على مدى العقود الثلاثة الماضية، استفادت الشركات والمستهلكون من المبادلات التجارية عبر الحدود التي وفّرت إمدادات ثابتة من الإلكترونيات والملابس والألعاب وغيرها من السلع، مما ساعد على بقاء الأسعار منخفضة. لكن مع استمرار تأثير وباء كورونا والحرب في أوكرانيا على العلاقات التجارية والشركات، يبدو أن فترة الوفرة تشهد تغيّرا جزئيا.
في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” (The New York Times) الأميركية، قالت الكاتبتان جينا سمياليك وآنا سوانسون إن الاقتصاديين يناقشون ما إذا كانت الاضطرابات الأخيرة في سلسلة التوريد والصراعات الجيوسياسية ستؤدي إلى انعكاس أو إعادة تشكيل الإنتاج العالمي، إذ ستعود وحدات الإنتاج في الخارج إلى الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي تفرض مخاطر سياسية أقل. وإذا حدث ذلك، قد ينتهي الانخفاض المستمر منذ عقود في أسعار العديد من السلع أو حتى ينقلب في الاتجاه المعاكس، مما قد يؤدي إلى زيادة التضخم الكلي.
وبحسب المقال، فقد بدأ التغير يلاحظ في أواخر 2020 بعد ظهور وباء كوفيد-19، إذ ارتفعت تكاليف الشحن، وتصادم النقص في العرض مع الطلب المرتفع لتزيد أسعار السيارات والأثاث والمعدات.
ورغم أن القليل من الاقتصاديين يتوقعون استمرار الزيادات السريعة في الأسعار منذ العام الماضي، فإن السؤال المطروح هو ما إذا كانت الزيادات الطفيفة في أسعار السلع ستستمر. وترتبط الإجابة بما إذا كان التحول عن العولمة سيترسخ أم لا.
وقال رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول الشهر الماضي، عندما سُئل عن خطوة محتملة بعيدًا عن العولمة، “سيكون بالتأكيد عالمًا مختلفا، قد يكون فيه تضخم أعلى، وربما إنتاجية أقل، وسلاسل توريد أكثر مرونة وقوة”.
تكامل عالمي
وذكرت الكاتبتان أن فترة التكامل العالمي التي سادت قبل الوباء جعلت الكثير من السلع التي يشتريها الأميركيون أرخص. إذ أصبحت المصانع أكثر كفاءة بفضل أجهزة الحاسوب وغيرها من التقنيات، وخفضت الشركات تكلفة إنتاجها عن طريق نقل المصانع إلى الخارج، وسمح اعتماد حاويات الشحن الفولاذية وسفن الشحن الأكبر حجمًا بنقل المنتجات إلى كل مكان بأسعار منخفضة.
لكن هذه التغييرات كان لها عواقب على عمال المصانع الأميركيين الذين شهدوا اختفاء العديد من الوظائف. وقد ساعد رد الفعل السياسي العنيف على العولمة في وصول دونالد ترامب إلى السلطة من خلال تقديم وعود بإعادة المصانع إلى الولايات المتحدة؛ وشجعت حروبه التجارية والرسوم الجمركية المتزايدة بعض الشركات على نقل عملياتها من الصين إلى دول أخرى أقل تكلفة مثل فيتنام والمكسيك، وفق ما ذكرته الكاتبان.
وبحسب مقال نيويورك تايمز، كشفت الجائحة عن تأثير كرة الثلج الناتج عن سلاسل التوريد، إذ أدى إغلاق المصانع وتأخيرات النقل إلى صعوبة تأمين بعض السلع والقطع بما في ذلك أشباه الموصلات المهمة في صناعة الإلكترونيات والسيارات وغيرها، وزيادة تكاليف الشحن 10 مرات في غضون عامين فقط.
كما تسببت الحرب الروسية على أوكرانيا في تفاقم مشكلة سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار الغاز والسلع الأخرى في الأشهر الأخيرة، ودفع مؤشر التضخم -الذي يراقبه بنك الاحتياطي الفدرالي عن كثب- إلى 6.6% على مدي العام حتى مارس/آذار الماضي. وهذه أسرع وتيرة للتضخم منذ عام 1982، وتلامس مكاسب الأسعار أعلى مستوى منذ عقود عبر العديد من الاقتصادات المتقدمة، بما في ذلك منطقة اليورو وبريطانيا.
يتوقع العديد من الاقتصاديين توقف الزيادات في أسعار السلع المعمرة إلى حد كبير خلال الأشهر المقبلة، وبالتالي استقرار مكاسب الأسعار الإجمالية. ويساعد ارتفاع أسعار الفائدة الفدرالية على الحد من الشراء، حيث يصبح الاقتراض لشراء السيارات أو الآلات أو لوازم تحسين المنزل أكثر تكلفة. لكن لا تزال هناك تساؤلات حول ما إذا كانت أسعار المنتجات الرئيسية ستعود إلى الانخفاض المطرد المعتاد الذي مثل القاعدة قبل جائحة كورونا.
حقبة التضخم المرتفع
لم يتضح بعد مدى استعداد المصانع للعودة إلى أرض الوطن. وقد كان مؤشر إعادة التوريد الذي نشرته شركة الاستشارات “كيرني” سلبيًا في عامي 2020 و2021، مما يشير إلى أن الولايات المتحدة كانت تستورد المزيد من السلع المصنعة من البلدان منخفضة التكلفة.
لكن أبلغت المزيد من الشركات عن نقل سلاسل التوريد الخاصة بها من الصين إلى دول أخرى، وكان المسؤولون التنفيذيون الأميركيون أكثر تفاؤلًا بشأن جلب المزيد من وحدات التصنيع إلى الولايات المتحدة.
وقالت المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية نجوزي أوكونجو إيويالا إن البيانات تظهر أن معظم الشركات تخفف المخاطر من خلال بناء مخزوناتها وإيجاد موردين إضافيين في البلدان منخفضة التكلفة.
وأضافت أن هذه العملية قد تنتهي بدمج البلدان الأفقر في أفريقيا وأجزاء أخرى من العالم بشكل أعمق في سلاسل القيمة العالمية.
ووفق المقال، بدأت الشركات في مواجهة ضغوط لتسعير التكلفة الحقيقية لانبعاثات الكربون، مما قد يدفعها إلى تقريب المصانع من المستهلكين.
وحسب رئيس التحالف من أجل التصنيع الأميركي سكوت بول، فإن المخاطر الاقتصادية والسياسية، إلى جانب حسابات تكلفة الكربون، تشجع الشركات على تحويل تصنيعها تدريجيًا إلى مواقع أقرب إلى الولايات المتحدة.
كما أشار رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي آدم بوسن إلى أن تراجع العولمة لن يؤدي بالضرورة إلى زيادة التضخم على المدى الطويل. ولكن تباطؤ النمو يمكن أن يؤدي إلى تراجع الطلب وزيادة الأسعار، في وقت سيراقب فيه الاقتصاديون عن كثب المسار المتشابك للعولمة وأسعار السلع والتضخم.
ويرى كارلوس فيانا دي كارفالو، الاقتصادي السابق في بنك الاحتياطي الفدرالي في نيويورك والذي يشغل الآن منصب رئيس قسم الأبحاث في شركة الأصول البرازيلية “كابيتالو”، أنه من الممكن -ولكن ليس مؤكدًا- أن العالم ينتقل إلى عصر اقتصادي جديد يتميز بارتفاع التضخم وسط التغيرات في التكامل العالمي وتزايد القلق بشأن المناخ، مشيرًا إلى أنه من الصعب التنبؤ بأي شيء في الوقت الحالي.