الخرطوم – شوارع شبه خالية من المارة، محال تجارية موصدة الأبواب، نفايات متكدسة على الأرصفة، وأشخاص يتحركون زائغي الأعين في مهمة لتأمين أنفسهم من العطش والجوع، بينما تطوي سيارات صغيرة وكبيرة الإسفلت وعلى متنها راحلين إلى الولايات ليأمنوا الجوع والخوف، والعامل المشترك في كل ذلك هو حالة الصمت والوجوم التي تعتلي وجه الخرطوم وسكانها المقبلين على العيد.
هكذا تبدو الصورة في ضاحية “الكدرو” شمالي الخرطوم قبل ساعات من العيد، وبعد أيام من معركة كسر عظم بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في المكان.
وللمفارقة، فإن المشاهد السابقة رصدتها الجزيرة نت في الضاحية الواقفة بمدينة بحري بالعاصمة التي تشهد هدوءا نسبيا، على الأقل حتى اليوم السادس في روزنامة الحرب، فما بالك بالأحياء التي يحلق حولها الموت.
صورة قاتمة
في الشارع الرئيس الرابط بين بحري والطريق القومي المؤدي إلى ولاية نهر النيل المجاورة تبدو صورة الكدرو مغايرة لأحوالها في سائر الأيام، دعك من أن الوقت عيد.
لن تشد عينك صور أعمال الصيانة التي تجري للمنازل والطرقات في هذا التوقيت الهجري السنوي استعدادا لاستقبال العيد، ولن تلتقط أنفك أثناء عبور الطرق الجانبية شبه الخالية رائحة الكعك المخبوز في المنازل، ولن ترصد حج النساء المكثف نواحي الأسواق لأداء طقوسهن السنوية في الشراء كيفما اتفق، كما لن تضطر إلى التعامل مع الأطفال الذي يلهون في الشوارع بأمر ربات البيوت المشمرات عن ساعد الجد في أعمال النظافة.
وبالوصول إلى الشارع العام، يصادفك الهدوء الثقيل على النفس ذاته، وتفاجأ بأن المحال التجارية العاملة على أصابع العدد.
سعيد يس (43) عاما كان متجره من ضمن محال تجارية قليلة مشرعة الأبواب وسط ندرة شديدة في الزبائن والمتعاملين.
يؤكد يس -للجزيرة نت- أن عمليات الشراء تُدلل بوضوح على تجاوز الناس لعيد الفطر وانهماكهم في التعاطي مع التحولات التي أحدثتها الحرب.
ويشدد على وجود حالة كبيرة من الكساد وشح في الطلب على شراء الحلويات، وفي الصدد أشار إلى طاولة عرض خارجية ملحقة بمحله، فهي وإن كانت محتشدة بالحلوى ولكن للمرارة فهي خالية من المشترين.
وتابع أن الأمر ينسحب على مواد صناعة البسكويت والكعك التي لا تجد حظا من التداول، “وإن سجلنا حالات بيع لبعض مواد صناعة البسكويت، فإنها تأتي في سياق توفير مخزون إستراتيجي يعين على أهوال الحرب. وبدلًا من أن تلحق بالدقيق والزيت أصناف غذائية كالسمن والتوابل الحلوة، نجد العام الحالي ارتبط بمنتجات كالصلصة والمعكرونة والبصل.. إلخ”.
وخلال ربع ساعة قضيناها في المحل، توقفت عدة سيارات تحاشى أصحابها طاولة الحلوى الرابضة بالقرب من الباب، ليبدؤوا سؤال سعيد عن شراء مواد أساسية معظمها غائب عن الرفوف من جراء كثرة الطلب.
وشهدت المحال المفتوحة على قلتها ترددًا جُله من عابري الطريق إلى خارج الخرطوم، في ظل ارتفاع طفيف في الأسعار، لا يبدو أنه مستمر، خاصةً في ظل تعطل الإمدادات الغذائية.
ومن الملاحظات المهمة التي استرعت انتباهنا الصفوف أمام المخابز، والإقبال على باعة الخضراوات واللحوم، وسط قلة في المعروض، يعود ذلك لقلة الحركة وزيادة الأسعار. وعلى سبيل المثال ارتفع سعر كيلوغرام الطماطم من 300 إلى 1000 جنيه وعلى ذلك فقس (الدولار يساوي 600 جنيه في آخر تداولات بنكية سبقت اندلاع المواجهات المسلحة).
تحرك باتجاه واحد
في الشارع الرئيس بالكدرو، تلحظ توقف حركة النقل الداخلية بالخرطوم، واقتصارها على النقل بين الولايات في اتجاه واحد إلى خارج العاصمة.
وأدى توقف محطات الوقود إلى فرض زيادات على الوقود بنسبة 150% واستتبع ذلك بالضرورة زيادة في أسعار النقل والحركة.
وكان بائنا غياب أهم وسيلة نقل داخل الأحياء (التكتك)، وفرض العاملين لرسوم مضاعفة جراء لجوئهم إلى السوق السوداء.
في الأثناء، رصدنا تكدسا كبيرا للقمامة في الشارع الرئيسي من دون أي أمل لوصول مركبات نقل النفايات في وقت قريب.
إغلاق كامل
يقصد أهالي الخرطوم عادة الأسواق المركزية لشراء الملابس والإكسسوارات ومستلزمات العيد من شاكلة الأثاث والفُرش.
لكن الحرب فرضت إغلاقا تاما لأكبر سوقين في مدينة بحري (بحري وسعد قشرة)، بل إن الصور تؤكد التهام النيران لمعظم سوق بحري الذي كان أحد مراكز الاشتباكات الرئيسة.
تقول ريم محمد (ربة منزل) إن الحرب وعدم صرف أرباب الأسر لراتب شهر أبريل/نيسان أجبرهم على عدم التسوق، وخفض صناعة كعك العيد إلى الحدود الدنيا لأجل المحافظة على الدقيق وغاز الطبخ لأطول مدة ممكنة.
وتابعت -في حديثها مع الجزيرة نت- أن ذلك لن يحول دون احتفالهم بالعيد، حيث تأمل استمرار الهدوء الذي يمكنهم من أداء صلاة العيد في جماعة، وزيارة الجيران بغرض التهنئة، واستطردت “نحتاج أن نفرح”.
وتؤكد أحاديث ريم أن أهالي الكدرو وإن غابت عنهم مظاهر العيد، فهناك مهمة تنتظرهم في الفرح بالنيابة عن الأحياء الرازحة تحت رحمة القصف، وفي إخراج السعادة من قمقمها، لصرف الأحزان الناجمة عن انفجار الوضع بين الجيش وقوات الدعم السريع.