرة غالية وحاصر حصنها “أبت الطاعة له والدخول تحت أمره، فبعثت إلى الوهابي (= الأمير عبد الله بن سعود ت 1234هـ/1819م) تستنجد وتستعينه على مصادمة الوزير (= محمد علي) وتعرّفه بهمته وعزمه، وأنه لا بد مُنازلها (= مُحاربُها)، فبعث الوهابي إليها أخاه فيصل (= فيصل بن سعود الكبير ت 1233هـ/1818م) في أربعين ألفا..، فلما قدم فيصل إليها بعدده فإذا هي في أتم التأهب”.
لكن موازين القوة غير المتكافأة أدت إلى هزيمة جيش غالية وحلفائه السعوديين في هذه الوقعة الحاسمة التي تسمى في التاريخ السعودي بـ”معركة بسل”.
والطريف أن الجبرتي يصف أجواء الاحتفالات الرسمية والشعبية التي عامت عاصمة مصر العثمانية بانتصار جيش محمد علي -الذي كان بعض ضباطه من الإنجليز وفقا للزركلي- في حملته الأخيرة على “الإمارة البقمية” الصغيرة، وكأنما كان ذلك الانتصار هزيمة لجيوش جرارة كانت تدافع عن عاصمة إمبراطورية عريقة راسخة الأركان!!
فمؤرخ مصر الشهير يذكر أنه في 9 من ربيع الأول 1230هـ/1815م “وصلت قافلة طياري من الحجاز.. وعلى يدهم مكاتبات وفيها الأخبار والبشرى بنصرة الباشا على العرب، وأنه استولى على ‘تُرَبَة‘ وغنِم منها جمالا وغنائم وأخذ منهم أسرى، فلما وصلت الأخبار بذلك انطلق المشرّدون إلى بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش، وضربوا (= العساكر) في صبحها مدافع كثيرة من القلعة” ابتهاجا بهزيمة السيدة غالية البقمية!!
وعن مصير هذه الأميرة الحجازية؛ يروي لنا المؤرخ حمد البسام الخلاف القائم في ذلك بين الرواة، لكنه يرجّح القول القاضي بـ”أنها لما انهزم فيصل وأيقنت [غالية] بالقهر أخذت ماعزاً وتوجهت إلى بلد الوهابي المسماة ‘الدرعية‘..، وملك الوزير (= محمد علي باشا) أرضها وديارها وأموالها، وأما عدد عساكرها فسبعة عشر ألفا ولم يتبعها منهم أحدٌ”!!
وهكذا أزاحت معركة بسل أخرى العقبات أمام تقدم القوات المصرية العثمانية نحو معاقل الدولة السعودية الأولى، فتسنى لها خلال ثلاث سنوات فقط غزو معاقلها واجتياح عاصمتها الدرعية سنة 1233هـ/1818م، لتتقوض بذلك دعائمها وينتهي مصير أميرها عبد الله بالإعدام في العاصمة العثمانية إسطنبول بعد فترة اعتقال وجيزة قضاها بمصر، وكأنما كانت الأميرة غالية البقمية حصنا منيعا أمام هذا السقوط المدوّي الذي ظلت أصداؤها تتردد عقودا في أرجاء بلاد العرب!!
تجارب خاتمة
ويقودنا الرصد التاريخي -في موضوعنا هذا- إلى ما يبدو أنه آخر نماذجه التاريخية في نهاية النصف الثاني من القرن الـ14هـ/أوائل القرن الـ20م، أي قبل نحو قرن من الآن وتحديدا سنة 1348هـ/1930م، وإلى الشرق قليلا من شبه الجزيرة العربية حيث مملكة بهوبال الإسلامية الصغيرة وسط شبه القارة الهندية.
وبمثل غرابة الدور الذي أدته الإمارة البقمية السالفة الذكر، وقريبا من تاريخ سقوطها؛ تعاقبت على ملكة بهوبال عدة ملكات كانت إحداهن تعقب الأخرى على العرش. وهو ما سنلخص القول فيه هنا اعتمادا على مؤرخ أعلام الهند الإسلامية شيخ الإسلام عبد الحي بن فخر الدين الحسني (ت 1341هـ/1922م) في كتابه ‘نزهة الخواطر‘، وهو والد العلامة الشهير أبي الحسن النَّدْوي (ت 1420هـ/1999م).
فمن أشهر سلطانات بهوبال الملكة المثقفة شاهجهان بيكم/بيغَم (ت 1319هـ/1901م) التي هي إحدى بنات السلطان جهانكير محمد خان (ت 1263هـ/1846م)، ويصفها المؤرخ الحسني بأنها “الملكة الفاضلة الباذلة”.
ثم يضيف أنها تولت السلطة سنة 1263هـ/1846م خلفا لوالدها، فـ”جلست مجلس أبيها نواب جهانكير محمد خان بالاستحقاق من غير شقاق وهي ابنة تسع سنين..، وأتت إليها خلعة فاخرة من جهة ملكة بريطانيا” فيكتوريا (ت 1319هـ/1901م) التي كانت الهند حينها منضوية تحت لواء تاجها الاستعماري.
تولت الوصاية عليها والدته سكندر بيكم (ت 1285هـ/1868م) التي كانت الحاكمة الفعلية للبلاد، وفي كنفها تربت ابنتها شاهجهان التي تفرغت للتعلم حتى “حصلت الفنون وتعلمت الخط والكتابة واللغة الفارسية والإنشاء والشعر، واستفادت أدب الرئاسة والسياسة حتى برعت في ذلك الأقران، وامتازت بينهم في القدرة على ترجمة القرآن، وتحرير الرسائل الدينية، وتقرير المسائل الدولية”!!
وفي الثانية والعشرين من عمرها؛ تنازلت شاهجهان عن الحكم رسميا سنة 1276هـ/1858م و”فوضت عنان الرئاسة إلى أمها، واكتفت لنفسها بولاية العهد”؛ لكنها استعادت زمام الحكم لنفسها -بعد نحو عشر سنوات- إثر وفاة أمها فـ”جلست على مسند الرئاسة” حتى لحظة وفاتها.
وفي سنة 1288هـ/1871م تزوجت شاهجهان بعلّامة الهند صدّيق حسن خان الحسيني (ت 1307هـ/1890م) فكوّنا بذلك أسرة علمية حاكمة، مما قاد سلطنتهما الصغيرة إلى إطلاق نهضة علمية كبيرة برعاية الملكة، التي “أنفقت مالا عظيما على طبع المصحف والتفسير والحديث واللغة وغيرها من العلوم والفنون، وأسست المدرسة الجهانكيرية على اسم أبيها بدار ملكه”.
وقد أسفرت هذه الحركة الثقافية عن إحياء عظيم للتراث العربي الإسلامي بطباعة ونشر الكثير من مؤلفاته، وسرعان ما عمّت ثمارها وانتشرت أنوارها ليس في الهند فحسب وإنما في كبريات الأقطار العربية والإسلامية، فاستحقا بذلك وصفهما بأنهما “نَيِّرا الهند بل قمرا الشرق والغرب”؛ وفقا للأديب واللغوي اللبناني أحمد فارس الشدياق (ت 1301هـ/1884م) في كتابه ‘الجاسوس على القاموس‘.
وحسب الحسني؛ فقد عُرفت شاهجهان -في بلادها وخارجها- بأنها “صاحبة الفضل والكرم وربة النِّعَم، عمرت الديار وأحيت المدارس العلمية، وبنت المساجد العظيمة، وقررت الوظائف الفخيمة، وحفرت الآبار وغرست الحدائق والأشجار، وأحدثت العمائر الكبار، وأسبلت ذيول المنح والعطايا على أهل الفضل من أهل الهند، وأهل الحرمين الشريفين واليمن والعراق والشام وغيرها من البلاد”.
ومن مواقفها في السياسة الخارجية دعمُها للدولة العثمانية في حروبها؛ فقد ذكر الشدياق أنها أمرت خلال تلك الحروب بـ”إعانة الدولة العلية (= العثمانية) بمبالغ وفيرة، مما دل على جلالة قدرها وعظم برها”.
وقد نالت مقابل هذا الدعم تكريما عظيما من آخر السلاطين العثمانيين الأقوياء عبد الحميد الثاني (ت 1336هـ/1918م)؛ ففي سنة 1296هـ/1879م “ورد مثالان (= ميداليتان) عظيمان على اسمها، مع نيشان من الدرجة العليا -التي يقال لها ‘شفقة‘- من جهة السلطان عبد الحميد خان الغازي ملك الدولة العثمانية”؛ طبقا للحسني.
توفيت شاهجهان فخلفتها على عرش مملكتها ابنتها سلطان جهان بيكم (ت 1348هـ/1930م) التي “نشأت في مهد السلطة، وقرأت القرآن وترجمته..، وتعلمت الخط والكتابة، واللغة الفارسية والإنكليزية”؛ كما يوري المؤرخ الحسني.
أما في مجال التدبير السياسي وفن الحكم؛ فإن سلطان جهان “استفادت السياسة والرئاسة من جدتها سكندر بيكم”، وما إن توفيت والدتها شاهجهان حتى كانت مؤهلة لخلافتها على العرش، فـ”جلست على مسند الرئاسة.. فأخذت عنان السلطة بيدها الكريمة، وافتتحت الأمر بالكياسة والسياسة والرفق وحسن المعاملة”.
سارت سلطان جهان على خُطَى والدتها في تنمية سلطنتها عمرانيا وثقافيا؛ ولذلك “تقدمت الإمارة في عهدها في المدنية والرفاهة والتنظيم، وشجعت على نشر المعارف وساعدت في المشاريع التعليمية وتأليف الكتب المفيدة..، واختيرت رئيسة للجامعة الإسلامية بعَلِيكْرَه” ذات الصيت الواسع في شبه القارة الهندية!!